Thursday, November 11, 2010

مصر: أصنامٌ سقطت، وأصنامٌ تأبى أن تسقط




قبل أكثر من نصف قرن، أعرب المفكر والروائي البريطاني جورج أورويل عن قلقه من أن الرقابة على الإنتاج الأدبي في انجلترا بات أغلبها ذاتياً وتطوعياً، وبذلك بقيت الكثير من الحقائق والأفكار غير الشعبية طي الكتمان، دونما الحاجة لأي تدخل حكومي مباشر.

ثمة مثالان حديثان من مصر يستدعيان إلى الذاكرة حديث أورويل، وقلقه.

يتعلق المثال الأول بقيام وزير الإعلام أنس الفقي بالتطوع بوقف برنامج "ظلال وأضواء" الذي يذاع على قناة النيل للرياضة، بسبب انتقاد مقدم البرنامج علاء صادق لوزير الداخلية على خلفية أحداث الشغب التي صاحبت لقاء الأهلي المصري والترجي التونسي في البطولة الإفريقية. كان صادق قد طلب من وزير الداخلية خلال البرنامج تقديم اعتذار رسمي لفرد الأمن المدني باستاد القاهرة الذي تعرض لاعتداء وحشي من جانب الجماهير التونسية.

الغريب أن عدداً من البرامج التي تُعرض في أوقات الذروة على القنوات الرئيسية للتليفزيون المصري قد تعرضت كثيراً بالنقد لأداء الوزارات والمؤسسات الحكومية والقائمين عليها. ووصلت حدود النقد في تلك البرامج أحياناً ذرأً عالية (من ذلك مطالبة وزير التعليم السابق يسري الجمل بالاستقالة في برنامج "مصر النهاردة")، دون أن يحرك وزير الإعلام ساكناً إزاء هذه الانتقادات، أو يتطوع لمعاقبة قائليها.

أما المثال الثاني فخرج من قلب أزمة جريدة الدستور. فعندما علم السيد البدوي، أحد ملاك الجريدة، بنية هيئة تحريرها نشر مقال للدكتور محمد البرادعي عن حرب أكتوبر، انتابه القلق وطلب الاطلاع عليه قبل النشر خشية أن يكون فيه ما يسىء للقوات المسلحة، واضعاً في اعتباره كما قال سيناريو طلعت السادات، الذي حكم عليه قبل أربعة أعوام بالسجن لمدة سنة بتهمة "إهانة القوات المسلحة".

وأغلب الظن أن مقال البرادعي لو كان قد تناول بالنقد الرئيس مبارك أو السيد جمال مبارك أو الحزب الوطني لما اهتم به البدوي، أو أعاره انتباهه، فبيت القصيد هو "القوات المسلحة" والحرص على تجنب مناقشة أوضاعها أو الخوض في شئونها بالسلب.

لقد امتلأ واقعنا السياسي والصحفي في الماضي بالكثير من الأصنام، كان الاقتراب منها غير مأمون العواقب، إلا أن معظم تلك الآلهة المتوهمة سقطت غير مأسوف عليها عبر موجتين رئيسيتين. ويحسب لعهد الرئيس مبارك أن فترة الثمانينات شهدت الموجة الأولى بمباركة شخصية منه، إذ شهدت توسعاً كبيراً في هامش حرية التعبير، فصار توجيه النقد للمسئولين بما فيهم الوزراء مسموحاً على صفحات الجرائد والمجلات بما فيها تلك المملوكة للدولة. ثم بدأ النقد شيئاً فشيئاً يطال حتى رئيس الوزراء (ولا ينسى في هذا الصدد كاريكاتور "فلاح كفر الهنادوة" الذي ظهر بانتظام في صحيفة قومية مغلفاً النقد بإطار ساخر وباسم)، كما سقط في هذه الأثناء أيضاً محظور آخر، ألا وهو انتقاد الأنظمة العربية، التي تربطها علاقات طيبة بالنظام المصري. بقيت مع ذلك بعض الخطوط الحمراء راسخة وعصية على الاختراق، أهمها رئيس الجمهورية وعائلته...والأجهزة الأمنية.

الموجة الثانية التي حطمت معظم ما تبقى من أصنام مقدسة بدأت في عامي 2004 و2005، بقيادة مجموعة من الصحفيين والمفكرين المصريين الذين لم يأبهوا بتلك المقدسات الواهية، وساعدهم في ذلك بشكل غير مباشر حملة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الدبلوماسية والإعلامية لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط. لم يتبق من قائمة المحظورات بعد هذه الموجة سوى الأجهزة الأمنية، التي يبرهن المثالان المذكوران آنفاً بشكل واضح على تغول سلطانها، وهو ما يثير عدة أسئلة مهمة:

أولاً، هل يوجد أحد في مصر فوق النقد؟ وإذا كان رئيس الجمهورية – وهو رأس السلطة التنفيذية – يتعرض للنقد بشكل يومي تقريباً في كل المطبوعات الحزبية والمستقلة، بل وأغلب الظن أنه لا يمانع أغلبه، فكيف يستقيم مع ذلك أن توجد جهة أو مؤسسة تعتبر نفسها (أو يتصورها الآخرون) فوق النقد أو المساءلة. وسواء تولد ذلك الانطباع بقوة القانون أو بسطوة السلطة أو بسيف الحياء، فإن هذا الخلل في التفكير وفي العمل لا يجب أن يستمر.

أما تعبير "الجهات السيادية" الذي يستخدم عادة عند الإشارة إلى تلك الجهات فهو تعبير غامض ومطاط يحتاج إلى ترجمة، توضح ماهية تلك السيادة، وتفسر ضوابطها وحدودها. فهل السيادة المزعومة تسود فوق الدستور الذي نصت المادة 47 فيه على أن "حرية الرأى مكفولة، ولكل انسان التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير" مضيفة أن "النقد الذاتى والنقد البناء ضمان لسلامة البناء الوطني"؟

ثانياً، أي منطق أعوج يعتبر الرأي، وإن احتوى نقداً، إهانة تستوجب العقاب؟ ولماذا تُشَخصن المسائل الموضوعية، وتُحصر في نطاق إما الحب والمودة أو الكره والبغض؟

لكل المصريين مصلحة مباشرة في صلاح أحوال الوطن، بما في ذلك أجهزته الأمنية، وبسبب تلك المصلحة تصبح الإشارة إلى أماكن السلبيات ومواضع الإعوجاج واجباً لا حَقاً فحسب، ولا ينتقص ذلك أبداً من احترام تلك المؤسسات ودورها المهم في رفعة واستقرار الوطن.

وأخيراً فلنا في العالم المتقدم أسوة حسنة. فمنذ أسابيع قليلة صدر في فرنسا كتاب عنوانه "قانون الصمت داخل الشرطة" للفرنسية من أصل تونسي سهام سويد. أثار الكتاب جدلاً واسعاً، إذ فضحت فيه سويد الممارسات العنصرية لشرطة الحدود الفرنسية تجاه المهاجرين الأفارقة والعرب، والانتهاكات اللفظية والجسدية التي يتعرض لها كثير منهم. مؤلفة الكتاب، وهي شرطية بحرس الحدود عملت لأكثر من أربعة أعوام في مطار أورلي، وُصفت من قبل بعض الصحف الفرنسية "بالشرطية الشجاعة".

تُرى هل فكرت هذه "الشرطية الشجاعة" بمنطق أن هناك "جهات سيادية" لا ينبغي المساس بها أو حتى الوقوف على أحوالها؟ أم انصب تركيزها على مصلحة الوطن وحقوق كل البشر فيه، بصرف النظر عن دينهم ولونهم وديانتهم؟

د. نايل شامة


* نُشرت هذه المقالة بموقع الحوار المتمدن (بتاريخ 6 نوفمبر 2010).