Monday, September 23, 2013

الوطنية الجديدة في مصر


ما كاد الصراع السياسي في مصر يصل إلى ذروته بعزل الرئيس السابق محمد مرسي وفض اعتصامات مؤيديه حتى سادت في البلاد ملامح نسق فكري جديد، لا يرقى لمرتبة الأيديولوجية، لكن دعائمه الفكرية والنفسية المختلفة ليست جزراً منفصلة بمكن غض الطرف عن أهميتها وتداعياتها.

هذا النسق من التفكير والسلوك (الذي تدعمه توجهات النظام الجديد ويجد أرضية واسعة في الشارع والإعلام ومؤسسات الدولة) يتبنى خطاباً وطنياً شعبوياً زاعقاً، تتكاثر فيه الإشارات إلى الأمن ويقل الحديث عن السياسة، ويتغلب فيه منطق الصراع وحتمية المعادلات الصفرية على إمكانيات التعاون والإدماج، كما أنه يميل إلى استبعاد المخالفين، واصطناع الأعداء في الداخل والخارج. ويركز النسق الجديد على دور الدولة لا المجتمع، إذ يحتفي بجهود الأجهزة الأمنية (وخصوصاً المؤسسة العسكرية) في حماية الوطن من التهديدات، وينقب عن الزعامات المحتملة في صفوف العسكريين دافعاً إياها إلى صفوف القيادة. لكن رياح "الوطنية الجديدة" في مصر تنذر بعواصف وتقلبات عدة ينبغي التحوط من تداعياتها.  

فأولاً، تحيط الغيوم بماهية غايات ذلك النسق، وما إذا كانت أدواته تصب في خدمة أهداف (وطنية) عليا، أم في خدمة مصالح "نخبة حاكمة" تدافع عن مكتسباتها الخاصة. فالخطاب الحالي يمثل في جوهره آلية للانتصار في معركة سياسية آنية أكثر منه خطة واضحة المعالم لإدارة البلاد أو التخطيط للمستقبل. ومن أجل حسم الانتصار في تلك المعركة المصيرية، تستخدم المشاعر الوطنية الجياشة كوقود لماكينة سياسية وإعلامية تشرعن بلا هوادة إقصاء الآخر المنافس، تحت دعاوى التخوين والعمالة. فمثلاً شيوع تعبير "هم ليسوا مصريين" في وسائل الإعلام للإشارة إلى الإسلاميين هو المقابل الموضوعي لخطاب التكفير الذي ارتفعت وتيرته على منصة رابعة العدوية عقب عزل مرسي. كلاهما خطاب يشيطن الآخر، وينزع عنه أهلية الرأي، ومشروعية المشاركة في صوغ مستقبل البلاد، وبالتالي يوفر المبرر الأخلاقي للإقصاء على أقل تقدير، أو حتى يسوغ توظيف العنف في الصراع السياسي.

وتتماهي وسائل الإعلام الرسمية والخاصة، ومعظمها يمينى الهوى، مع توجهات وأفكار تعيد إلى الأذهان  في شكل ما البروباجاندا الفاشية التي ازدهرت في ألمانيا وإيطاليا في الثلاثينيات من القرن الماضي، من حيث تعبيرها عن الرأي الواحد، وعدم اتساعها للتيارات الفكرية والسياسية كافة التي يموج بها المجتمع، وترويجها لسيل من قصص المؤامرات والخطط السرية التي تؤكد أنها تحاك لمصر، ومن حيث ادعائها أيضاً، الظاهر أو المستتر، احتكار الحقيقة، اضافة إلى احتفائها بعسكرة الوطنية المصرية.

والمفارقة هنا أن ذلك الإقصاء الذي يتم باسم الوطنية وتحت رايتها ونشيدها يقوض أسس الوطنية الحقة التي يبشر بها، والتي تؤمن بداهة بأن جميع المواطنين سواء في وطن واحد يحتضن الجميع، ويرحب بمشاركتهم في العمل والبناء. وهو لذلك نموذج مشوه للوطنية يفرق ولا يجمع، يكرس الشقاق ولا يخدم الوفاق.

ويلاحظ أن هذا النمط من الوطنية هش وسريع الزوال، فالمشاعر المهتاجة لا تلبث أن تهدأ، واحتياجات المواطنين الأساسية لا يمكن تلبيتها لوقت طويل بالأغاني الوطنية والخطب الرنانة وأحاديث المؤامرات الخارجية. فالوطنية الجديدة التي تعتمد على تعبيرات هائمة عن الأمن القومي وتروج لمعركة ضد الإرهاب غير معروفة الحدود تختلف عن الوطنية المصرية التي نشأت لمناهضة الاحتلال البريطاني في النصف الأول من القرن العشرين، أو عن تلك التي ازدهرت أيام جمال عبد الناصر، الذي قدم مشروعاً قومياً جامعاً، تمحورت خطوطه العريضة حول تحقيق الاستقلال الوطني والتنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.  

ومن ثم فعلى الجميع إدراك حقيقة أن اكتساب ثقة وتأييد الجماهير لا يمر عبر بوابة الانتصار في معركة الإرهاب واستئصال شأفة الإخوان المسلمين، بقدر ما يتحقق بالقدرة على إحداث تغيير حقيقي في حياة المواطنين، المثقل كاهلهم بأعباء اقتصاد يترنح وخدمات متدهورة وأمن غائب. إضافة إلى ذلك، فإن تناقض بعض التوجهات الحالية مع مباديء ثورة يناير يوميء إلى حتمية اندلاع صراع جديد بين النظام وشباب الثورة، ربما يجيء أوانه حين تهدأ حدة المشاعر المعادية للإخوان، وتتضح فداحة ممارسات الأجهزة الأمنية. وقد بدأت مظاهر ذلك الصدام مع ثوار يناير بالفعل في الظهور على السطح، متمثلة في التوتر المتصاعد بين حركة 6 أبريل والنظام الحالي. 

ولا يمكن إغفال العواقب الوخيمة لذلك النسق الفكري على التماسك والسلم الاجتماعيين على المدى البعيد. إذ أن الإقصاء السياسي يوفر بيئة خصبة لإعادة إنتاج الدولة الاستبدادية، ولازدهار ثقافة مجتمعية لا تتسامح مع المختلفين، سياسياً ودينياً وطائفياً. وإن وجهت سهام الإقصاء اليوم للإسلاميين ومنتقدي الممارسات الحالية فحسب، فإن آثاره ستمتد لا ريب في المستقبل إلى كل الأقليات، خاصة أن المجتمع يعاني أصلاً من استشراء ثقافة متعصبة، تناهض الاختلاف، وتدين كل من شذ عن التيار العام، أو عرض أفكاراً وتصورات مغايرة. وما تعرضت له المرأة والمسيحيون والشيعة والبهائيون المصريون في الماضي القريب ليس بحاجة لتذكير، وأوجاع تلك الفئات تبدو مرشحة للتفاقم في ظل هيمنة المناخ الحالي.   

كما ينبغي الانتباه إلى كلفة الممارسات السلطوية التي تنبثق من هذا النسق الفكري. فالوطنية الزاعقة تركز على "العدو" وأولوية محاربته، وتجعل من الحديث عن الحقوق والحريات ترفاً يمكن إهماله، أو على الأقل تأجيله. والشاهد أن أشد التجاوزات الماسة بحقوق الإنسان في مصر حدثت أثناء صراع الدولة مع الجماعات الإرهابية في تسعينات القرن المنصرم. وفي شكل ما، تستدعى الموجة الوطنية الحالية إلى الذاكرة مكارثية الخمسينات، وأجواء الحرب الأمريكية على الإرهاب في بدايات هذا القرن. ويلاحظ تشابه المنطق ولغة الخطاب بين قادة النظام الجديد والمحافظين الجدد في أمريكا، بخاصة الشعار الأثير "من ليس معنا قهو ضدنا"، الذي جاء مضموناً لا نصاً على لسان أكثر من مسئول حالي.

يعلم الجميع أن الفاشية هي النموذج الفج لتمازج الوطنية والشوفينية والعسكرة والسلطوية. ولئن لم يتم وقف الانزلاق الحاصل في مصر باتجاه تلك النزعات الأربع، فقد نفاجأ يوماً بتحول الوطنية الجديدة إلى فاشية جديدة.    

 

د. نايل شامة

* نُشرت هذه المقالة بجريدة الحياة (بتاريخ 20 سبتمبر 2013).

 

Saturday, September 14, 2013

The Sonata of the Departed


The military funeral of the twenty-five policemen who were massacred in cold blood in Sinai was so intensely touching. The slow, dignified procession, the sad funeral dirge, the anguish of the mothers of the fallen and the tears of mourners exuded an overwhelming sense of grief. Funerals are always poignant and gloomy. They remind us of the brevity of life, the inevitability of death and the fragility of our souls. Some funerals also help us capture the immense capacity of the living to inflict injustice and death.    
Men are all equal in death, differences in status, wealth and knowledge notwithstanding. They all wind up lying under a tombstone bearing an inscribed epitaph to mark their grave.  But the way the living treat their dead is unequal. While some get solemn funerals, others are unceremoniously ditched in pit.
Some of us do not take the words of farewell they deserve after the death they did not deserve.
The "Us vs. Them" Epidemic  
This cannot be more vivid than in Egypt where, last month only, hundreds lost their lives in the country's bloody political conflict. The long distance between the glorification of some of Egypt's victims and the demonization of others speaks volumes about the deep depth of injustice to which our nation has sunk. The unfairness of it is disturbing, exposing the cracks that permeated our souls and distorted our sense of humanity. The dead have left and will never be resurrected, but the living who incited, condoned or executed the killings and then danced by the dead bodies are our partners in this nation, our fellow citizens. This is a very scary revelation.
Indeed, the worst thing happening in Egypt now may not be the killings, as brutal as they are, but rather the response of some Egyptians to the killings, oscillating between indifference and jubilation. Many Egyptians celebrated the violent dispersal of the pro-Morsi encampments in Cairo, which left hundreds dead and thousands injured. For them, it was the day of victory over the Muslim brothers, who they believe had attempted to hijack the state and alter its identity. The massacres were just collateral damage, and should not impede the partying, they said. The strongholds of their chief adversary were wiped out, its top leaders were either arrested or forced to flee to hideouts, all good reasons to be elated and optimistic. After all, it is a very ugly war against a very menacing opponent. Who in war ever mourns the fall of his enemy? This can be a valid argument, if only one sees his/her fellow Egyptians as an enemy to be overpowered, humiliated and obliterated.  
And after every round of confrontation, comes the phase of counting and dividing the dead; how many of us versus how many of them. The battle has to go on even after the guns fall silent. No weapon, argument, image or lie is spared in the quest for triumph. There is no time to pause and reflect, for the stakes are high and the cost of lethargy is massive.
The politicians of the new order (and their staunch allies in the state and media) glorify the police officers and soldiers who perished on the battlefield. Those who died on the other side of the national chasm are irrelevant, hence ignored and, if mentioned, diabolized. The stories of their death would expose our side's practices and jeopardize our narrative, the non-Islamists reason. And what do the Islamists do? They, likewise, honor their victims, the martyrs, and diabolize the others' victims.             
Death in Egypt has become a statistic, a soulless figure announced every evening by the authorities. On a less violent day, when fewer than, say, ten people lose their lives in street battles, people heave a sigh of relief. "It could’ve been worse," Egyptians would murmur contentedly. With the increasing number of casualties, they have even begun wondering about which civil war ours will emulate: Will Egypt follow in the footsteps of Lebanon, Algeria or Syria? The possibilities are no longer between good and bad, but rather between bad, worse and worst. Gone are the dreams that hovered in our skies on February 11, 2011, when we built castles in the air and overlooked the misery encircling us on the ground. Our hearts fooled our minds. We were so naïve.
Murder without Remorse   
Whatever happened to this nation? Egyptians have long been known for their patience and warmth, not for stolidity and cruelty. So when did we acquire this toxic mélange of callousness and apathy? Why have we allowed our political and ideological differences to overshadow what we have in common? And, more importantly, where are these destructive ill-feelings leading us?
To nurture both the soil and the soul, ancient Egyptians treated the river and the dead with reverence. They believed there was life after life; death was a bridge to eternity. They turned tombs into giant pyramids and considered funerals and burials to be sacred processions. The spread of Islam in Egypt reinforced Egyptians' belief in the sanctity of life. Bloodshed is a more serious sin than the demolition of the Kaaba shrine, Prophet Muhammad said.
But something tremendously awful has permeated our souls in recent years, undermining respect for both the living and the dead. In the good old days, a dispute between two arguing men could be cooled down if a third party intervened, invoking the disputants to recite their "blessings on the Prophet." Today, scenes of raging crowds who kill innocents, mutilate dead bodies, or burn churches, as they chant "God is great," are not uncommon. Suffice it to take a close look at the footage of the killing of four Egyptian Shias last June in a village in Giza. While the victims were beaten to death with sticks by a hostile mob, the audience witnessing the savage crime yelled and cursed; no one intervened to prevent the lynching. Everyone in the scene appeared nonchalant about the heartbreaking screams of the victims.
The French novelist Drieu La Rochelle, writing in the 1930s, lamented that “the only way to love France today is to hate it in its present form.” Just substitute France with Egypt, and the sentence would make perfect sense. It is painful, but couldn’t be truer.   

Nael M. Shama

* This article appeared first on the Egypt Monocle on September 6, 2013.