Thursday, August 26, 2021

ويحدثونك عن الدكر


            في معرض رصده الدقيق للتغيرات الاجتماعية والثقافية العارمة التي مر بها المجتمع المصري في أتون النصف الثاني من القرن العشرين، أشار الدكتور جلال أمين في كتابه الشهير "ماذا حدث للمصريين" (1998م) عرضاً إلى لفظة عامية شائعة صارت تقال كثيراً في غير سياقها وللإشارة إلى مدلول مختلف. الكلمة هي "ريّس" التي كانت تستخدم من قبل للإشارة إلى المراكبي (فيقال "ريّس مراكبي") أو الحرفيين على اختلاف تخصصاتهم، ثم صارت بعد أن انقلبت أحوال المجتمع رأساً على عقب تستعمل على نطاق واسع للإشارة إلى رئيس الجمهورية، فيقال مثلاً "الريّس جمال" أو "الريّس السادات".

            مسيرة الكلمة من استخدامها كنية لبسطاء الناس إلى اعتمادها لقباً لصاحب أرفع منصب في الدولة أرجعها أمين إلى الخلخلة الشديدة التي تعرض لها السلم الاجتماعي للبلاد، بعد أن هرولت عليه بعض الطبقات صعوداً وانزلق من عليه بعضها  الآخر هبوطاً. اللغة إذن من حيث التعريف ظاهرة اجتماعية، وهي بالتالي ليست ثابتة ولا محايدة، بل هي تعبير كاشف عما يعتمل في أحشاء المجتمع، سياسياً واقتصادياً وثقافياً. بالفعل، سيبدو الآن غريباً، أو حتى طريفاً، تخيل أن يستعمل أحد المصريين في ثلاثينات أو أربعينات القرن الماضي كلمة "ريّس" للإيماء إلى شخص الملك فاروق أو رئيس الوزراء مصطفى النحاس أو غيرهما من كبار السياسيين والبورجوازيين في البلاد. 

            في الزمن المعاصر، وعلى نفس منوال تحول مدلولات اللغة في إثر التغيرات الاجتماعية، لا يمكن للمتابع ثاقب النظرة لحركة المجتمع المصري ألا يلحظ ذلك الصعود ثم الانتشار الواسع لكلمة أو وصف "دكر"، لاسيما في السنوات الأخيرة. في المحادثات الشخصية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي وفي الأعمال الدرامية، تقال الكلمة مراراً على سبيل الإشادة والثناء. وكما هو واضح من تأمل السياقات والحالات، يكتسب المرء "شرف" اللقب إذا ما ارتأى الآخرون أن سلوكه في محيطه الاجتماعي يرتقي لنيل ذلك الإطراء الواضح.

            لكن ما دلالة ذلك التطور اللغوي؟ وكيف يمكن قراءته في ضوء الأوضاع الراهنة للمجتمع المصري؟

            بادئ ذي بدء، ومن ناحية الشكل، لا يخفى على أحد ثقل الشحنة الذكورية التي تفيض بها الكلمة. فلفظة "دكر" كما هو واضح هي الكلمة العامية المقابلة لكلمة "ذكر" في العربية الفصحى. للوهلة الأولى، وبالنسبة لمن لا يقرأون بين سطور الثقافة المحلية، قد لا يتعدى الأمر نطاق الترجمة المباشرة والمحايدة، فتبدو الكلمة مجرد إشارة إلى نوع الجنس (ذكر مقابل أنثى). لكن الذكورية المتأصلة في مجتمعنا كانت قد تسللت إلى ساحة اللغة وأقامت فيها صرحاً وبنياناً، إذ دأبت كثرة كاثرة من الناس على الربط من خلال اللغة بين الرجولة ومجموعة من القيم الإيجابية، وكذلك الربط بين الأنوثة ومجموعة من القيم السلبية. ولا يقتصر الآمر على اعتبار الرجولة مرادفاً للشهامة والنخوة والعنفوان وما إلى ذلك من مناقب، بل يشمل أيضاً الإيغال في الربط بين هذه القيم والأعضاء التناسلية الذكرية، خاصة إسباغ صفات مثل الإقدام والبأس والنشاط على العشو الذكري، مقابل المضاهاة بين الأعضاء التناسلية الأنثوية ومعان أخرى مذمومة مثل الاستكانة والخنوع والنجاسة.

            كذلك لا ريب أن الكلمة محل النظر ليست لحناً منفرداً في معزوفة هامشية منفصلة، وإنما تعد جزءاً من كل، فهي متسقة مع حالة السوقية العامة الناشبة مخالب من غضب وضجيج وهمجية في أضلع المجتمع. ومن اللافت، والمؤسف في نفس الوقت، أن تلك السوقية، وإن فاض نهرها العطن - الطافح بالذكورية والعنصرية والعنف - ابتداءً من أسفل لأعلى مع الحراك الاجتماعي، إلا أنها لم تعد تقتصر على الطبقات الدنيا أو الأقل تعليماً وثقافة، بل امتدت عبر جميع الطبقات في تناغم شبه تام.  

            لكن بعيداً عن الشكل وما ينطق به، تختزن كلمة "دكر" بين ظهرانيها دلالة أعمق من ذلك، إذ يبدو أن لشعبيتها المتنامية علاقة مباشرة بقضيتي القانون والعنف وحالتهما العامة في البلاد. للولوج إلى مناقشة ذلك بقدر من الاستفاضة، ينبغي اولاً طرح سؤال مبدأي: ما مفهوم كلمة "دكر" في الاستخدام الشعبي المعاصر في مصر؟ والواقع أن المرء لا يحتاج إلى كثير من الفطنة أو قوة الملاحظة ليدرك مدلول الكلمة في أعين المتلفظين بها، إذ يكفي أن يتأمل مواضع استخدامها وهويات الموصوفين بها - ومنهم شخصيات عامة اقتاتت شهرتها على موائد السياسة والإعلام والرياضة في العقود الأخيرة - حتى يتيقن من عدة أمور.

            أول تلك الأمور وأكثرها جلاءً هو أن الكلمة محل التأمل تستخدم وصفاً للرجل "القوي"، أو بالأحرى من يتصور القائل أنه يتمتع بالقوة والشدة. القوة بالطبع مفهوم شائك ومتعدد الأوجه والتفسيرات، لكنها هنا يقيناً لا تعني قوة التحمل أو قوة الصبر أو قوة الإيمان، بل القوة في صورتها البدائية، بكل ما يرتبط بها من خشونة وفجاجة. لذا، فالدكر في أغلب الأحوال هو من يعتمد الغلظة سلاحاً والعنف اللفظي (بما فيه البذاءة وطول اللسان) منهجاً، يرهب بهما خصومه ويجتذب إعجاب مناصريه! إذن، القوة المقصودة هنا ترتبط بقدر من الشراسة والفظاظة، وأصحابها لا ينفكون عن إسماع الاخرين قعقعة سيوفهم وحمحمة خيولهم لإثبات حضورهم وفرض سطوتهم.

            لا ريب أن لهذا السلوك في جوهره صلة مباشرة بوضع ومكانة القانون في المجتمع. ففي غياب القانون أو ضعف تطبيقه، فضلاً عن سقوط هيبته واحترام الناس له، لا تكمن القيمة المجتمعية الأعلى في احترام القانون، ولا يمتدح الشخص الصالح لإنه مواطن ممتثل للقانون (law-abiding citizen كما يقال في المجتمعات ذات الأنظمة الديمقراطية الراسخة، بل على النقيض من ذلك، تكمن القيمة - والشطارة - في القدرة على المناورة والالتفاف على القانون، ذوداً عن النفس أو انتزاعاً للحقوق أو فرضاً للذات. والواقع أنه بعد مرور زمن مديد من رسوخ هذه الأوضاع المختلة، لا يصبح الالتفاف على القانون مجرد ضرورة يلجأ إليها البعض اضطراراً وعلى مضض، بل يغدو ممارسة اعتيادية يتباهى بها الناس ويسعدون، بل يتطوعون بحماسة لمعاونة بعضهم البعض عليها. على سبيل المثال، يعرف مرتادو الطرق الزراعية السريعة في مصر جيداً كيف يبادر قائدو المركبات إلى استخدام وميض مصابيح سياراتهم لتحذير أقرانهم القادمين في الاتجاه المعاكس من وجود أماكن رادارات السرعة في مكان قريب.

            وسواء بالإرشاد المباشر أو الإدراك غير المباشر، يتعلم الذكر المصري تلك الديناميات منذ أن يعي الدنيا من حوله في سنوات المراهقة الأولى. يعرف سريعاً أن المجتمع حلبة صراع لا مضمار تعاون، وأن القانون لا يشفع دائماً، وأن ركوب أمواج الحياة في هذا المجتمع يستلزم أمرين: زيادة عدد الأصدقاء والمعارف؛ وتنمية حس الدعابة. كثرة الأصدقاء، أو ما يسمى "العزوة"، توفر طبقة من الحماية يمكن التعويل عليها في حال الدخول في مشاجرات، وهي لذلك من الآليات المطلوبة لحفظ النفس في ظل عدم جدوى الاعتماد على القانون لتسوية المنازعات. ثم أن توسيع شبكة المعارف مفيد أيضاً لتيسير العديد من الأمور الضرورية، مثل الحصول على وظيفة ما وإنجاز المعاملات الحكومية وما إلى ذلك. هنا، ولأن تلك الممارسة صارت قيمة اجتماعية، فقد وجدت لها انعكاساً جلياً في اللغة، إذ يقال على سبيل تقريظ شخص ما أنه "يعرف طوب الأرض" أو أن "حبايبه كتير"، أو أنه يعرف زرافات من الناس في مواقع مختلفة يحبون أن "يخدموا".

            أما التمكن من حس الدعابة ومهارة إطلاق النكات وقول "القفشات" فآليات أخرى ناجعة يمكن التعويل عليها لاستمالة القلوب واستجلاب المنافع، ومن ثم تأمين الحصول على خدمة أفضل وأسرع في الأماكن العامة كالمصالح الحكومية والمطاعم والمقاهي. هي مرة أخرى وسيلة التفافية في مجتمع ما عادت أموره تمضي في خط مستقيم واضح، فأجبر أهله على اتقان فنون المراوغة والمناورة والمداورة للوصول إلى أهدافهم، كما نرى بشكل مجسد فيما آلت إليه "فنون" قيادة السيارات في شوارع القاهرة المنهمرة ازدحاماً وفوضى.

            يقول عالم الاجتماع ذائع الصيت بيتيريم سوروكين في كتابه "الديناميات الاجتماعية والثقافية" أن الفئات الدنيا والريفية الأقل تحضراً تحاكي الطبقات العليا المتمدينة والأكثر تحضراً في عصور الثبات الاجتماعي بينما يحدث العكس في فترات الحراك الاجتماعي. ولا جدال في أن الكلمة محل التأمل بنت عمليات الصعود الاجتماعي للطبقات المتواضعة منذ أن دارت الأرض دوراتها في مصر مع انفتاح السبعينات وعولمة التسعينات. وكما أن الأخلاق السائدة هي أخلاق السائدين، والقيم السائدة هي قيم السائدين، فكذلك اللغة السائدة هي تعبير عن لغة ومفردات وثقافة السائدين، الصاعدين بلهفة درجات السلم الاجتماعي، الفارضين وجودهم الثرثار في كل محفل، الناشرين ثقافتهم الرثة، بكل ما تنطوي عليه من قيم لاحداثية، في كل واد.

            هكذا، ولأن الفراغات تظما إلى ما يملؤها، فبعد ردح من الدهر على غروب شمس القانون، يشيع الاعتماد على القوة، أو الإيحاء بامتلاكها، كما نرى في كلمات التهديد والوعيد التي تنطلق من أفواه الناس كالرصاص لدى نشوب أصغر خلاف (وخصوصاً التعبير الأشهر: "أنت مش عارف أنا مين؟"). ثم، شيئاً فشيئاً، يسري بين صفوف بعض الناس، عوامهم ومثقفيهم على السواء، قدر من الإعجاب - المستتر أو الظاهر - بالقوة في حد ذاتها. بعبارة أخرى، لا تعد القوة مجرد خيار يلجأ إليه الناس مكرهين، بل اختيار يتماهون معه معجبين. وحسبنا في هذا المقام مثالان دالان من السنوات الأخيرة، فقد خرج علينا أحد المثقفين مطالباً بتطبيق "الحل البرازيلي" مع أطفال الشوارع، والمقصود تشكيل فرق للموت بغية تصفيتهم والتخلص من صداعهم؛ كما دعا مثقف آخر مرموق إلى تشكيل ميليشيات سرية لتصفية القتلة والمخربين بعيداً عن مظلة القانون وضماناته. يأتي في الإطار نفسه الإعجاب بشخصيات دموية مثل بوتين وهتلر (الذي أثني عليه رئيس مجلس النواب المصري السابق)، وكذلك ما شهدناه في السنين الفائتة من دعوة قطاعات واسعة من الشعب لاستخدام العنف والتصفية الجسدية كحل لإشكالات سياسية واجتماعية، أيضاً على خلفيات التهليل "للدكر" الذي سيقتل ويفرم ويكتسح.

            لكن المفارقة المريرة في كل ما تقدم أنه فيما يسعى الأفراد إلى تعزيز قوتهم الشخصية، محاولين تقمص شخصية "الدكر" الصنديد، يغشى العجز الأمة بأكملها، وهو عجز متعدد الأوجه ومنبسط عبر الزمن: عجز عن توفير متطلبات العيش الكريم، وعجز عن ردم الهوة مع الآخر المتفوق علينا علمياً وتكنولوجياً، وعجز عن ردع اسرائيل، وعجز عن فراق العصور العتيقة واعتناق الحداثة، وعجز عن رؤية المجد الكاذب في مرايا التاريخ والواقع. فمرحى للأشاوس المغاوير انتشاءهم بخمر الذكورة المغشوشة، "بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة"؛ وواسفاه على وطن عاقر فيه الرعد لا يعقبه مطر؛ وطن جفت غدرانه في فلوات الوهن وقلة الحيلة.

            يبقى أن كل ذلك في التحليل الأخير منبت الصلة بمفهوم الوطن وماهيته. لا جدال في أن ثمة وطن حيث يشعر الإنسان بالأمان والاطمئنان، والأمان في الدولة الحديثة منوط بتطبيق عادل ومنهجي وكفء للقانون على كل المواطنين على حد سواء. وفي المقابل، ثمة شبه وطن حيث القانون أعجف كشجرة نحيلة الاغصان؛ وحيث الغربة الواجمة مصير كل عاقل يمتطى فجيعة أمته؛ وحيث الآخرون سادرون في غي "الدكر" وأوهامه.

 

د. نايل شامة

 

* نشر هذا المقال على موقع "جيم" بتاريخ 26 أغسطس 2021م.