Thursday, August 26, 2021

ويحدثونك عن الدكر


            في معرض رصده الدقيق للتغيرات الاجتماعية والثقافية العارمة التي مر بها المجتمع المصري في أتون النصف الثاني من القرن العشرين، أشار الدكتور جلال أمين في كتابه الشهير "ماذا حدث للمصريين" (1998م) عرضاً إلى لفظة عامية شائعة صارت تقال كثيراً في غير سياقها وللإشارة إلى مدلول مختلف. الكلمة هي "ريّس" التي كانت تستخدم من قبل للإشارة إلى المراكبي (فيقال "ريّس مراكبي") أو الحرفيين على اختلاف تخصصاتهم، ثم صارت بعد أن انقلبت أحوال المجتمع رأساً على عقب تستعمل على نطاق واسع للإشارة إلى رئيس الجمهورية، فيقال مثلاً "الريّس جمال" أو "الريّس السادات".

            مسيرة الكلمة من استخدامها كنية لبسطاء الناس إلى اعتمادها لقباً لصاحب أرفع منصب في الدولة أرجعها أمين إلى الخلخلة الشديدة التي تعرض لها السلم الاجتماعي للبلاد، بعد أن هرولت عليه بعض الطبقات صعوداً وانزلق من عليه بعضها  الآخر هبوطاً. اللغة إذن من حيث التعريف ظاهرة اجتماعية، وهي بالتالي ليست ثابتة ولا محايدة، بل هي تعبير كاشف عما يعتمل في أحشاء المجتمع، سياسياً واقتصادياً وثقافياً. بالفعل، سيبدو الآن غريباً، أو حتى طريفاً، تخيل أن يستعمل أحد المصريين في ثلاثينات أو أربعينات القرن الماضي كلمة "ريّس" للإيماء إلى شخص الملك فاروق أو رئيس الوزراء مصطفى النحاس أو غيرهما من كبار السياسيين والبورجوازيين في البلاد. 

            في الزمن المعاصر، وعلى نفس منوال تحول مدلولات اللغة في إثر التغيرات الاجتماعية، لا يمكن للمتابع ثاقب النظرة لحركة المجتمع المصري ألا يلحظ ذلك الصعود ثم الانتشار الواسع لكلمة أو وصف "دكر"، لاسيما في السنوات الأخيرة. في المحادثات الشخصية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي وفي الأعمال الدرامية، تقال الكلمة مراراً على سبيل الإشادة والثناء. وكما هو واضح من تأمل السياقات والحالات، يكتسب المرء "شرف" اللقب إذا ما ارتأى الآخرون أن سلوكه في محيطه الاجتماعي يرتقي لنيل ذلك الإطراء الواضح.

            لكن ما دلالة ذلك التطور اللغوي؟ وكيف يمكن قراءته في ضوء الأوضاع الراهنة للمجتمع المصري؟

            بادئ ذي بدء، ومن ناحية الشكل، لا يخفى على أحد ثقل الشحنة الذكورية التي تفيض بها الكلمة. فلفظة "دكر" كما هو واضح هي الكلمة العامية المقابلة لكلمة "ذكر" في العربية الفصحى. للوهلة الأولى، وبالنسبة لمن لا يقرأون بين سطور الثقافة المحلية، قد لا يتعدى الأمر نطاق الترجمة المباشرة والمحايدة، فتبدو الكلمة مجرد إشارة إلى نوع الجنس (ذكر مقابل أنثى). لكن الذكورية المتأصلة في مجتمعنا كانت قد تسللت إلى ساحة اللغة وأقامت فيها صرحاً وبنياناً، إذ دأبت كثرة كاثرة من الناس على الربط من خلال اللغة بين الرجولة ومجموعة من القيم الإيجابية، وكذلك الربط بين الأنوثة ومجموعة من القيم السلبية. ولا يقتصر الآمر على اعتبار الرجولة مرادفاً للشهامة والنخوة والعنفوان وما إلى ذلك من مناقب، بل يشمل أيضاً الإيغال في الربط بين هذه القيم والأعضاء التناسلية الذكرية، خاصة إسباغ صفات مثل الإقدام والبأس والنشاط على العشو الذكري، مقابل المضاهاة بين الأعضاء التناسلية الأنثوية ومعان أخرى مذمومة مثل الاستكانة والخنوع والنجاسة.

            كذلك لا ريب أن الكلمة محل النظر ليست لحناً منفرداً في معزوفة هامشية منفصلة، وإنما تعد جزءاً من كل، فهي متسقة مع حالة السوقية العامة الناشبة مخالب من غضب وضجيج وهمجية في أضلع المجتمع. ومن اللافت، والمؤسف في نفس الوقت، أن تلك السوقية، وإن فاض نهرها العطن - الطافح بالذكورية والعنصرية والعنف - ابتداءً من أسفل لأعلى مع الحراك الاجتماعي، إلا أنها لم تعد تقتصر على الطبقات الدنيا أو الأقل تعليماً وثقافة، بل امتدت عبر جميع الطبقات في تناغم شبه تام.  

            لكن بعيداً عن الشكل وما ينطق به، تختزن كلمة "دكر" بين ظهرانيها دلالة أعمق من ذلك، إذ يبدو أن لشعبيتها المتنامية علاقة مباشرة بقضيتي القانون والعنف وحالتهما العامة في البلاد. للولوج إلى مناقشة ذلك بقدر من الاستفاضة، ينبغي اولاً طرح سؤال مبدأي: ما مفهوم كلمة "دكر" في الاستخدام الشعبي المعاصر في مصر؟ والواقع أن المرء لا يحتاج إلى كثير من الفطنة أو قوة الملاحظة ليدرك مدلول الكلمة في أعين المتلفظين بها، إذ يكفي أن يتأمل مواضع استخدامها وهويات الموصوفين بها - ومنهم شخصيات عامة اقتاتت شهرتها على موائد السياسة والإعلام والرياضة في العقود الأخيرة - حتى يتيقن من عدة أمور.

            أول تلك الأمور وأكثرها جلاءً هو أن الكلمة محل التأمل تستخدم وصفاً للرجل "القوي"، أو بالأحرى من يتصور القائل أنه يتمتع بالقوة والشدة. القوة بالطبع مفهوم شائك ومتعدد الأوجه والتفسيرات، لكنها هنا يقيناً لا تعني قوة التحمل أو قوة الصبر أو قوة الإيمان، بل القوة في صورتها البدائية، بكل ما يرتبط بها من خشونة وفجاجة. لذا، فالدكر في أغلب الأحوال هو من يعتمد الغلظة سلاحاً والعنف اللفظي (بما فيه البذاءة وطول اللسان) منهجاً، يرهب بهما خصومه ويجتذب إعجاب مناصريه! إذن، القوة المقصودة هنا ترتبط بقدر من الشراسة والفظاظة، وأصحابها لا ينفكون عن إسماع الاخرين قعقعة سيوفهم وحمحمة خيولهم لإثبات حضورهم وفرض سطوتهم.

            لا ريب أن لهذا السلوك في جوهره صلة مباشرة بوضع ومكانة القانون في المجتمع. ففي غياب القانون أو ضعف تطبيقه، فضلاً عن سقوط هيبته واحترام الناس له، لا تكمن القيمة المجتمعية الأعلى في احترام القانون، ولا يمتدح الشخص الصالح لإنه مواطن ممتثل للقانون (law-abiding citizen كما يقال في المجتمعات ذات الأنظمة الديمقراطية الراسخة، بل على النقيض من ذلك، تكمن القيمة - والشطارة - في القدرة على المناورة والالتفاف على القانون، ذوداً عن النفس أو انتزاعاً للحقوق أو فرضاً للذات. والواقع أنه بعد مرور زمن مديد من رسوخ هذه الأوضاع المختلة، لا يصبح الالتفاف على القانون مجرد ضرورة يلجأ إليها البعض اضطراراً وعلى مضض، بل يغدو ممارسة اعتيادية يتباهى بها الناس ويسعدون، بل يتطوعون بحماسة لمعاونة بعضهم البعض عليها. على سبيل المثال، يعرف مرتادو الطرق الزراعية السريعة في مصر جيداً كيف يبادر قائدو المركبات إلى استخدام وميض مصابيح سياراتهم لتحذير أقرانهم القادمين في الاتجاه المعاكس من وجود أماكن رادارات السرعة في مكان قريب.

            وسواء بالإرشاد المباشر أو الإدراك غير المباشر، يتعلم الذكر المصري تلك الديناميات منذ أن يعي الدنيا من حوله في سنوات المراهقة الأولى. يعرف سريعاً أن المجتمع حلبة صراع لا مضمار تعاون، وأن القانون لا يشفع دائماً، وأن ركوب أمواج الحياة في هذا المجتمع يستلزم أمرين: زيادة عدد الأصدقاء والمعارف؛ وتنمية حس الدعابة. كثرة الأصدقاء، أو ما يسمى "العزوة"، توفر طبقة من الحماية يمكن التعويل عليها في حال الدخول في مشاجرات، وهي لذلك من الآليات المطلوبة لحفظ النفس في ظل عدم جدوى الاعتماد على القانون لتسوية المنازعات. ثم أن توسيع شبكة المعارف مفيد أيضاً لتيسير العديد من الأمور الضرورية، مثل الحصول على وظيفة ما وإنجاز المعاملات الحكومية وما إلى ذلك. هنا، ولأن تلك الممارسة صارت قيمة اجتماعية، فقد وجدت لها انعكاساً جلياً في اللغة، إذ يقال على سبيل تقريظ شخص ما أنه "يعرف طوب الأرض" أو أن "حبايبه كتير"، أو أنه يعرف زرافات من الناس في مواقع مختلفة يحبون أن "يخدموا".

            أما التمكن من حس الدعابة ومهارة إطلاق النكات وقول "القفشات" فآليات أخرى ناجعة يمكن التعويل عليها لاستمالة القلوب واستجلاب المنافع، ومن ثم تأمين الحصول على خدمة أفضل وأسرع في الأماكن العامة كالمصالح الحكومية والمطاعم والمقاهي. هي مرة أخرى وسيلة التفافية في مجتمع ما عادت أموره تمضي في خط مستقيم واضح، فأجبر أهله على اتقان فنون المراوغة والمناورة والمداورة للوصول إلى أهدافهم، كما نرى بشكل مجسد فيما آلت إليه "فنون" قيادة السيارات في شوارع القاهرة المنهمرة ازدحاماً وفوضى.

            يقول عالم الاجتماع ذائع الصيت بيتيريم سوروكين في كتابه "الديناميات الاجتماعية والثقافية" أن الفئات الدنيا والريفية الأقل تحضراً تحاكي الطبقات العليا المتمدينة والأكثر تحضراً في عصور الثبات الاجتماعي بينما يحدث العكس في فترات الحراك الاجتماعي. ولا جدال في أن الكلمة محل التأمل بنت عمليات الصعود الاجتماعي للطبقات المتواضعة منذ أن دارت الأرض دوراتها في مصر مع انفتاح السبعينات وعولمة التسعينات. وكما أن الأخلاق السائدة هي أخلاق السائدين، والقيم السائدة هي قيم السائدين، فكذلك اللغة السائدة هي تعبير عن لغة ومفردات وثقافة السائدين، الصاعدين بلهفة درجات السلم الاجتماعي، الفارضين وجودهم الثرثار في كل محفل، الناشرين ثقافتهم الرثة، بكل ما تنطوي عليه من قيم لاحداثية، في كل واد.

            هكذا، ولأن الفراغات تظما إلى ما يملؤها، فبعد ردح من الدهر على غروب شمس القانون، يشيع الاعتماد على القوة، أو الإيحاء بامتلاكها، كما نرى في كلمات التهديد والوعيد التي تنطلق من أفواه الناس كالرصاص لدى نشوب أصغر خلاف (وخصوصاً التعبير الأشهر: "أنت مش عارف أنا مين؟"). ثم، شيئاً فشيئاً، يسري بين صفوف بعض الناس، عوامهم ومثقفيهم على السواء، قدر من الإعجاب - المستتر أو الظاهر - بالقوة في حد ذاتها. بعبارة أخرى، لا تعد القوة مجرد خيار يلجأ إليه الناس مكرهين، بل اختيار يتماهون معه معجبين. وحسبنا في هذا المقام مثالان دالان من السنوات الأخيرة، فقد خرج علينا أحد المثقفين مطالباً بتطبيق "الحل البرازيلي" مع أطفال الشوارع، والمقصود تشكيل فرق للموت بغية تصفيتهم والتخلص من صداعهم؛ كما دعا مثقف آخر مرموق إلى تشكيل ميليشيات سرية لتصفية القتلة والمخربين بعيداً عن مظلة القانون وضماناته. يأتي في الإطار نفسه الإعجاب بشخصيات دموية مثل بوتين وهتلر (الذي أثني عليه رئيس مجلس النواب المصري السابق)، وكذلك ما شهدناه في السنين الفائتة من دعوة قطاعات واسعة من الشعب لاستخدام العنف والتصفية الجسدية كحل لإشكالات سياسية واجتماعية، أيضاً على خلفيات التهليل "للدكر" الذي سيقتل ويفرم ويكتسح.

            لكن المفارقة المريرة في كل ما تقدم أنه فيما يسعى الأفراد إلى تعزيز قوتهم الشخصية، محاولين تقمص شخصية "الدكر" الصنديد، يغشى العجز الأمة بأكملها، وهو عجز متعدد الأوجه ومنبسط عبر الزمن: عجز عن توفير متطلبات العيش الكريم، وعجز عن ردم الهوة مع الآخر المتفوق علينا علمياً وتكنولوجياً، وعجز عن ردع اسرائيل، وعجز عن فراق العصور العتيقة واعتناق الحداثة، وعجز عن رؤية المجد الكاذب في مرايا التاريخ والواقع. فمرحى للأشاوس المغاوير انتشاءهم بخمر الذكورة المغشوشة، "بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة"؛ وواسفاه على وطن عاقر فيه الرعد لا يعقبه مطر؛ وطن جفت غدرانه في فلوات الوهن وقلة الحيلة.

            يبقى أن كل ذلك في التحليل الأخير منبت الصلة بمفهوم الوطن وماهيته. لا جدال في أن ثمة وطن حيث يشعر الإنسان بالأمان والاطمئنان، والأمان في الدولة الحديثة منوط بتطبيق عادل ومنهجي وكفء للقانون على كل المواطنين على حد سواء. وفي المقابل، ثمة شبه وطن حيث القانون أعجف كشجرة نحيلة الاغصان؛ وحيث الغربة الواجمة مصير كل عاقل يمتطى فجيعة أمته؛ وحيث الآخرون سادرون في غي "الدكر" وأوهامه.

 

د. نايل شامة

 

* نشر هذا المقال على موقع "جيم" بتاريخ 26 أغسطس 2021م.

Thursday, April 15, 2021

Does Politics Vanish? Insights from Syria

Syrian President Bashar al-Assad appears to have triumphed. He remains in power, the Syrian conflict is nearly over, and efforts are underway in the Arab world to normalize relations with his regime. Yet, while the level of violence may have gone down after ten years of destruction, can one say that Assad has changed his method of ruling? Has Syria’s experience altered his views about the essence of politics?

To answer those questions, we must recall what happened at the beginning of the Arab uprisings. In early 2011, even after massive social mobilization had overthrown two longstanding strongmen in the span of a few weeks, Assad stated that those events had no relevance for Syria. He told the Wall Street Journal that “Syria was stable.” Referring to what had happened in Tunisia and Egypt, the president remarked that his country was “outside of this.”

A few weeks later, revolution came banging on Bashar’s door, revealing how out of touch with reality he had been. A decade on, it is still legitimate to ask why the Syrian dictator overlooked the harbingers of his own vulnerability. Three mechanisms explain this disconnect.

I.  Speak, so that I may see you. The first was that the Assad family was myopic about the fact that excessive control reduced its exposure to the true workings of Syrian society, hindering its foresight. Politics is a dynamic process that involves expression, negotiation, and conflict. By 2011, the Assad regime had established a ‘controlocracy,’ a tight and elaborate system of control, with tentacles throughout society. In having tightened its grip on power structures, security agencies, political parties, and public space, the regime had placed nearly all visible aspects of politics under its stringent authority.

The problem with this is that the Assads failed to realize that by placing politics in a straightjacket, they pushed it into murkier recesses, so that political opinion and contestation shifted from party politics, parliamentary debates, and media outlets into private conversations and subtle forms of dissent. Small facts speak to large issues—“winks to epistemology or sheep raids to revolution,” as the cultural anthropologist Clifford Geertz once wrote. Under the Assads, ellipses of speech, allegorical phrases, nods of desperation, exhalations of anger, or even silence, spoke volumes about what was rankling in the hearts of people.

From the People’s Palace, a hilltop fortress sitting perched on Mount Mezzeh overlooking the enduring city of Damascus, Bashar al-Assad saw a different picture. Silence implied loyalty, self-censorship consent. The uprising in March 2011 showed how deeply he had misread reality.

II. Private Truths, Public Lies. Not only had Syrians concealed their true preferences in response to political pressures, they also feigned many of their reactions and support for the regime. Economist Timur Kuran has called this “preference falsification” in his 1995 book Private Truths, Public Lies. Privately, this may mean faking a smile or compliment in a social gathering. Under authoritarian regimes, however, the practice is more consequential.

It is telling that for both those who supported the Assads and their critics, fear was the Syrian regime’s trademark. While critics called it a “republic of fear,” the regime was fond of upholding the notion of “the prestige of the state,” or haybat al-dawla, albeit blended with awe and dread. Between 1970 and 2011, the politics of terror had been institutionalized in Syria. In the thick of fear, people acquired a knack for survival. They would bend with the wind, withdraw into their shells, go into mental exile, or simulate devotion.

An astute poet from the early Islamic era, Abu al-Atahiya, stated it well: “If life narrows on you, silence is wider.” And so a spiral of silence pervaded Syria before 2011. Yet, silence is more often a mark of patience than a sign of fidelity. Nor, because it is essentially a burden, does it last eternally.

Rather than reading between the lines of silence, the Assad regime had been busy constructing a personality cult around its leader and craving eternal rule: “Assad forever,” or “Al-Assad ila al-abad,” was its favorite slogan. However, it took no great insight to see that sycophancy had bred arrogance.

III. Caged Behind the Walls of Time. Time widens the disparity between reality and fantasy. The Assad regime suffered from its longevity, so that time had effectively encaged it. Often, the longer an autocrat stays in power, the greater his propensity to rely on a small coterie of confidants who share his opinions and delusions. The leader’s inner sanctum limits his exposure, so that reality becomes “like a night in which all cows are black,” as the German philosopher Hegel put it.

By early 2011, the Assads, Hafez and Bashar, had spent 40 years in an ivory tower. A former advisor to Bashar observed that the president “lives in a cocoon.” In fact, Bashar was probably never fully aware of the inner workings of his own state organs, particularly the unbridled security agencies. Becoming a family heirloom had turned the Syrian state into a compartmentalized dictatorship in which a shadow state had emerged, personal fiefdoms had proliferated and public institutions had been emptied of all relevance.

However deep the wounds of the Syrian conflict, the lessons of its outbreak should not be lost on anyone. The Syrian uprising took the dictator by surprise, stripped him of his aura, and demonstrated that politics could not be eliminated or forever buried. If the regime repeats its mistakes after the uprising’s conclusion, then the dark events of the past decade will reappear again.

 

Nael Shama

* This article appeared first in Diwan (Carnegie Middle East Center) on April 15, 2021.

Thursday, February 18, 2021

لغتنا الجميلة .. لغتنا الفاسدة

 

          حين سئل الفيلسوف الصيني الكبير كونفوشيوس قبل ألفي وخمسمائة عام عما كان سيفعل لو كان حاكماً للبلاد، أجاب بوضوح وحسم: سأصلح اللغة. واستطرد موضحاً: إذا كانت اللغة غير سليمة، فإن ما يقال ليس ما هو مقصود، وإذا كان ما يقال ليس ما هو مقصود، فإن ما يجب أن يُفعل لا يُفعل، وإذا حدث ذلك، تتدهور الأخلاق والآداب، وتضل العدالة السبيل، ويصيب الناس حالة من الارتباك العاجز. والحق أن المرء يحار حين يتأمل تدهور أحوال اللغة العربية المعاصرة ما بين ميل إلى الاعتقاد بأن فساد الواقع هو الذي عاث في اللغة فساداً وميل مضاد يرى أن فساد اللغة هو الذي ألحق ضرراً بالواقع، وهي حيرة يعقبها غالباً استدراك بأن المسألة برمتها ما هي إلا جدلية دائرية الحركة: واقع أفسد تهتكه اللغة، ولغة مبتذلة تعيد إنتاج تهتك الواقع. 

            غني عن البيان أن أهمية اللغة لا تكمن فقط في أنها اداة للتعبير ووسيلة للتواصل بين الناس، بل أيضاً في كونها - قبل أي شيء - وسيلة للتفكير والفهم والتأمل في أمر الذات والمجتمع والكون. وبالتالي، فحين تكون اللغة فقيرة وخاملة أو آلية وارتجاعية، وحين تكون مترعة بالعبارات الجاهزة والقوالب المعتادة والتعبيرات النمطية، فإنها تُفقد العقل وظائف التأمل والتفكير والإبداع وتدفع به نحو فخاخ الإلقاء والمحاكاة والتكرار. بعبارة أخرى، هنا لا يفكر العقل تماماً، بل يستدعي من مخزونه القائم ألفاظاً وأفكاراً ويعيد ويزيد ويكرر في استعمالها، كالحمار يحمل أسفاراً. أيضاً، حين تفقد اللغة وضوحها وصفاءها، يسهل استخدامها كأداة للتلاعب بالعقول وتضليل الوعي واستبدال ما هو واقعي وحقيقي بما هو متصور ووهمي. ومن البديهي، كذلك، أنه في حين أن واقعنا العربي - السياسي والاجتماعي والثقافي - يتغير بسرعة هائلة في عصر العولمة وثورات الاتصالات ونظم المعلومات، فإن تحجر اللغة وغموضها يبقي العقل متأخراً ومنفصلاً عما يدور في العالم وعاجزاً عن اللحاق بركبه. وبالطبع، فإن لكل ذلك تأثيراً ملموساً على الهوية. ألم يكتب محمود درويش: من أنا؟ أنا لغتي أنا.

            فساد اللغة في الفضاءين السياسي والثقافي العربي واضح لكل عينين مدققتين. على المنابر والقنوات وصفحات القرطاس، ثمة كلمات وتعبيرات لا تعكس معانيها، بل يقصد بها معان أخرى، وكلمات أخرى مائعة لا تعني شيئاً محدداً أو لا تعني شيئاً على الإطلاق، وأخرى تحتفي بالنظم والنغم على حساب المعنى. مغبة كل ذلك هي نزع المعرفة عن اللغة وتحويلها إلى محض أداة استعمالية لتحقيق أهداف وحصد مغانم. الأمثلة في تاريخنا المعاصر لا تحصى كثرة. مثلاً، إلحاح الأنظمة العربية التقدمية في خمسينات وستينات القرن العشرين في الحديث عن "الحرية" ترافق مع مغيب الحريات واستشراء القمع. كان المقصود بالحرية شيئاً آخر هو "الاستقلال"، أي الاستقلال عن الاستعمار والقوى الدولية، وليس الحرية بأي معنى سياسي أو اجتماعي. في نفس المرحلة المترعة بالهزائم العسكرية، انتشرت كلمة "نصر" في كل مكان، شعاراً في خطب الزعيم وبرامج الأثير ومناهج التعليم واسماً معلقاً على واجهات المتاجر والشركات الحكومية ومناسبة لاحتفالات سنوية صاخبة. وعلى نفس النحو، وبعدما انقلبت الموازين وتبدلت الشخوص، ذاعت كلمة "السلام" من السبعينات فصاعدا، على خلفية استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وضم الجولان وغزو لبنان وقصف العراق وتونس. مفارقة هي إذن لا يضاهيها سوى الكلام المتكرر عن "الجماهير" فيما سمي تندراً "جمهوريات بلا جماهير". هذه تناقضات تثير التساؤل: هل حقاً تنبع كل المشاكل، كما كتب ألبير كامو في رواية "الطاعون"، من الفشل في استخدام لغة جلية وواضحة؟


بأية حال، نزفت اللغة على مذبح السياسة ومصالحها وأيديولوجيتها، فالهزيمة النكراء نكسة، والثورة البيضاء مؤامرة، والاستبداد الفج وطنية، وفداء الأوطان خيانة؛ باختصار، المحاسن نقائص والنقائص محاسن، عتمة الليل نور وديجور الظلام ضياء. ويلاحظ أنه ما يلبث أن يعمد مسئول عربي رفيع أو أحد كتبته المحظيين إلى صك وتكرار مقولة أو شعار ما حتى تتلقفها بسرعة البرق جيوش جرارة من المسئولين والإعلاميين متواضعي الفكر فيلوكونه ويترنمون به أطراف الليل وآناء النهار حتى يصبح جزءاً من الخطاب العام للدولة (وحتى المجتمع) مهما غمض معناه أو فسد مضمونه. من أمثلة ذلك في التاريخ العربي الحديث تعبيرات مثل "الاشتراكية العربية" و"اليمن السعيد" و"الثورة الخضراء" و"أخلاق القرية" و"خادم الحرمين" و"أم المعارك" و"أهل الشر" و"الأسد إلى الأبد". وكما أبان الروائي والناقد الإنجليزي جورج أورويل (1903-1950م) في مقاله الشهير عن تداعي اللغة الإنجليزية الصادر في عام 1946م، فإن استخدام التعبيرات الجاهزة يوفر الكثير من الجهد الذهني لكنه يزيغ عن المعنى جاعلاً إياه غامضًا أو غير دقيق.

هنا يتجلى كيف يمكن أن تكون "اللغة فيروساً"، بحسب الكاتب الأمريكي ما بعد الحداثي ويليام بوروز (1914-1997م)، حيث تنتقل كالعدوى من شخص للآخر وتتغذى على العقل كالطفيليات ثم تعيش وتكبر وتتوسع بشكل يبدو مستقلاً عن البشر. بإمكان الوعي أن يداوي فيروسية اللغة، لكن السلطوية تغذيها وتعظمها، وذلك بميلها إلى شح المفردات وتماثلها وتوحدها ورفض التنوع والاختلاف. ألم تر كيف تعشق كلمات مثل "إجماع" و"اصطفاف"؟ ولذلك، فإن أولى خطوات التصدي للسلطوية بكافة أشكالها يكمن في تحديها باللغة: بالإفلات من لغتها الروتينية الجوفاء، وبالإصرار على تحرير المعجم وتوسيعه. عندئذ فقط، يهلك الإنسان الدمية ويزدهر الإنسان المفكر.  


ثم هناك الخواء الذي يُملأ بالكلمات. ففي بلاد العرب كلمات تقال وتعاد على سبيل العادة والمواظبة أو التمثل والاحتذاء، لكنها لم تعد "تعني" شيئاً سوى التظاهر بوجود شيء غير موجود أو فعال. ماذا يعني، مثلاً، الإيغال في الحديث عن "الشعب" ودوره في "المسيرة الوطنية الكبرى" في حين يغيب الشعب فعلياً عن كل شيء بما فيه المشاركة في صنع القرارات التي تحدد مصيره وترسم مستقبله؟ الواقع أنه في أقطار عربية كثيرة، لم يعد هناك شعب بالمعنى السوسيولوجي للكلمة، بل مجرد أفراد، نويات منفصلة منغلقة على ذواتها الصغيرة ومحتجبة عن أي نشاط اجتماعي. وفي حين كان يتم استدعاء "الشعب" في زمن الجماهير الغفيرة لأداء دور ما في الساحات العامة - تماماً كإكسسوار المسرحيات - صار ذلك غير ضروري في عصر الإنترنت والقنوات الفضائية. إذ يكفي أن يحضر ممثلون عن الشعب على الشاشات - في صورة مقدمي البرامج والضيوف الدائمين وكلاهما منتقى بعناية - ليعبروا عن رأي الشعب ويتحدثوا باسمه. كذلك، ما معنى الحديث المكرر عن "تكريم المرأة" في مجتمعات أبوية وصائية تحرم فيه المرأة من بعض حقوقها، وتحصل على البعض الآخر بشق الأنفس؟ يفترض باللغة التعبير الصادق عن الواقع، لكن حين يحدث العكس، يشيع الاغتراب ويكتشف الناس، بوعي أو بلا وعي، أن الحقيقة لا تقبع في اللغة، بل في مكان آخر. ولذلك تزدهر اللغة العامية، أو حتى العامية السوقية، كإطار يمكن من خلاله تعويض تقاعس اللغة الرسمية، مصداقاً لقول الشاعر: أنا المنفي في لغتي .. باللغة انتقمت من الغياب.

            في مقابل التكرار المخل، ثمة فقر لغوي صارخ، ومفردات وعبارات تكاد أن تكون ممنوعة من التداول، وبيئة سياسية وثقافية لا تحض على الخيال والابتكار في مجال اللغة والخطاب. مسترجعاً ذكرياته أثناء الحكم الفاشي لإيطاليا، يحكي الفيلسوف والروائي أومبرتو إيكو (1932-2016م) أنه تصفح جرائد الصباح عشية سقوط موسوليني في عام 1943م، ففوجيء - ببراءة الأطفال - بقراءة مفردات لم يسبق له أن سمعها من قبل، مثل "الحرية" و"الديكتاتورية". بالمثل، وبعد مرور سبع عقود ونيف على سقوط الفاشية في أوروبا، توجد دول عربية لا تتداول فيها تقريباً كلمات مثل "الديمقراطية" و"المجتمع المدني" و"حقوق الإنسان"، وإن ذكرت، فإن ذلك يدور في إطار من الاستقباح والاستهزاء، لا المدح والاستحسان. وتجديد الفكر واللغة، بالمثل، إما ممنوع أو محدود في علوم الدين، اتكاءاً على قواعد فقهية راسخة تقدس اللفظ القديم بحذافيره مثل "لا اجتهاد مع النص" و"العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب".   

ولا يقتصر الإملاق اللغوي على متون اللغة السياسية أو الدينية، بل انبسطت أجنحته على اللغة الاجتماعية أيضاً. فالمتابع للبرامج الفنية والرياضية العربية، لا يرى لغة حية نابضة، بل كلمات وجمل مستهلكة وصور مقولبة تكررت على ألسنة المضيفين والضيوف آلاف المرات، عقوداً وراء عقود، ولا تعبر عن المقصود بأفضل طريقة أو حتى لا تعني في حقيقة الأمر أي شيء على الإطلاق. لقد تقلص بلا شك حجم معجم اللغة الاجتماعية الفصيحة ونقص عدد المضطلعين بها والمتمكنين منها. خذ/ي كمثال كلمة "مكتبة" التي باتت تستعمل للإشارة إلى ثلاثة أشياء مختلفة: المكتبة العامة أو الجامعية؛ ومتجر بيع الكتب؛ وحانوت الأدوات الدراسية (حيث تباع الأقلام والكراريس)، في حين أن في الإنجليزية كلمة مختلفة لكل منها (library-bookstore-stationary). كذلك تستعمل كلمة "مطعم" ككلمة جامعة، أو وعاء عام يشمل أشياءاً مختلفة. العلة ليست في فصاحة اللغة العربية التي يوجد في دوحتها مترامية الأطراف ومرعاها الخصيب ما يفيد الغرض ويزيد (مثلاً: قرطاسية - مقصف)، ولذلك قال حافظ إبراهيم على لسانها: أنا البحر في أحشائه الدر كامن. ولكن العلة تكمن في التفكير الذي تعطل، والببغائية التي استشرت، واللغة التي ضاقت علينا بما رحبت. يتسق هذا مع ما طرحه عالم اللسانيات البريطاني بازيل بيرنشتاين (1924-2000م) من تمييز بين شفرتين لغويتين: "الكود المفصل"، حيث اللغة واسعة وخصبة ومترابطة ومعبرة؛ و"الكود المحدود" حيث المعجم مسلوب الخصب واللغة ضعيفة ومفككة وتراكيبها عاجزة عن التعبير.


ومن علامات فساد اللغة العربية، أيضاً، ذلك الولع الشديد بالسجع، والنزعة المستمرة إلى الإفراط في استخدامه ولو جاء على حساب المعنى. هذا نتاج إرث قديم امتدت ظلاله حتى عصرنا الحاضر. فالأمثال الشعبية وعناوين أغلب الكتب القديمة (وحتى نصوصها) اتخذت هذا المنحى، بما فيها تلك الحديثة نسبياً، أي الصادرة في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين (مثل "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" للطهطاوي و"البيان في الإنجليز والأفغان" لجمال الدين الأفغاني و"طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" لعبد الرحمن الكواكبي). الأزمة في التراكيب السجعية أن القائل والسامع يطربان للإيقاع والنغم دون الالتفات لفساد المعنى. وإلا كيف يمكن أن نفسر انتشار شعار مثل "الحجاب قبل الحساب"، والذي يفتقر لأي قوة إقناعية أو أساس معرفي سواء أكانت مرجعيتنا دينية أو قانونية أو منطقية؟ من أمثلة ذلك أيضاً القول أن صراعنا مع إسرائيل "صراع وجود لا حدود"، وكذلك، من عالم الأمثال الشعبية، الزعم أن "ضرب الحبيب مثل أكل الزبيب" وأن "العلم في الراس مش في الكراس" (ومقابلها بالفصحي "العلم في الصدور وليس في السطور"). بالتكرار، جيلاً وراء جيل، يودي الولع بالسجع إلى منزلق التفكير بالسجع، فلكل موقف أو حدث طازج إجابة معلبة جاهزة ذات جرس موسيقي أخاذ ونافذ، لكنها متهافتة المعنى وضعيفة الحجة وسيئة العقبى.   

إلام تشير كل هذه الأنساق والأمثلة؟ تشير إلى أن لغتنا غنية ورحبة - وقد وصفها السلف من أهل البيان باللغة الإعجازية - لكن تفكيرنا ضيق ومهلهل، سادر في غياهب التقليد، موغل في الشكل وتائه عن المعنى. كما تشير إلى أن ثمة ميراثاً ثقافياً وواقعاً سياسياً أسهما في إفساد اللغة عبر إحلال التكرار والمحاكاة محل التفكير والابتكار. هكذا السلطة، بمقدورها التلاعب باللغة بغية تضليل الوعي وترويج المغالطات وتجميل القبائح ونسيان الماضي وتبرير الأخطاء وإيجاد كباش فداء. وبالتبعة، أدى فساد اللغة وقصور التفكير إلى إعادة إنتاج الواقع البائس. فاللغة يمكن أن تستخدم لكل من الإظهار والإخفاء، لتحفيز التفكير ولتثبيطه، لإيقاظ الوعي ولإنامته. والاختيار لنا: فإما لغة نتحرر بها ونعلو وإما لغة نُستَعبد بها ونهوي.    

 

د. نايل شامة