Wednesday, November 20, 2013

مصر: نكوص إلى الرابع والعشرون من يناير أم الثالث من سبتمبر؟


تكاد كل مسارات اللحظة الراهنة في مصر أن تعود بالذاكرة إلى الوراء، ولا تدفع بالآمال إلى الأمام، موحية بأن ما هو كائن مر من هنا قبلاً، وأن جدراناً سميكة وأسواراً شاهقة تحول بين الوطن وبين الطموحات العظام التي أفرزتها ثورة يناير. فتوالي الإجراءات الاستثنائية التي اتخذتها سلطة النظام الجديد في مصر عقب عزل مرسي، وارتفاع فاتورة الدم، وتغول المنطق الأمني على السياسي، أعاد إلى الأذهان أيام حسني مبارك وممارسات نظامه البغيضة، دافعاً مناصري الثورة لتشبيه اليوم بالبارحة، والبكاء على بشائر التغيير التي ذهبت سريعاً أدراج الرياح، وعلى الثورة التي تبدو اليوم وكأنها لم تقم. ولذلك ذهب كثير منهم لتشبيه اليوم بالرابع والعشرين من يناير من عام 2011م، اليوم السابق لاندلاع الثورة ضد مبارك. فيما يدفع الصراع المحتدم بين الدولة وجماعة الإخوان المسلمين آخرين لاسترجاع ذكريات صدام العام 1954م، حين استأثر جمال عبد الناصر بالسلطة، وأطاح بالإخوان خلف غياهب السجون، مدشناً ما يعرف في أدبياتهم "بالمحنة الثانية".
والواقع أن اللحظة الراهنة لا تمثل على مستوى المضمون أو التطور التاريخي ارتداداً إلى العام 2011م أو العام 1954م بقدر ما تتشابه مع لحظة الثالث من سبتمبر لعام 1981م، التي أصدر فيها أنور السادات أوامره باعتقال زهاء ألفٍ وخمسمئة من رموز السياسة والفكر في مصر، ارتأى أن معارضتهم لسياساته تعرض الأمن القومي للخطر، وتقوض جهوده من أجل استعادة الأرض المحتلة.
تشابه اللقطات يستدعي العودة إلى تفاصيل السياقات. كان السادات قد أبلى بلاء حسناً في معركتي الحرب (1973) والسلام (1977-1979) مع إسرائيل، ما أسبغ عليه شرعية معتبرة مكنته من إعادة هيكلة منظومة السياسة والاقتصاد في مصر في سنوات معدودة. حظي السادات ("بطل الحرب والسلام" كما لقبته وسائل الإعلام وقتها) بما يشبه "التفويض" الشعبي لاتخاذ ما يلزم لإنعاش الاقتصاد المترنح، ولإصلاح العطب الذي أصاب النظام السياسي وأفضى إلى هزيمة يونيو المريرة (وهو تفويض يشبه ذلك الذي حصل عليه مؤخراً الفريق السيسي بعد دوره في إنهاء حكم الإخوان). وقد أدرك السادات بعد حرب أكتوبر أن الطريقة القديمة في الحكم لم تعد تصلح، خاصة بعد التضحيات الهائلة التي بذلها الشعب في سنوات العبور من الهزيمة إلى النصر، وأن انفتاحاً جزئياً في بنية النظام السياسي المهتريء قد صار ضرورة أملته الظروف.    
وعد السادات في أعقاب حرب أكتوبر بالتغيير الديمقراطي، وتحدث ملياً عن الحريات، وعن ضرورة اجتثاث "مراكز القوى" التي أفسدت السياسة في عهد سلفه، وظهر أمام الكاميرات وهو يهدم بالمعول حيطان أحد المعتقلات، ويحرق شرائط التسجيلات السرية، وذلك إيذاناً بانتهاء ما سمي وقتها "دولة المخابرات" وولادة عصر جديد لا يشبه سابقه. وشهدت السبعينات بالفعل انفتاحاً نسبياً مقارنة بالانغلاق السياسي الذي ساد في الستينات، ومثلت الجامعات المعقل الرئيسي لذلك الحراك، إذ ماجت ساحاتها وقاعاتها بصراعات وتجاذبات تيارات فكرية وسياسية شتى.
لكن السادات سرعان ما ضاق ذرعاً بالديمقراطية الوليدة، ولم يطق دفع الكلفة المتصاعدة للحرية الناشئة، ومن ثم بدأ في النكوص عما بشر به سابقاً، حتى أنه اعترف علناً بأن لديمقراطيته "مخالب وأنياباً". ثم وصل حنقه على معارضيه إلى ذروته يوم الثالث من سبتمبر لعام 1981م حين أودي بهم في المعتقلات في ساعات معدودة، محذراً إياهم في خطاب الخامس من سبتمبر الشهير بأنه "لن يرحم". كان ذلك هو "خريف الغضب" كما وصفه محمد حسنين هيكل، الذي شهد محاولات الدولة لاستعادة الزمام، وتأميم الانفتاح الجزئي الذي شهدته السنوات السابقة، ومن ثم العودة الحثيثة إلى آليات ومنطق وعادات الدولة السلطوية.  
واليوم نشهد الفصل الأخير من نفس الدورة التاريخية المعتادة. فبعد أن هدمت ودحضت ثورة يناير كثيراً من المفاهيم والسلوكيات القديمة، أتاحت الإطاحة بمرسي للدولة فرصة إعادة إنتاج نفسها من جديد. ويبدو على المستوى النفسي وكأن أجهزة الدولة (وخصوصاً الأمنية) ترى أن الفترة من خلع مبارك حتى خلع مرسي ما كانت سوى هدنة مؤقتة، أو استراحة محارب، اضطرت خلالها لإخلاء مواقعها تكتيكياً لتفادي عاصفة الثورة، بانتظار موعد العودة الاستراتيجية الكبرى.  
تكرر ذلك النمط في مصر عدة مرات منذ عام 1952م. فعقب كل تنازل فرضته ظروف داخلية أو ضغوط خارجية، تعيد الدولة تنظيم صفوفها، وترتيب أوضاعها، بانتظار موعد إعادة الحياة لشرايينها المتصلبة، ولحظة الوثوب على مخالفيها. فبعد هزيمة 1967م أصدر النظام سريعاً بيان 30 مارس 1968م الذي وعد بالتغيير (وإن تأجلت ثماره بسبب ظروف المعركة مع إسرائيل)، ثم تم الانفتاح في السبعينات بعد أن وضعت الحرب أوزارها، ومرة أخرى عقب ثورة يناير كما سبق ذكره. لكن تلك كانت مجرد إشارات نهايات مراحل، لا أمارات أفول نظام، فكل خطوة باتجاه الإصلاح تبعتها خطوات القهقري باتجاه وأد الحرية وتطبيع القمع ومأسسة السلطوية من جديد. لذلك يمكن مقارنة الثالث من سبتمبر لعام 1981م بالرابع عشر من أغسطس لعام 2013م (يوم أزهقت مئات الأرواح أثناء فض اعتصامات مؤيدي مرسي في القاهرة). كلاهما يمثل ذروة الارتداد عن الديمقراطية، وأوج الانقضاض على المعارضة، ومنتهى العصف بالحريات وحقوق الإنسان.              
تخبرنا تجارب التاريخ أن بعض أقسى النظم السلطوية ولد من رحم تجارب ديمقراطية وليدة، فالنازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا نشأت على أنقاض نظم سياسية قوامها التعددية الحزبية والانتخابات الحرة، وكذلك كان صعود حزب البعث في كل من سوريا والعراق في خمسينات القرن المنصرم وستيناته. واليوم يطل شبح المصير ذاته في مصر. فحين تستدعي معطيات الحاضر صور الماضي بأكثر من أحلام وتطلعات المستقبل، فثمة خلل ينبغي تقويمه، وطريقة حكم يجب تغييرها، وعقيدة راسخة يلزم قصها من الجذور. لكن الأهم – والأكثر مدعاة للتفاؤل – أن لا شيء حتمي، فمازال التغيير ممكناً طالما بقي شعب يفكر ويعي ويثور.    

د. نايل شامة

* نُشرت هذه المقالة بجريدة الحياة (بتاريخ 20 نوفمبر 2013).