يقول عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي الأشهر كليفورد جيرتز أن أصغر الأشياء
تشير لأكبر وأعقد القضايا، فالإيماءة أو الابتسامة قد تحدثنا عن نظرية المعرفة، وعاداتنا
اليومية قد تتنبأ باندلاع ثورة أو بسقوط اقتصاد. ولذا تبقى القدرة على ربط الجسور
بين التفاصيل الصغيرة والأحداث الكبرى، وعلى رؤية ما بين السطور من مضامين ومعان،
ثم إدماجها في إطار أكبر كاشف ودال، هي مناط نجاح باحثي العلوم الإنسانية
والاجتماعية في فهم الماضي وقراءة الحاضر واستشراف المستقبل.
ثار جدال واسع في الوسط الثقافي والسياسي المصري في الأسابيع الأخيرة حول
مقالين صادمين مضموناً ومقارباً، طارحاً على مصراعيها أبواب أسئلة تتقصى السبب والمغزى
والمدلول. المقال الأول للكاتب والمؤلف المسرحي على سالم، وعنوانه "جماعة شرف
البوليس". يحرض سالم في مقاله رجال الشرطة بلا مواربة على تشكيل ميليشيات
سرية تعمل خارج نطاق القانون لاغتيال القتلة والمخربين، بهدف "حماية أنفسهم
والدفاع عن شرفهم الشخصي". أما المقال الثاني - المعنون "أطفال الشوارع:
الحل البرازيلي" - فسطره أستاذ الفلسفة نصار عبد الله، وفيه يشير إلى ما
تصوره تجربة البرازيل في تسعينات القرن المنصرم في معالجة قضية أطفال الشوارع،
والتي تتلخص في تشكيل فرق للموت بغية تصفيتهم والتخلص من صداعهم للأبد.
على رغم تهافت المنطق، وانعدام المشروعية الأخلاقية والقانونية، إلا أن هذه
الحجج لم تؤذن في مالطا البعيدة، أو تنبت في أرض غريبة. إذ يرتبط حبل قوي بين
الأطروحتين - والاثنتان تدعوان إلى القتل - وبين أخاديد عميقة حفرت في عقل السياسة
المصرية عبر سنوات، وتوطنت فيها معايير قيمية جديدة متناغمة مع بعضها البعض، لكتها
متنافرة مع قيم الحق والعدل والسداد.
أولاً، يظهر في أفاق المشهد المصري الراهن استعداد لشرعنة العنف، وتقبل لاستغلاله
كوسيلة ناجعة لحل المشكلات وحسم الصراعات. ليس هذا بعيد الصلة مما اجتاح السياسة
المصرية من تطورات وما تكدس فوق جوانحها من ركام في السنوات الأخيرة. لقد تمت
مثلاً تسوية مأزق جماعة الإخوان المسلمين عقب عزل محمد مرسي باستخدام البطش القح،
المجرد من أي اختلاط بفنون السياسة أو الحوار أو الحلول الوسط، وكان لهذا أثاره
بلا شك على تفكير البعض. يتساءل هؤلاء (أما وقد حسم الصراع السياسي لصالح الدولة):
إذا كان هذا الحل قد أتى أُكُله، فلماذا لا يتم اعتماده كأداة لحل سائر المشكلات
السياسية والاجتماعية؟ والشاهد أن فض اعتصام رابعة لم يكن هو السابقة الأولى، ففي
عام 2005م استوطن المئات من اللاجئين السودانيون بالقاهرة حديقة عامة تقع في قلب
حي المهندسين، احتجاجاً على سياسات المفوضية العليا للأمم المتحدة لشئون اللاجئين
القابع مقرها أمام الحديقة. طال الاعتصام، واستفحلت آثاره الاجتماعية، ما أثار سخط
سكان الحي وقلق الدولة، التي قررت اجتثاث المسألة برمتها بالقوة. وكان أن أسفر
الفض عن مذبحة في قلب القاهرة راح ضحيتها ليلة رأس السنة الجديدة (2006م) زهاء
الثلاثين لاجئاً.
ثمة افتنان في مصر بالقوة، يصل بالبعض إلى حد التسكر بخمر العنف، والإيمان
بقدرة السوط على عبور الشوط وتحقيق الهدف. نجد مثلاً تصريحات رسمية ترى في القوة
الخيار الأول لا الملاذ الأخير (مثل تعليمات الرئيس عبد الفتاح السيسي لوزير الري:
"من يرفع يده عليكم خلال إزالة التعديات على نهر النيل فاضربوه بالنار")،
وصيحات يطلقها ساسة ومثقفون لفرم مخالفيهم، ودعوات على مواقع التواصل الاجتماعي لتطبيق
الإقصاء الجماعي والعقاب الجماعي بل والإعدام الجماعي.
ثانياً، تتسم علاقة الفرد بالدولة في إطار المصفوفة السائدة بالخلل الشديد،
إذ تنحاز كلية إلى الدولة على حساب الفرد. ليس هذا مفاجئاً، ففي الدول السلطوية،
تصير للدولة هالة طوطمية سرمدية، فهي الإله الجديد الذي تتمحور حوله الحياة، وهى مصدر
السلطات ومنبع الحركة ومركز التطور. تسيطر الدولة على المجال العام، وتؤمم السياسة
والمجتمع والثقافة، وتفرض قانونها وعقابها على الجميع. والواقع أن هذه الدولة لا
تعبر عن مجموع رغبات أفراد المجتمع، بل يصير المجتمع محض أداة لتحقيق الأهداف
العليا للدولة.
نتيجة لذلك الخلل، يذوب الفرد في المجموع، تخضع إرادته لهم طوعاً أو قسراً،
وتنمحي شخصيته ورغباته، وتضحى كينونته غير ذات قيمة كبيرة. فهو مجرد ترس واهن
منخرط رغم أنفه في ماكينة ضخمة لا تسمح له بالتفرد والتحقق إلا من خلال آلياتها.
ولأن الدولة أهم من الفرد، فحقوق الأفراد مهدورة طالما صب ذلك في مصلحة
الدولة. يمكن للدولة مثلاً سحق الحق في الحياة (وهو أهم الحقوق الإنسانية لأي فرد)
تحت ضجيج خطاب شعبوي يلتحف بدعاوى "المصلحة العامة" وذرائع "الحفاظ
على الدولة"، وهي دوال فقدت مدلولها من كثرة التكرار وتوالي الابتذال. ليس
هذا فقط، بل إن هذه العبارات الإنشائية المطاطية يوكل للدولة، مرة أخرى، حق
تعريفها وتأويلها وضبط معاييرها وتحديد سبل إنفاذها. من هنا حدثت رابعة والمهندسين،
وقد تتكرر مجدداً طالما ظلت علاقة القرد بالدولة مشوبة بالعوار وعدم التوازن.
ثالثاً، يبدو جلياً تصدع الأساس الأخلاقي للسياسة المصرية، وسيادة المنطق النفعي
البراجماتي في القول والفعل. ويظهر للمتابع وكأن احتدام الصراع السياسي سبب كاف في
نظر الغرماء للتهرب من أي مسئولية أخلاقية. في السنوات الثلاث الماضية تبدلت
المواقف المبدأية، ونُقضت العهود، وأُزهقت الأرواح غير مرة لتحقيق أهداف سياسية
ضيقة. سيطرت على المشهد العام نخبة سياسية وثقافية تستلهم بوعي أو بغير وعي مباديء
الفلسفة الذرائعية ونظرية "الأيدي القذرة" للمفكر مايكل والزر التي تقول
إن لا مناص ولا مندوحة من أن يرتكب الساسة أخطاء أخلاقية ما دام ذلك يخدم الصالح
العام. بالتوازي مع ذلك، هبط إلى درك أسفل مستوى الخطاب العام، حيث تزخر وسائل
الإعلام بسجالات وتراشقات تخلو من أي مرجعية قيمية، وتروج فيها ما يمكن تسميته
"بأحاديث الأحذية والكلاب"، نسبة إلى ما يستخدم من نعوت لقدح المخالفين
وتصفية الحسابات.
منذ سقراط وأفلاطون وأرسطو وحتى جون لوك وديفيد هيوم وايمانويل كانط، يمتد في
العقل الإنساني خط مديد يؤلف بين الأخلاق والممارسة السياسية. حري بالجميع في مصر
أن يقرأوا تلك الأفكار، لعلها تحدث التغيير المنشود قبل أن تجف ينابيع الروح،
ويبتلع طوفان السياسة كل شيء.
د. نايل شامة
* نُشرت هذه المقالة
بجريدة الحياة (بتاريخ 31 يوليو 2014).
No comments:
Post a Comment