إذا كانت السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط مسئولة بالأساس عن الغضب الذي يستعر في نفوس الشعوب العربية تجاه حكومة الولايات المتحدة، فإن تصريحات الساسة الأمريكيين - وكثير منها مستفز ومنفر ومتناقض مع الواقع - مسئولة أيضاً عن قدر غير قليل من تنامي هذا السخط. فحين تخرج كوندوليزا رايس أثناء الدمار الهائل الذي أحدثه العدوان الإسرائيلي على لبنان لتبشر بمولد "شرق أوسط جديد"، وعندما تصدر مصطلحات تفتقر إلى اللياقة - ناهيك عن الدقة - مثل "الإسلام الفاشي" و"الحرب الصليبية" على لسان الرئيس جورج بوش، وعندما يؤكد أن "ربيع الديمقراطية" في الشرق الأوسط قادم، وهو على أعتاب غزو العراق، ثم عندما يكرر نفس التعبير الآن، بينما العراق غارق لأذنيه في حمامات الدم والفوضى، فالطبيعي أن يؤدي هذا إلى صب المزيد من الزيت على النار، ومنح المشاعر المعادية للولايات المتحدة زخماً إضافياً.
في مقابل ذلك، أظهرت تصريحات المسئولين الإسرائيليين - الساسة منهم والعسكر - قدراً أكبر من الانضباط والاتزان في أعقاب أداء دولتهم المتواضع في حرب لبنان الأخيرة، إذ لم يرد مثلاً أي ذكر لكلمة "النصر" على لسان رئيس الوزراء إيهود أولمرت، واعترف كافة المسئولين بحدوث "تقصير" في أداء الجيش الإسرائيلي (بما فيهم أولمرت ووزير الدفاع عمير بيريتس)، كما فتحت تحقيقات لتبيان أسباب القصور، وتحديد أساليب معالجتها مستقبلاً.
لم ينتبه المسؤولون المصريون للأسف الشديد إلى الدرس الذي عبر عنه رد الفعل المتزن هذا، واتبعوا بدلاً من ذلك مسلك نظرائهم في واشنطن. فالتصريحات الوردية تملأ سماء العاصمة المصرية، وهي حاضرة في كل مجال، بداية من الادعاء بأن عصر الرئيس مبارك هو "أزهى عصور الديمقراطية"، رغم التزوير المنهجي لكل الانتخابات، واستمرار اعتقال الآلاف بلا محاكمة، والتضييق على نشاط الأحزاب والجمعيات والنقابات، واستمرار العمل بقانون الطوارىء لربع قرن، وقمع المظاهرات السلمية. والتباهي بأن عصر مبارك "لم يقصف فيه قلم" شائع أيضاً في الخطاب الرسمي، رغم القبض المتكرر على الصحفيين والمدونين، ومنع الكثيرين من الكتابة، وإغلاق جرائد الدستور، والشعب، وصوت العرب.
ومصر في نظر مسئوليها هي "بلد الأمن والأمان"، رغم أن الجميع يعلم أن العمليات الإرهابية حصدت الآلاف في أوائل التسعينات، والمئات في السنتين الأخيرتين (في طابا وشرم الشيخ ونويبع)، ورغم التراجع الواضح في كفاءة أجهزة الأمن الجنائي، واستفحال ظاهرة التحرش الجنسي، وشيوع أنواع من الجرائم لم يشهدها المجتمع المصري من قبل (كما ظهر مؤخراً عشية القبض على عصابة التوربيني).
أما التنمية في ظل قيادة مبارك فلم "تشهدها مصر منذ عصر محمد علي" رغم تنامي الفقر، والغلاء، وانخفاض معدلات النمو، وتواضع التصدير، وهروب الاستثمارات، وانخفاض قيمة العملة الوطنية، واتساع الفجوة بين الطبقات. وأداء الحكومة الحالية - بل وكل الحكومات السابقة - "لا يشوبه تقصير"، كما يؤكد الرئيس مبارك في أحاديثه الصحفية، رغم تتابع الكوارث والحوادث والإخفاقات بكل أنواعها، كانهيار التعليم، وانخفاض مستوى الرعاية الصحية، واختلاط مياه الشرب بمياه المجاري، واستيراد المبيدات المسرطنة لسنوات طويلة، والعجز عن حل مشكلة السحابة السوداء كل خريف، إضافة إلى تكرار حوادث وسائل المواصلات، وأحدها فقط زاد عدد ضحاياه عن ضحايا العدوان الإسرائيلي الوحشي على لبنان في الصيف الماضي.
أما على صعيد السياسة الخارجية، فلا تزال مصر هي "البلد القائد" في المنطقة بامتياز، وليس في الإمكان المزايدة على دورها وتضحياتها، رغم انحسار الدور، وتآكل النفوذ اللذان شهد بهما الجميع، وآخرهم المعهد الملكي للدراسات الدولية بلندن الذي أصدر دراسة عن إيران وعلاقاتها بدول المنطقة، في مؤشر لا تخطئه عين على زيادة الاهتمام الأكاديمي بإيران، نتيجة تعاظم نفوذها الإقليمي في السنوات الأخيرة، على حساب الدول العربية جميعاً، وفي مقدمتهم مصر.
الخطاب الرسمي المصري إذن وردي بأكثر مما يجب، ولهذا فمصداقيته أقل كثيراً مما ينبغي. وهو بالتالي يزيد من السخط والغليان، ويعمق من الهوة الواسعة بالفعل بين الشعب وحكامه. وإن استمر منهج التغطية على الواقع المزري باستخدام الكذب البواح، فالأرجح أن تستعصي أزمة الثقة القائمة حالياً على الحل. ولعلنا لا ننسى في هذا المقام كيف أن بعضاً من تصريحات الرئيس السادات غير المدروسة أججت من نير المعارضة، وعجلت في نهاية الأمر باغتياله، مثل إلحاحه في التعهد لشعبه بأن عام 1980م سيكون "عام الرخاء"، الذي يستريح فيه المصريون أخيراً بعد عقود طويلة من المعاناة الإقتصادية. وبطبيعة الحال، لم يكن هذا التصريح منسجماً مع معطيات الواقع، فانقلب السحر على الساحر، وكان السادات أول من دفع فاتورة الخداع.
إن الفجوة بين الخطاب الرسمي والواقع المعاش ليست بلا شك أفضل حالاً في عهد مبارك. ولعلنا نذكر أن ابرهارد كينله أستاذ العلوم السياسية بجامعة لندن اختار قبل سنوات قليلة عبارة "الضلال الأكبر" ليعنون بها كتابه عن الديمقراطية والإصلاح الإقتصادي في مصر. والمعنى واضح هنا، فلا ديمقراطية ولا عملية إصلاح إقتصادي حقيقي تجري، بل تضليل وكذب، أو بالأحرى "صندوق أكاذيب" ضخم على حد قول الروائي صنع الله إبراهيم.
لا تزال واقعة رقص أحد أعضاء مجلس الأمة ابتهاجاً بإعلان الرئيس جمال عبد الناصر عدوله عن قرار التنحي في يونية 1967م ماثلة في الأذهان، ومدعاة للاستهجان والاستياء. فمهما يكن من اعتبارات تتعلق بالرضا عن موقف الرئيس، واستعداده لتحمل المسئولية، وقيادة الوطن من جديد لإزالة آثار العدوان، فإن الهزيمة القاسية، وما خلفته من احتلال لشبه جزيرة سيناء، إضافة إلى آلاف الشهداء والجرحى الذين سقطوا في مواجهة لم تدم سوى ستة أيام، كانت تقتضي من الجميع - وفي مقدمتهم نواب الشعب - إبداء قدر أكبر من الاتزان والثبات. واليوم، وفي ظل مصاعب إقتصادية جمة، وغياب للديمقراطية، وتآكل للدور الخارجي، يجدر بالجميع أن يظهروا قليلاً من الصدق واحترام الذات.
احتراماً للفقيد الغالي، يجب أن يتوقف الطبل والزمر والرقص، فالجنازة مهيبة، واللحن حزين وكئيب، ومشاعرالألم والأسى والحسرة طاغية على كل شيء.
نايل محمد شامة
نُشرت هذه المقالة في جريدة إيلاف الإليكترونية (بتاريخ 24 ديسمبر 2006).
Monday, July 30, 2007
مصر: الرقص على لحن جنائزي
Subscribe to:
Posts (Atom)