Wednesday, October 18, 2017

لعنة إسرائيل الأخرى

في معرض دفاعه عن نفسه عقب عودته من سوريا، ولقائه بمسئولين في نظام بشار الأسد، قال الفنان محمد صبحي: أنا زرت سوريا مش إسرائيل. صار ذلك المنحى في الوطن العربي اعتيادياً حتى أنه ما عاد يستوقف أحداً، لكن نظرة متأنية لمنطق العبارة تفرض سؤالاً جوهرياً: لماذا حقاً أُقحمت إسرائيل في شأن يتعلق بالموقف المصري من سوريا ونظامها وحربها الأهلية؟ إنها دون شك لعنة إسرائيل الأخرى التي صارت جزءاً أصيلاً من العقل العربي لا تبرحه قط حتى يرتشف نشوة الألم السائغ الجميل.
لعنة إسرائيل الأولى لا تخفى على أحد، فقد أصابت المنطقة بالكامل منذ زهاء القرن من الزمان. هي لعنة المشروع الصهيوني الذي اغتصب أرض فلسطين بالحرب والمكر والمفاوضات، ومن ثم أقفر البلاد من أهلها وشردهم في أصقاع الأرض بحثاً عن المأوى والأمن، ومنهم ملايين يغمسون شقاء العيش المثخن في المخيمات بخبز الصمود، ويلتحفون بالأمل في العودة للديار يوماً، ولكن هيهات. لعنة إسرائيل الأولى هي أيضاً استباحة جيران فلسطين، والعدوان على أراضيهم، من مصر وسوريا للبنان وتونس والعراق. وهي لعنة اليمين الإسرائيلي المتعصب المدفوع بالرغبة في السيطرة لا الميل إلى تحقيق السلام.  
أما لعنة إسرائيل الأخرى فهي لعنة العقل العربي المستشرية في أوساط العوام والنخبة على السواء. ذلك العقل الذي ارتجف ميزانه واختلت معاييره وتبدد خطوه في تعاطيه مع إسرائيل. هي بادئ ذي بدء لعنة الهوس بإسرائيل، وسواسها الخناس الذي يوسوس في المخيلة ليل نهار، فيعبث في حُشاشة العقول، ويحول بيننا وبين فهم إسرائيل من ناحية، وبين الالتفات لمسائل أخرى لا تقل أهمية من ناحية أخرى. ومن ثم فهي اللعنة التي تجعل العقل – المرابط دوماً في فراش العاطفة الوثير - يتصور أن كل شئ وأي شئ يتضاءل بجانب معاداة إسرائيل. فالاستبداد والقهر والفقر والتخلف أشياء لا تعني الكثير. فالمهم هو أن تصدح بعدائك لإسرائيل بأعلى صوت ليل نهار، ختى تبرأ نفسك من كل نقيصة. لا شئ آخر يهم.
ولهذا ينظر البعض ممن أصابتهم هذه اللعنة لديكتاتور دموي مثل صدام حسين - الذي شن حربين على جيرانه وقصف شعبه بالسلاح الكيماوي وأنشأ في بلاده جمهورية للخوف ليس لمثلها نظير – باعتباره القائد المجاهد والشهيد البطل. يرون ذلك ليس لأنه حرر فلسطين من النهر إلى البحر، أو لأن بلاده وجيشها كان لهما يداً طولى في حومة الصراع العربي-الإسرائيلي، بل لأنه في واقع الأمر اعتسف طريق النضال اللفظي، فكان لسانه طويلاً وكانت حنجرته مجلجلة وكان خطابه حنجورياً لاذعاً مع إسرائيل ومن وراء إسرائيل. وكم من الآثام ترتكب بإسم محاربة إسرائيل. 
إن لعنة إسرائيل الأخرى هي لعنة النظر لإسرائيل من زاوية أسطورية خيالية، لا علمية أو إنسانية. نظرة لا يحكمها المنطق، ولا يرشدها العقل، بل يسيرها فيض متدفق من عاطفة متأججة وغضب هائج وحسرة ملتاعة، وسير بلا هدى على سنة الأوائل ومنهاج الغابرين. لهذه النظرة شقان: فمن ناحية الإدراك الأخلاقي تجعلنا نشعر بالتفوق، فنحن النبلاء وهم الشياطين، نحن النساك وهم الغواني، نحن أهل الفضيلة وهم أرباب الفساد. أما عملياً فكل ما تفعله إسرائيل تآمر، وكل ما تقوله كذب، وكل مكروه يصيب أرض العرب من المحيط إلى الخليح من تدبيرها الأثيم. وعليه، فهجوم لأسماك القرش على الغواصين في سواحل شرم الشيخ هو - قولاً واحداً - من صنع إسرائيل، وموت زعيم عربي هو بالضرورة مؤامرة إسرائيلية، ووقوع الزلازل والبراكين تدبير إسرائيلي محض، وهكذا دواليك. في المقابل، وبفعل مفهوم المرايا المتقابلة، يُسلب الطرف العربي كل تدبير ومشيئة، وتُنزع عنه القدرة على التخطيط والفعل، وينحى دوماً إلى زاوية ميادين الفعل لا قلبها، ضعيفاً مضعضعاً لا يقوى على شئ.
وفي ظل لعنة إسرائيل الأخرى يتحدد موقفنا من كل القضايا تبعاً لموقف إسرائيل منها. فما توافق عليه إسرائيل يثير حفيظتنا فنتوجس منه خيفة، إذ لابد أن في الأمر مكيدة ما، أما ما ترفضه إسرائيل فنرحب به دون إبطاء (إما من باب الوهم أو من باب المكايدة)، وذلك حتى لو لم يصب في مصلحتنا القومية. بعبارة أخرى، صارت إسرائيل مركز الكون في العقل العربي، يقتفي أثرها في كل شأن بلا قبس من علم أو تعقل. لعنة إسرائيل الأخرى هنا هي لعنة العقل العربي الخامل الكسول، الذي يعجز عن التحرك بين مستويات مختلفة للتحليل، ويعشق أسر الثنائيات المتقابلة، والتي لا تصلح أبداً كإطار لفهم الواقع المعقد بطبيعته.
وفي ظل لعنة إسرائيل الأخرى تنتشر الأساطير، وتشيع الأباطيل، ويذيع صيت الأفاقين والحواة. مثلاً، يسود اعتقاد واسع في الوطن العربي بأن كتاب "بروتوكولات حكماء صهيون" هو خطة يهودية سرية لغزو العالم، وأنه يمثل المرجعية العليا لحكام إسرائيل المعاصرين. توالت الطبعات العربية للكتاب منذ عقود (وأحدها حققه الكاتب الكبير عباس محمود العقاد)، وحققت أعلى المبيعات في القاهرة وبيروت وبغداد، حتى أن بعض المناهج الدراسية بالبلاد العربية تضمنت فقرات من البروتوكولات، كما أن ميثاق حركة حماس الصادر في عام 1988م أشار إليه. والواقع أن الكتاب كما هو مثبت ملفق من الألف إلى الياء بواسطة ضباط في البوليس السياسي للقيصر الروسي، اقتبسوه من كتاب "حوار في الجحيم بين مونتسكيو ومكيافيللي" الصادر في 1864م للمؤلف الفرنسي موريس جولي، ونسبوا فيه كل الرذائل إلى اليهود الذين مثلوا حينئذ نسبة معتبرة من أعضاء الحركات الثورية المناهضة للقيصر.  
كما يتصور كثير من العرب أن الخطين الأزرقين في علم إسرائيل يشيران لنهري الفرات والنيل، وأن تصميم العلم يرمز لنية إسرائيل السيطرة على الأرض العربية الواقعة بين النهرين، وقد أشار لهذا المعنى بشكل علني كثير من الزعماء العرب، ومنهم ياسر عرفات ومعمر القذافي. لكن هذا أمر غير صحيح بالمرة، إذ يرمز الخطان في الحقيقة للخطوط الموجودة على الطاليت (Tallit)، وهو شال الصلاة الذي يرتديه اليهود الأرثوذكس أثناء أدائهم للطقوس الدينية. كما أنه ليس صحيحاً أن مدخل الكنيست الإسرائيلي تتصدره عبارة "حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل" كما يتصور الكثيرون (وكما قرأت في صباي في الكتاب المدرسي).   
جذور هذه اللعنة بتجلياتها المختلفة تعود في جانب منها للعقلية العربية، والتي ينوء كل عاقل بما ألقته على منكبيه من علل وحماقات، وفي جانب آخر لدور الأنظمة العربية في ترسيخ تلك العلل. فحين زلزلت الأرض زلزالها وقامت دولة إسرائيل في عام 1948م، ثم فيما تلا ذلك من سنين، شعرت الأنظمة العربية بأن في الأفق خطراً ينبغي تجنبه، وفرصة في الوقت نفسه يمكن استثمارها. وكان أن عولت على الفرصة، فاستثمرت فيها بشراسة، وأممت القضية لحسابها، وبرعت في تجارة الأحلام وتجارة الخوف، تطلب مقابلهما إذعاناً غير مشروط، وتسليماً منزوع التفكير والرأي والمشاركة.  
ووصل الأمر بالأنظمة في يونيو 1967م، حين تحممت الأرض العربية في سيناء والقدس والجولان بنار الدم والانكسار، إلى الاستخفاف بأكبر هزيمة عربية عسكرية في التاريخ الحديث، على قاعدة أن إسرائيل بحربها الدنيئة هدفت لإسقاط النظام الناصري. ولما كان النظام لم يسقط، وقائده لم يرحل، فلا هي انتصرت ولا نحن انهزمنا. وجسد هذا التصور المعوج تلك المشاهد البائسة لنواب مجلس الأمة في مصر وهم يرقصون طرباً إذ جاءهم نبأ عدول عبد الناصر عن التنحي، فيما الأرض قد ضاعت، ودماء جنودنا الزكية لم تجف بعد، وحديث نكبتنا يصير أضحوكة العالم بأسره. وعلى الجانب الآخر، انكشف لمن تحرروا من الوهم على صدمة الهزيمة، وما لحقها من هزائم وخيبات، أن صولجان السلطة صدئ، وأنه يقود القطعان نحو المذبح لا مراعي الكلأ، وأن لسانها الثرثار جعجعة بلا طحن، وأن وعودها محض قلاع من رمال ذهبت أدراج الرياح. عرف هؤلاء أن هزيمتنا هي هزيمتنا نحن، إذ ما دخل اليهود من حدودنا وإنما تسربوا كالنمل من عيوبنا كما قال نزار قباني.
لعنة إسرائيل الأولى من صنعها هي ومن والاها، أما لعنة إسرائيل الأخرى فمن صنع العقلية العربية التي فاتها الركب، فصارت تقايض هزيمتها في الدنيا بمصفوفة من كبرياء كاذب وأوهام لذيذة، تماماً كالمخدرات. فما أبخس الثمن وما أبأس التجارة.
***
الواقع أن إسرائيل برغم لعنتها الأولى ليست نكبة هذا الإقليم الكبرى، أو مصدر كل الشرور به. عشرات من السنين مرت منذ قيام الدولة العربية الحديثة تثبت بجلاء أن "أصل الداء" هو الاستبداد السياسي فهو "أشد وطأة من الوباء، أكثر هولاً من الحريق، أعظم تخريباً من السيل، أذل للنفس من السؤال" كما قال عبد الرحمن الكواكبي في رائعته "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد". وبلغة الأدباء فإن هذا الاستبداد العربي يخلق مناخاً يعيث فيه فساداً العسكري الأسود (يوسف إدريس)، إذ يطل علينا من شرفة الهاوية (إبراهيم نصر الله)، خالقاً مدناً بائسة تمتدح فيها الكراهية (خالد خليفة) ويغيب الوعي (توفيق الحكيم) ولا تسقط الأمطار (أمجد ناصر). 
وبديهياً، لو كانت دول هذه المنطقة ديمقراطية لكنا قد تعاملنا مع التحدي الإسرائيلي بشكل أكثر نجاعة، وبمنهاج أكثر علماً. ألم تكن هزيمة 1967م الكارثية في جوهرها هزيمة سياسية وحضارية للنظام الناصري وأخواته العرب قبل أن تكون عسكرية في ميادين القتال؟ ألم تستمر الهزيمة الحضارية بشكل أو بآخر على امتداد مساحة الوطن حتى يومنا هذا؟ ثم أن الفجوة العلمية والتكنولوجية مع إسرائيل اتسعت بشدة لأن للأنظمة الاستبدادية أولويات مختلفة، إذ تركز على البقاء في السلطة، ولا تبالي كثيراً بالعلم، وحتى في سعيها هذا للبقاء، هي لا تعتمد على العلم، بل على هراوات تقمع وكلمات ترسخ الجهل.    
في المائة عام الماضية هُزم العرب شر هزيمة في كل المحافل تقريباً، حتى انقرضوا أو كادوا حضارياً كما قال الشاعر أدونيس. إذا أردنا حقاً أن نطرق أبواب المستقبل، وأن ينهض العقل العربي في المائة العام المقبلة وما بعدها بعد طول سبات، فلا مناص عن النظر لإسرائيل بشكل علمي ومنطقي، لا عاطفي أو غيبي. فالعلم ترياق الجهل، والمنطق دواء العاطفة.     

د. نايل شامة

* نُشر هذه المقال بموقع الحوار المتمدن (بتاريخ 18 أكتوبر 2017).