Monday, February 11, 2008

السياسة المصرية تجاه إيران: إسهامات المدرسة النفسية



إذا كان تحليل السياسة الخارجية لأي دولة يتطلب إخضاع عناصر عديدة للبحث والتحقيق، مثل الموقع الجغرافي لهذه الدولة، وقوتها العسكرية، وقدراتها الاقتصادية، ونوع النظام السياسي والاقتصادي السائد بها، والتجانس الاجتماعي والإثني لقاطنيها، فإن تحليل السياسة الخارجية لدول العالم الثالث قد ركز لعقود طويلة على دراسة قائد هذا البلد، رئيساً كان أو ملكاً أو أميراً، باعتباره العنصر الأهم - وفي بعض الأحيان الوحيد - الذي يتوجب الالتفات إليه، من أجل فهم السياسة الخارجية، وآلياتها، ودوافعها، وأهدافها.

تعتمد تلك الدراسة على تحليل شخصية القائد، وذلك بالنظر إلى سماته الشخصية، ونشأته الاجتماعية، وأفكاره، ومعتقداته، وتكوينه المعرفي، والعاطفي، والسلوكي، إضافة إلى رؤيته للنظام الدولي، وللأسلوب الأمثل لإدارة العلاقات الخارجية لبلاده، في ظل القيود والفرص التي يفرضها هذا النظام.

والواقع أن هذا العنصر يستمد أهميته الخاصة في دراسات العالم الثالث (بما فيها الدول العربية بالطبع) من طبيعة الأنظمة المركزية المنتشرة في السواد الأعظم من دول هذا الإقليم، وميلها إلى اختزال العملية السياسية برمتها في شخصية القائد. فهو الذي يملك كل الصلاحيات، وتتركز في يده كل السلطات. كما أن صياغة الاستراتيجيات، ورسم السياسات، واتخاذ القرارات امتياز يظل في الأغلب في يد القائد، فيما يقتصر دور رؤساء الوزراء، والوزراء، والمستشارين، على تقديم الاستشارة والنصح، وهي في جميع الأحوال غير ملزمة أو مقيدة.

ولهذا السبب جاءت السياسات الخارجية للدول العربية في جزء كبير منها انعكاساً واضحاً لشخصيات وتوجهات قادتها. فمصر الخمسينات والستينات حملت أحلام عبد الناصر في الاستقلال السياسي، والنهضة الاقتصادية، والوحدة العربية. وانطبع على سياساتها تطلعات عبد الناصر للزعامة، وتعاطفه مع الفقراء، إضافة لما غرسه فيه الاحتلال البريطاني المهين من مقت للتدخل الخارجي، واحترام وتبجيل لقيمة الكرامة الوطنية في حياة الشعوب. كما ظهرت بصمة صدام حسين واضحة في كثير من تحركات السياسة الخارجية العراقية في الثمانينات والتسعينات، وبالأخص قراري غزو إيران والكويت، والمناطحة الدائمة للولايات المتحدة. فلقد كان صدام منذ الصبا مغامراً، وعنيداً، يعتمد على القوة لحل خلافاته، ولا يعبأ كثيراً في سبيل تحقيق أهدافه بقواعد اللعبة السياسية، أو القيود الأخلاقية.

تلك كانت مقدمة ضرورية للولوج إلى موضوع القطيعة بين مصر وإيران، المستمرة منذ أكثر من ربع قرن، ولا يبدو أن لها نهاية منظورة. والواقع أن الدعوة التي أطلقها الرئيس الإيراني أحمدي نجاد مؤخراً لعودة العلاقات مع مصر ليست جديدة، فقد أثارها كل الساسة الإيرانيون من قبل، علناً، وفي مقابلاتهم الخاصة مع نظرائهم المصريين. كما أن الرد المصري ليس جديداً أيضاً، فقد اتسم إما بالتجاهل التام، أو على أقصى تقدير بالفتور واللامبالاة.

والسبب الرئيسي في غياب الرغبة المصرية لعودة العلاقات مع الجمهورية الإسلامية يعود إلى الرئيس المصري حسني مبارك، فأغلب المؤسسات المصرية – بما فيها وزارة الخارجية – ترحب منذ عشر سنوات ونيف بإنهاء القطيعة مع طهران، لما في ذلك من مكاسب استراتيجية واقتصادية واسعة، ولما أظهرته الأخيرة من انفتاح على العالم كله، خاصة في عهد الرئيس محمد خاتمي. وقد حاولت المؤسسة الدبلوماسية بالفعل غير مرة إقناع الرئيس مبارك بإعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة مع طهران، غير أن موقفه المتصلب لم يتزحزح قيد أنملة. والمفارقة تتمثل في أن يكون لمصر علاقات دبلوماسية كاملة مع كل دول العالم، بإستثناء إيران، وألا يثير هذا الوضع الشاذ حفيظة القيادة السياسية المصرية، بل وأن يحظى برضاها ومباركتها.

تقدم المدرسة النفسية تفسيراً لموقف مبارك هذا، فالرئيس المصري - كما أظهرت تجربته الممتدة في السلطة - يتسم على عكس سلفيه بالحذر الشديد، ولا يجنح أبداً إلى المغامرة، مهما كانت الإغراءات والضغوط. وانعكست تلك الخصلة بجلاء على السياسة المصرية في الخمس وعشرين سنة الماضية. فالميل إلى تجنب المواجهات المحفوفة بأي قدر من المخاطر، والتدريج في تطبيق السياسات التي لا تحظى بالتأييد الشعبي ظهرا كأهم سمات صنع القرار السياسي في مصر مبارك.

أدى ذلك النهج بطبيعة الحال إلى جمود السياسة في مصر، وإستبدال منطقها الرحب بمنطق الأمن الضيق. فالتعامل مع قوى التغيير مثلاً يعتمد على هراوات الأمن أكثر من قنوات الحوار. والموقف من حركة حماس يرتهن بعلاقات الأخيرة الوثيقة بجماعة الإخوان المسلمين المناوئة للنظام. وبرنامج الإصلاح الاقتصادي يتم تطبيقه "بالتدريج" لئلا يؤثر على "النظام العام واستقرار المجتمع". كما أن كلمة "الاستقرار" هي الأكثر تردداً في خطابات الرئيس المصري، سواء في سياق الحديث عن البحث عن حل للقضية الفلسطينية، أو عن مستقبل الديمقراطية في مصر، أو عن آليات الإصلاح الاقتصادي.

وبالمثل يمكن القول بأن الموقف المصري من إيران أسير لمخاوف الرئيس من محاولات الأخيرة تصدير الثورة إلى مصر، عن طريق تطوير علاقات سياسية ومالية مع جماعات الإسلام السياسي المصرية، التي كانت ولا تزال مصدر التهديد الأمني والسياسي الرئيسي لسلطة مبارك في الداخل. وإذا كانت العمليات الإرهابية ونجاحات الإخوان المسلمين الانتخابية ليستا بحاجة إلى تذكير، فإن تأثيرهما على نفسية الرئيس مبارك بحاجة إلى توضيح.

لقد كان مبارك إلى جوار سلفه حين اغتيل على أيدي الجماعات المسلحة في بداية الثمانينات، ثم أفلت هو شخصياً من عدة محاولات للاغتيال، كانت أخطرها في أديس أبابا في 1995م. وتزامن ذلك مع العمليات الإرهابية التي حصدت الآلاف في الثمانينات والتسعينات، ومثلت أكبر تهديد لشرعية واستقرار حكمه. أما جماعة الإخوان - أكبر فصيل معارض في السياسة المصرية - فتمثل صداعاً مزمناً في رأس النظام لمصري، بسبب شعبيتها، وقدراتها التنظيمية العالية، ونجاحها المستمر في إحراج الحكومة. والمؤكد أن كل ذلك ترك في نفس مبارك أثراً عميقاً، دفعه إلى زيادة الاعتماد على الأجهزة الأمنية، وفقدان الثقة تماماً بنوايا جماعات الإسلام السياسي، بل وحتى الدول التي تنتهج نهجاً إسلامياً، أياً كانت صيغته وأهدافه. ولذلك ليس غريباً أن تتوتر العلاقات المصرية مع كل تلك الأنظمة، مثل إيران، والسودان (إبان تحالف البشير مع الترابي)، وحركة حماس. وأن تقوم الدبلوماسية المصرية بالعمل على إسقاط حكومة حماس، وإدانة عمليات حزب الله ضد إسرائيل، وتحذير الولايات المتحدة ودول الخليج من النوايا الإيرانية.

والملاحظ أن للجمهورية الإسلامية علاقات دبلوماسية كاملة مع كل دول الخليج، ووروابط تجارية وثيقة مع الإمارات العربية المتحدة، إضافة إلى العديد من الاتفاقات الأمنية الموقعة مع السعودية والكويت وقطر. تم كل هذا التعاون مع دول مجلس التعاون بالرغم من قربها الجغرافي من إيران، وارتفاع نسبة الشيعة في صفوف مواطنيها، الأمر الذي يعرضها - إن صحت مخاوف مصر من تصدير الثورة - لتأثير إيراني طاغٍ. أما مصر البعيدة جغرافياً، والتي لا يمثل شيعتها نسبة تذكر من سكانها، فلا تزال الشكوك والهواجس تكبل حركتها، وتعيق تقاربها مع إيران.

تعد المدرسة النفسية دليلاً مهماً إلى فهم السياسات الخارجية للدول العربية. فدونها قد لا نرى سبباً وجيهاً يدفع السادات لزيارة القدس، أو يحفز صدام حسين على غزو الكويت، أو يمنع حسني مبارك من إعادة العلاقات المصرية-الإيرانية عبر خمس وعشرين عاماً.

نايل محمد شامة