Saturday, November 19, 2011

السياسة الخارجية المصرية والعتق من أغلال الشخصنة


في مذكرات وزير الخارجية الأسبق الدكتور مراد غالب قصة جديرة بالتأمل. أحداث القصة تعود إلى عام 1972م عندما قدمت الحكومة الهندية لمصر عرضاً سخياً – من خلال الدكتور غالب – تطلب فيه منها الاعتراف بدولة بنجلاديش التي كانت قد حصلت على استقلالها تواً، في مقابل أن تفتح الهند للجانب المصري مراكز أبحاثها في مجالات الطبيعة النووية، والأبحاث الإلكترونية، والأبحاث الصاروخية والتوجيه. كانت مصر قد حاولت مراراً دخول هذه المجالات الحيوية عن طريق علاقاتها الوثيقة حينئذ بالاتحاد السوفيتي والصين، إلا أن محاولاتها جميعاً باءت بالفشل.

اغتبط غالب بهذا الاقتراح، وذهب ليبشر به الرئيس السادات، باسطاً أمامه آفاق العرض ومزاياه، إلا أن الأخير استهجن الاقتراح قائلاً: "انت عايزني أحط إيدي في إيد جولدا مائير (يقصد أنديرا غاندي)". واستخدام السادات لذلك التشبيه الغريب لم يكن يعني يعني سوى حنقه وغضبه البالغين على أنديرا غاندي، للدرجة التي دفعته إلى تشبيهها برئيسة وزراء إسرائيل، أي أسوأ شخصيات ذلك العصر السياسية بالنسبة لمصر وسائر الدول العربية.

والسبب في هذا الغضب العارم يعود – كما يشرح غالب – إلى أيام الرئيس عبد الناصر، حين زار السادات الهند بوصفه رئيساً لمجلس الأمة، وطلب مقابلة أنديرا غاندي، إلا أن طلبه قوبل بالاعتذار، نتيجة لوجودها خارج العاصمة نيودلهي. استاء السادات بشدة، واعتبرها إهانة شخصية، وأثر هذا فيما بعد على رؤيته لجدوى وأهمية العلاقات المصرية الهندية.

تفتح هذه الواقعة للنقاش مسألة تأثير شخصية القائد السياسي، بكل ما تحمله من صفات وأهواء وتناقضات، على السياسات العليا للدولة. فالرئيس - أي رئيس لأي دولة في العالم - هو في النهاية إنسان، يحب ويكره، ينحاز مع (أو يتحامل على) أطراف وشخصيات وتوجهات وأفكار. وذلك الانحياز أو التحامل لا ينبع بالضرورة من موقف موضوعي ثابت إزاء أيديولوجيات وسياسات محددة، بل قد ينبع من مواقف شخصية تتأثر بالحالة الصحية والمزاجية، أو من تشوهات نفسية خلفتها خبرات سلبية سابقة.

ولا ينحصر ذلك التأثير في النظم السلطوية فقط. إذ يذهب هيكل في كتاب "ملفات السويس" إلى أن أداء رئيس الوزراء البريطاني أنتوني إيدن المزري في أزمة السويس مرده رغبته في الظهور أمام زوجته كلاريسا بمظهر الزعيم الحازم القادر على قيادة الأمة البريطانية، على غرار ما فعل سلفه في رئاسة الوزراء (وعم زوجته) ونستون تشرشل أثناء الحرب العالمية الثانية. ومعلوم أيضاً أن معاناة الرئيس الفرنسي الأسبق جورج بومبيدو من سرطان الدم جعله في أيامه الأخيرة أكثر تردداً في قراراته. أدرك الجميع أن بومبيدو كان مريضاً جداً، (حتى أنه أسر لأحد أصدقائه قبل عام من وفاته بأنه "حين يصافح الناس، يتولد لديه الانطباع أنهم يقيسون ضغطه")، وظل بالرغم من ذلك في منصبه، يتخذ قرارات مهمة تؤثر في مصير الدولة الفرنسية تحت ضغط المرض والألم.

أما في مصر ما بين الثورتين (أي ثورتي يوليو ويناير)، فكان الوضع أكثر تفاقماً، إذ سمح الإطار السياسي والقانوني للدولة – بل شجع – على قيام نظام سياسي شديد المركزية، تنطلق معظم قراراته المصيرية من رغبات الرئيس وأمنياته. ودعم تلك المركزية ثقافة سياسية متجذرة تجد في القائد إما المأوى، أو حتى المهرب من مسئولية اتخاذ قرارات مصيرية لها تبعات واسعة. ولنا فيما قاله وزير الخارجية محمود فوزي لعبد الناصر إبان ثورة العراق في عام 1958م دليلاً ساطعاً. فقد فاجأت ثورة عبد الكريم قاسم الرئيس جمال عبد الناصر وهو في جزيرة بريوني اليوغوسلافية، وفي طريق العودة إلى مصر على متن الباخرة "الحرية" طلب عبد الناصر من مرافقيه (وزير الخارجية محمود فوزي والكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل) إبداء رأيهما في اقتراح يحتمل وجهتي نظر، فعاد إليه فوزي قائلاً: إن الكفتين متساويتين، وأعتقد أنك وحدك بحكم "إلهام الزعامة" قادر على الترجيح بينهما!!

واقعة السادات مع أنديرا غاندي ليست بالتأكيد الوحيدة التي دفعت فيها المصلحة الوطنية ثمناً باهظاً لأهواء القائد الشخصية. وهي حتماً لن تكون الأخيرة، ما لم يتغير الإطار الدستوري والقانوني للدولة المصرية باتجاه إعلاء شأن ودور المؤسسات، وإجهاض احتمالات سيطرة القائد الفرد علي كل مقاليد الأمور.

والمتابع للحوارات الدائرة هذه الأيام في الفضاء العام يلاحظ أن كثيراً من هذا الحديث يدور حول شئون السياسة الداخلية، مثل محاكمات رموز النظام السابق والوضع الأمني (أو غيابه بالأحرى) وصراعات الديوك بين التيارات السياسية، وقليل منه يتعرض لشئون السياسة الخارجية، وكيفية تقنين أوضاعها، وإصلاح هياكلها في العهد الجديد. وإذا كان هذا طبيعياً لأن "فقه الأولويات" يوجب ترتيب الوضع في الداخل أولاً، فإن مناقشة الدستور الجديد، وقد يكون على الأبواب، تستدعي النظر ملياً إلى المواد المعنية برسم السياسات العامة للدولة، باتجاه مشاركة أكبر لمؤسسات الدولة في عملية صنع القرار السياسي. وضروري أيضاً إعادة النظر في الاختصاصات الأساسية لوزارة الخارجية الواردة في قانون تنظيم وزارة الخارجية، والتي لم يطرأ عليها أي تغيير منذ صدور القانون، رغم تغيير الهيكل الإداري للوزارة أكثر من مرة.

والأهم من ذلك بلا جدال هو التطبيق العملي، الذي يعتمد على وجود إرادة سياسية من قمة الهرم، ورقابة شعبية من قاعدته تنتبه إلى ضرورة إنهاء ارتهان المصالح العليا للبلاد برغبة فرد واحد، والحد إلى أقصى درجة ممكنة من التأثير السلبي للأهواء الشخصية للساسة على عملية صنع القرار السياسي. وبالطبع لن يكون ذلك ممكناً كما أسلفنا إلا في إطار بناء مؤسسات قوية، تعمل في إطار قواعد واضحة، ولها صلاحيات تمنع الرئيس وكبار المسئولين من اختطاف السياسة لصالح مصالحهم وأهوائهم الشخصية.

إذا كانت السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة تفتح باباً يفضي للفساد الأعظم، فالأولى أن نسد كل منافذه ونحتاط لكل ذرائعه.

د. نايل شامة

* نُشرت هذه المقالة بجريدة الأهرام (بتاريخ 19 نوفمبر 2011).