Friday, June 17, 2011

الحداثة الرثة: وزارة الخارجية نموذجاً




مبنى وزارة الخارجية الشاهق المكون من أربع وثلاثين طابقاً، والمطل على كورنيش النيل، وبالقرب من وسط المدينة، صار لأناقته علماً من أعلام العاصمة المصرية، ومظهراً من مظاهر المدنية والحداثة في مصر القرن الحادي والعشرين. والمبنى من الداخل لا يقل بهاء وأناقة عن صورته من الخارج، خاصة لو تمت مقارنته بمباني باقي الوزارات والمؤسسات العامة المصرية، والتي نرزح في الأغلب تحت وطأة القبح والإهمال. وفي داخل المبني لا تخطىء العين رجال ونساء الدبلوماسية المصرية في ملابسهم الرسمية، وهم يمرقون في الردهات بكل همة ونشاط.

انتقال الوزارة إلى مبناها الجديد الحالي تزامن مع خطة تحديث وتطوير الوزارة، والتي اضطلع بمسئوليتها وزير الخارجية الأسبق عمرو موسى في بداية التسعينات، والتي كان من بين تجلياتها التعامل الناجع مع ثورة الاتصالات والمعلومات، وذلك بإنشاء بنك للمعلومات، واعتماد الأرشفة الكمبيوترية، وربط البعثات الدبلوماسية في الخارج بالوزارة عبر شبكة اتصالات مؤمنة.

كل هذه المظاهر الحداثية تبعث على التفاؤل والثقة، إذ تبشر بمؤسسة قوية، ومحترفة، وفاعلة، تؤدى مهمة وطنية على درجة عالية من الأهمية، وهي في أدائها لتلك المهمة تنتمي إلى العصر، وتهتم بالمستقبل بأكثر من انشغالها بالماضي. ولكن هذه الواجهة اللامعة تخفي وراءها بكل أسف واقعاً رثاُ بامتياز.

فالحداثة الرثة بحسب برهان غليون - أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون – هو نمط الحداثة السائد في الوطن العربي. وسبب التسمية يرجع إلى كونها "حداثة مشوهة"، فالبناء حديث، ولكن الروح بالية، ومنتجات التكنولوجيا الحديثة في كل يد، ولكن طريقة الاستخدام وغاياته عتيقة ومتخلفة. ولذلك فإن الحداثة الرثة – وقد استغنت عن قوة الدفع الروحية للحداثة – أنتجت قيماً مضادة لقيم الحداثة الحقة. فمؤسسة (الدولة) على سبيل المثال لا تخلق الفرد الحر، السعيد، المنتج، المشارك، كما هو المفروض، ولكنها تقهر الفرد، وتسلبه حريته، وتحوله إلى كائن متقوقع على ذاته، غائب عن الوعي، مبرمج على الطاعة، يدور آلياً في فلك احتياجاته الغريزية.

وإذا كانت الحداثة قد أفرزت في العالم المتقدم دولة المؤسسات القوية، المعبرة عن رغبات وآمال شعوبها، والمشاركة بفعالية في عملية صنع القرار الوطني، فإن الوضع مختلف تماماً في مصر، ووزارة الخارجية المصرية خير مثال. فوزير الخارجية نفسه قائد المنظومة الدبلوماسية ليس في النهاية سوى "سكرتيراً" لرئيس الجمهورية، ومنفذاً للتعليمات التي تأتي من أعلى، في ظل انفراد الرئيس برسم استراتيجيات الأمن القومي، واتخاذ قرارات السياسة الخارجية. باختصار، حكم الفرد الواحد المستمر منذ أيام السلاطين والأمراء والملوك لم يتزحزح قيد أنملة، ورغم دخولنا عصر الحداثة شكلاً، فلا زالت المؤسسة الدبلوماسية خاضعة لهذا الحاكم الفرد حتى النخاع.

وكثيراً ما تعرض وزراء الخارجية المتعاقبون للإهانة المباشرة من رؤساء الجمهورية، فمنهم من بلع تلك الإهانات واستمر في منصبه، ومنهم من أبى أن يستمر في أداء دور الكومبارس، في مؤسسة ينص قانون تنظيمها صراحة على أن مهمة وزارة الخارجية هي "تخطيط وتنفيذ السياسة الخارجية للجمهورية". ولكن في ظل سطوة ثقافة الحداثة الرثة، ما قيمة أي قانون في مقابل رغبة السلطان ونزواته؟

ويروي وزير الخارجية الأسبق د. مراد غالب في مذكراته "مع عبد الناصر والسادات: سنوات الانتصار وأيام المحن" أن الرئيس السادات لم يكن فقط يخفي عنه معلومات هامة ودقيقة، تدخل في صلب عمله، بل كان يتعمد تضليله، وإخفاء نواياه الحقيقية عنه. والأمثلة كثيرة أيضاً في مذكرات الوزير الأسبق محمد إبراهيم كامل (السلام الضائع في اتفاقيات كامب ديفيد) على عدم اكتراث الرئيس السادات بنصائح خبراء وزارة الخارجية، وتسفيهه لآرائهم، وإبعاده المتعمد لهم عن مباحثات كامب ديفيد المصيرية. ولعل في تساؤل السادات المتهكم "بقى إنت فاكر نفسك دبلوماسي يا سي محمد؟" التي باغت بها وزيره يوماً، ما يلخص نظرة رئيس الجمهورية في مصر لوزير خارجيته. فكأنما أراد السادات أن يقول لوزيره: أنت لا تفهم شيئاً، وليس مطلوباً منك أن تفعل شيئاً أصلاً، سوى الانصات التام لما أقول، والتنفيذ الفوري له.

ورغم معاناة الوزارة من جور آليات صنع القرار في الدولة المصرية، بسبب مركزيتها الشديدة واستئثار رئيس الجمهورية بالملفات الهامة، فقد استنسخت الوزارة نفس العوار في إدارتها لشئون العمل بداخلها. ويعلم أي متابع لوزارة الخارجية كيف أن الإدارات المفترض أن تكون - نظرياً - هي الأهم والأنشط صارت الأقل أهمية، والأكثر تهميشاً (مثل إدارة إسرائيل). والسبب يرجع إلى استئثار مكتب الوزير بالملفات الاستراتيجية الأساسية لسياسة مصر الخارجية. وهنا تكمن المفارقة: كلما ازدادت أهمية الموضوعات (أو المناطق الجغرافية) المنوط بها إدارة ما، كلما تقلص دور هذه الإدارة، وقل الاهتمام بنشاطها، نتيجة الإقصاء السافر لها من قبل الوزير ومكتبه. وبهذا، وبوجود سلطان في الرئاسة، وآخر في الوزارة، فلا تسل عن كفاءة الدبلوماسية المصرية في التعامل مع تحديات القرن الحادي والعشرين.

ولأن الوزارة هي جزء أصيل من النظام المصري الذي جمع "المجد" من طرفيه: الفساد والاستبداد، وهي صوته الرئيسي في التعامل مع العالم الخارجي، فهي مضطرة دوماً إلى الدفاع، وباستماتة، عن سجل هذا النظام المخزي في مجالات الديمقراطية، واحترام الحريات، وحقوق الإنسان. وبما أن وسائل الاتصال الحديثة قد قربت المسافات، وأبرزت العورات، ولأن للنظام المصري في كل منطقة من رأسه عورة كبيرة يحسس عليها، فقد وجدت الوزارة نفسها منغمسة حتى أذنيها في الكذب، والتضليل، ولي عنق الحقائق. ومراجعة تصريحات الوزير أحمد أبو الغيط والمتحدث الرسمي للوزارة شاهد على ذلك. بمعنى آخر، يستمر قهر الدولة السلطوية كما كان دائماً، ويقتصر دور وزارة الخارجية على تلميع صورتها، وإخفاء عيوبها، والطنطنة لإنجازاتها، هذا إن وجدت.

وفي لغة الخطاب السائد بين الدبلوماسيين ما يؤكد على استشراء العقلية الرثة، اللامنتمية إلى العصر الحديث، الذي بشر بمبادىء العدالة والحرية والمساواة. مثال ذلك الاستخدام المقدس للقبي (بك) و(هانم) في التعامل بين الدبلوماسيين (وعلى سبيل التمييز، لا يحظى الإداريين العاملين بالوزارة بالطبع سوى على لقب "أستاذ") رغم إلغاء الألقاب منذ أكثر من نصف قرن، وذلك انعكاساً لسيادة عقلية رجعية، لا تتناسب مع روح العصر، وما كان ينبغي لها أن تستقر في مؤسسة وطنية، ترعى مصالح المصريين جميعاً، وتعتبرهم متساويين تماماً في الواجبات والحقوق. والأدهى أن يتم مأسسة ذلك التقليد الرث، بالتشديد على صغار الدبلوماسيين على أهمية استخدام تلك الألقاب البالية أثناء دراستهم بمعهد الدراسات الدبلوماسية (مادة: بروتوكولات ومراسم) فور التحاقهم للعمل بالوزارة. وبما أن الدبلوماسيين قد صاروا بكوات وهوانم – بكل ما تحمله تلك الألقاب من مدلولات، وما تسبغه من مكانة خاصة – فلا عجب أن تستشري شكوى المصريين من سوء معاملة السفارات والقنصليات المصرية بالخارج.

أضف إلى ذلك أن التحديث الذي حدث للمظهر لم يواكبه تغيير كبير في جوهر آليات العمل. فلا زالت الواسطة تلعب دوراً كبيراً في انتقاء الدبلوماسيين للعمل بالوزارة، بل وفي اختيار العواصم الأجنبية المميزة التي سيعملون بها. والأقدمية – وليست المهارة أو الكفاءة الوظيفية – شأن مقدس لا يمكن تخطيه، ما يشير بوضوح إلى أن مبادىء ومعايير الإدارة الحديثة غائبة، والواسطة حاضرة، والفساد مستشر.

في كل زيارة لمقر وزارة الخارجية الأنيق، تتضح لي بكل جلاء معاني العبث واللامنطق....والحداثة الرثة.

د. نايل شامة

* مقالة تمت كتابتها في نهاية العام الماضي، ولم تنشر.