Wednesday, April 9, 2008

أمن العرب بين فكي إسرائيل وإيران




خصص الكاتب الكبير فهمي هويدي في الآونة الأخيرة عدداً من مقالاته للتعبير عن دهشته من مواقف بعض الدول العربية المتباينة تجاه كلٍّ من إيران وإسرائيل. فقد استرعى انتباه هويدي كيف أن بعض الدول العربية تنظر إلى إيران باعتبارها خطراً حقيقياً يهدد أمنها القومي، في ذات الوقت الذي تمد فيه جسور التعاون والصداقة مع إسرائيل. كما يعتقد هويدي أن التساؤل المطروح بين النخب الثقافية وفي وسائل الإعلام عن الخطر الأكبر الذي يهدد أمن الوطن العربي، هل هو إسرائيل أم إيران، هو سؤال "غريب وشاذ"، و"يعبر عن درجة عالية من الخلل في الرؤية"، إذ أنه من "البديهيات والمسلمات" أن إسرائيل هي مصدر التهديد الحقيقي لكلٍّ من العرب والإيرانيين. أما إيران فليست - في أسوأ الفروض - سوى خطرٍ محتملٍ على منطقة الخليج العربي فحسب.

المفارقة التي أقلقت هويدي مشروعة ومنطقية. فقد ظل الصراع نمط تفاعل العالم العربي الرئيسي مع إسرائيل منذ فيامها في عام 1948م. واتخذ هذا الصراع الشكل العسكري لستة مرات على الأقل (48، 56، 67، 73، 82، 2006). وأعوام المواجهات توضح أنه منذ الأربعينات شهدت كل العقود تقريباً حربأ تقليدية بين الجيش الإسرائيلي وإحدى الدول العربية على الأقل. وإذا أُضيفت إلى تلك الحروب الانتفاضات الفلسطينية المتكررة منذ العام 1987م لتبين حجم واستدامة الصراع المسلح بين إسرائيل وجيرانها العرب، والذي استحق بجدارة وصف "الصراع العربي-الإسرائيلي". كما أن استمرار إسرائيل في احتلال الأراضي العربية المحتلة، وتلكؤها في تنفيذ استحقاقات عملية السلام يضيف مزيداً من الشكوك حول جديتها في التخلي عن أحلامها التوسعية، والعيش في سلام مع جيرانها.

وحتى إذا نحي العرب إرث الماضي المتخم بالشكوك وعدم الثقة جانباً، فلن يكون من السهل عليهم التغاضي عن حقيقة أن إسرائيل هي في الحاضر أقوى دول المنطقة عسكرياً وتكنولوجياً، وأنها تعمل جاهدة - بمساعدة الولايات المتحدة - على أن يبقى جيشها باستمرار متفوقاً على الدول العربية مجتمعة. وهي فوق ذلك مدججة بمئات الرؤوس النووية في منطقة جغرافية شاسعة تخلو من الأسلحة النووية.

والحق أن نظرية توازن القوى – وهي من أشهر نظريات العلاقات الدولية – تشير إلى أنه في أي نظام إقليمي تتحالف الدول الأضعف مع بعضها البعض في مواجهة الدول الأقوى. والدافع وراء ذلك السلوك يعود إلى يقينها من أن مصالحها (وربما بقائها ذاته) سيكونان مهددين إن لم تتصدى – وفي الوقت المناسب – للقوى الأقوى قبل أن تحكم سيطرتها على مقاليد الأمور، وتنتزع التنازلات في محيط نفوذها. ولذلك قال رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل: إن الاستراتيجية البريطانية اعتمدت لأربعمائة عام على مواجهة القوى الأكبر في القارة الأوروبية.

ولذلك يبدو طبيعياً أن تتكتل الدول العربية ضد إسرائيل التي تفوقت عسكرياً لعقود، والتي يرى الكثيرون أنها ستسعى في زمن السلام إلى مواصلة السيطرة بوسائل اقتصادية. وفي هذا السياق تبرز مقولة شيمون بيريز الشهيرة أثناء انعقاد المؤتمر الشرق أوسطي بالدار البيضاء: إن مصر قادت العرب أربعين سنة فأوصلتهم إلى هذه الهاوية. ستتحسن أوضاع الإقليم الاقتصادية عندما تتولى إسرائيل قيادة الشرق الأوسط.

من هذا المنطلق تبدو وجاهة تساؤلات فهمي هويدي. والإجابة تكمن فيما طرحه ستيفن والت أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد من تعديل على نظرية توازن القوى التي سيطرت على تفكير علماء السياسة الدولية لعشرات السنين. ففي كتابه الصادر عام 1987م "جذور التحالف"، خلص والت إلى أن الدول تسعى لمجابهة الدول الأكثر تهديداً لها في نطاقها الإقليمي عوضاً عن تلك التي تمتلك مصادر القوة الأكبر. وعلى الرغم من أن ضراوة تهديد طرف ما تعتمد جزئياً على ما يمتلكه هذا الطرف من قوة، إلا أنها تتضمن أيضاً حساب النوايا العدوانية. وفي كثير من الأحيان لا تكون الدول الأكثر تهديداً هي الأقوى مادياً. وبالتالي فإن مفهوم "توازن القوى" (Balance of Power) يجب أن يُستبدل بمفهوم أكثر دقة وهو "توازن التهديد" (Balance of Threat). المفهوم الجديد يأخذ في الاعتبار العناصر المادية (كالقوة الهجومية والقرب الجغرافي) ويزيد عليها بإدراج العناصر النفسية (وبالتحديد النوايا العدوانية للآخرين).

لقد واجهت ألمانيا - وحلفاؤها - في الحربين العالميتين الأولى والثانية تحالفاً واسعاً من الدول ليس لأنها الأقوى من الناحية العسكرية والاقتصادية، وإنما بسبب شراستها وسياستها العدوانية التي أقنعت جيرانها بأنهم إزاء خطر داهم يجب احتواؤه سريعاً. وبالمثل واجه النظام البعثي في سوريا الستينات عزلة واسعة في العالم العربي، بسبب السياسات الراديكالية التي اتبعها قادته، وليس بسبب إمكانياته المادية، والتي كانت شديدة التواضع وقتها، ولا تدعو إلى القلق.

نفس المنطق يمكن أن يفسر نمط تفاعل بعض الدول العربية حالياً مع كلاً من إيران وإسرائيل. فدول الخليج العربي مثلاً لا تري في إسرائيل - رغم تفوقها العسكري الكاسح - خطراً مباشراً يهدد أمنها، ببساطة لأن الأخيرة لم يثبت أنها هددت وحدة أراضيها. وإن كان للسياسة الإسرائيلية من أهداف في هذا الإقليم فهي اقتصادية بحتة، مثل تأمين إمدادات البترول، وجذب فوائض عائدات البترول، وإقامة مشروعات مشتركة...الخ. وكل هذه الأهداف لا تصب بالضرورة في صالح الطرف الإسرائيلي فقط، بل يمكن - نظرياً على الأقل - أن تكون مفيدة لمصالح الطرفين.

في نفس الوقت تتسم نظرة دول الخليج إلى إيران بالريبة والشك. فلقد سبق وأن طالبت إيران بضم دولة خليجية بأكملها - وليس إقليماً أو مدينة - وهي البحرين. وهي تحتل منذ أوائل السبعينات ثلاث جزر تطالب بها دولة الإمارات العربية المتحدة. كما أن مفهوم "تصدير الثورة" الذي ظهر وراج في أعقاب الثورة الإسلامية كان موجهاً بالأساس إلى الدول الإسلامية المجاورة. وفي هذا الإطار يدور حديث طويل في وسائل الإعلام حول الخلايا الإيرانية النائمة التي زرعها الحرس الثوري الإيراني في المدن الخليجية لاستخدامها حين تستدعي الضرورة. ومن حين لآخر تخرج تصريحات بعض المسئولين الإيرانيين لتزيد من إحساس القادة الخليجيين بالقلق، مثل تصريح علي شمخاني كبير المستشارين العسكريين للمرشد الأعلى للثورة الإسلامية لصحيفة "الصنداي التايمز" البريطانية (10 يونيو 2007م) بأن إيران ستقصف محطات الطاقة ومضخات النفط في الخليج في حال أقدمت واشنطن على توجيه ضربة عسكرية ضد طهران. وإذا أخذنا في الاعتبار عامل القرب الجغرافي، والتفاوت الكبير في حجم السكان، وفي القدرات العسكرية للطرفين، خصوصاً مع سعي إيران في السنوات الأخيرة لامتلاك التكنولوجيا النووية، لأمكن فهم دواعي القلق الخليجية.

لعل إحدى مكامن الضعف في رؤية هويدي أنه لا يمكن من الناحية التحليلية وضع كل الدول العربية في سلة واحدة من زاوية تحديد الأهداف الاستراتيجية العليا وإدراك مصادر التهديد، فالموقف من إسرائيل يتباين تبعاً لاختلاف الموقع الجغرافي، إذ لا تري دول الخليج العربي والمغرب العربي في إسرائيل خطراً داهماً، كما هو الحال مع دول المواجهة، كسوريا مثلاً. كما أن وجود مصادر أخرى للتهديد أكثر ضغطاً وإلحاحاً (بشقيها المادي والمعنوي) يحجب الخطر الإسرائيلي، ويبعده عن مصاف الأولويات. على سبيل المثال، أيهما أكثر تهديداً لأمن السودان ووحدة أراضيه، تشاد أم إسرائيل؟ أما مفهوم القومية العربية ومشاعر التضامن الإسلامي، فقد اضمحل دورهما في تشكيل سياسات الدول العربية، للدرجة التي جعلت بعضها يُحمل حزب الله مسثولية اندلاع حرب صيف 2006م.

لكل تلك الأسباب لا تثير مواقف تلك الدول العربية الدهشة، أو تعبر عن خلل في الرؤية، ولا يعتبر الاعتقاد بأن الخطر الإسرائيلي هو الأكبر لكل الدول العربية من "البديهيات والمسلمات".

د. نايل محمد شامة

* نُشرت هذه المقالة في جريدة العربي (بتاريخ 30 مارس 2008م).