Thursday, September 21, 2017

يوم تحين لحظة التغيير في مصر (4): خطوات على درب المستقبل

وبعد، فلا شك أنه ثمة صعوبات هائلة وعقبات عديدة تقف على طريق التغيير الوعر، سواء الآن، أوعندما تنفغر فرصته كزهرة ناضرة يوماً ما، لكن الفشل بالتأكيد ليس مصيراً محتوماً أو قدراً مقدوراً. ولعله من العبث تناول عوامل التغيير دون التوقف ملياً أمام شرطين رئيسيين - ومرتبطين ببعضهما البعض - من شروطه، ألا وهما الحداثة والمعرفة.
فالحداثة الحقة – لا تلك الرثة المهيمنة على حيواتنا والمتوغلة تحت مسام شعوبنا - تعد من الزاويتين الهيكلية والقيمية من العوامل التي تسهل عملية الانتقال الديمقراطي. في ظل التقليد يظل الوجود في بؤس، والوجوه في وجوم، والدهر في تكرار سقيم. فقط في ظل مجتمعات مغمورة في البنى التقليدية والمعتقدات البالية يمكن أن تتطاير من الأفواه الأباطيل المحشوة خبلاً، مثل ما قال القذافي يوماً حين أفتى بأن الديمقراطية معناها الديمومة على الكراسي، أو أن يقول وزير في ملاوي دفاعاً عن رئيسه المستبد: "لا توجد معارضة في الجنة. الله نفسه لا يريد معارضة، ولذلك طرد الشيطان من جنته. فلماذا يجب على كاموزو (رئيس البلاد) أن تكون له معارضة؟"  وفي مصر تكرر عبر السنوات استخدام عبارات مثل الزعيم الملهم والرئيس المفدي والقائد فلتة الزمان الذي هو هدية من السماء. مع الحداثة يأتي التنوير وتتوارى اللجة ويرتفع الوعي وتقضي الجهالة نحبها، في ما يخص السياسة وما يخص غيرها. إذ مخطئ أشد الخطأ من يظن أن موقف الناس من مسائل اجتماعية وثقافية محضة مثل الثقافة الأبوية وميراث الإناث والختان والنظرة للفنون والموقف من الأقليات ومن الآخر منفصل عن موقفهم من قضايا الاستبداد والديمقراطية. بل هي في غالب الأمر منظومة واحدة كالأواني المستطرقة ينفث بعضها في بعض، إما تنويراً أو جهلاً.   
كذلك لا مناص أبداً من المعرفة، ففيها الخلاص الأخير من ربقة الاستبداد، وهي بالتالي شرط رئيسي من شروط التغيير الحق. فمهما صدقت نوايا الطليعة المستنيرة، ومهما بلغت درجة إخلاصها، فإن مجهوداتها تظل معلقة في الهواء إن جرت في محيط تهيمن عليه منظومة الجهل، وسائر الأفكار والتصورات الناتجة عليها. أليس هذا ما حدث تقريباً لتجربة يناير؟ طليعة متسلحة بأفكار العصر وروحه، ومستعدة لبذل الغالي والنفيس من أجل الوطن، لكن مكاسبها في الميدان صارت هباءاً تذروه الرياح حين اتسعت القاعدة لتضم الجميع، الواعون والغافلون، نافذو البصيرة ومن ينظرون تحت أقدامهم، قوى الاستنارة وقوى الظلام.
لكن تغيير العقول يتطلب وقتاً وجهداً وصبراً، والمستقبل لن ينتظر طويلاً، وساعة العمل دقت بالفعل. في السطور القادمة بضعة أفكار عن سبل تجاوز المأزق الراهن. ومن المهم هنا الإشارة إلى أن هذه مجرد أفكار عامة وأولية، هي أقرب إلى العصف الذهني منها للرؤية المكتملة، أساهم بها في النقاش العام حول المستقبل، لعلها بالاشتراك مع أفكار أخرى تزيل من الدرب حجراً، أو تنير في العقل طريقاً:
-          المصالحة الوطنية ليست ترفاً، بل ضرورة سياسية وحق إنساني. ويجب أن تشمل المصالحة الجميع، إلا من ثبتت عليه بشكل فردي تهم الفساد السياسي أو الإرهاب. وفي هذا الإطار، لا ينبغي أن تؤخذ فئة أو طائفة أو حزب بجريرة بعض أفرادها من المارقين أو الفاسدين، فذلك لا يحقق عدلاً بل يطبق عقاباً جماعياً. ولأن الجروح غائرة والميراث ثقيل، فلتعتمد المصالحة في مهدها على عتصرين. الأول قليل من الإغضاء عن أخطاء الماضي، وذلك بالتسامي فوق دواعي الكبرياء والخوف، ولواعج البغض والمقت، التي لا تمسك بمجتمع إلا نهشته وأقعدته عن النهوض. أما الثاني فإعمال مبدأ "المصارحة قبل المصالحة" تأكيداً على حسن النوايا وإزالة للريبة والشكوك. وبشكل عام من المهم أن نجعل من الماضي - كما قال توفيق الحكيم - منصة للقفز لا أريكة للاسترخاء، وأضيف  من عندي: ولا سوطاً لجلد الذات والغير. أما من الناحية العملية، فإن تجارب المصالحة الوطنية التي يمكن أن ننهل من دروسها عديدة، من جنوب افريقيا ورواندا لميانمار وشيلي وجواتيمالا وغيرها.   
-          إنهاء حالة التشرذم القائمة حالياً بين جميع القوى الديمقراطية صارت ضرورة، إذ لا يعقل في مواجهة سلطة تتشبث بمواقعها باستماتة أن يوجد على الساحة كل هذا العدد من القوى والتنظيمات دون أن تتحد تحت مظلة واحدة وبرنامج عمل موحد. في إطار ذلك، لعل البداية تكون بصياغة وثيقة أساسية تضم مبادئ عامة ومطالب رئيسية، تراعي الحد الأدنى للتوافق ولا تتطرق لمواطن الخلاف. ثم يلي ذلك محاولة الحصول على دعم القوى السياسية والمواطنين لها، بغرض زيادة الضغط على السلطة لتقديم تنازلات حقيقية فيما يخص المجال السياسي وأوضاع حقوق الإنسان. 
-          توسيع معسكر الراغبين في التغيير، وذلك عبر تخفيف هواجس الخائفين من التغيير المتعلقة بالأمن القومي واستقرار الأوضاع، وتبديل مفاهيمهم عن الثورة والتغيير، عبر تبيان أن الهدف الأخير والأسمى مشترك، ألا وهو رفاهة الشعب وسعادته، وأن الاختلاف بيننا يكمن فقط في وسائل هذا التغيير. وأيضاً إظهار أن مصر تستحق ما هو أفضل بكثير من الوضع الراهن، وأن تحقيق ذلك أمر غير عسير. فالوطن للجميع مهما عصفت ريح الخلافات بنا، هو لنا كلنا الأصل والعمر والمآل، وإخوته لن يطمسها شئ أبداً، والمستقبل يظل دائماً أهم من الماضي.   
-          امتلاك زمام المبادرة أمر حيوي، على الأقل لإثبات أن قلب السياسة لم يكف عن الخفقان. ومع أهمية دخول كل معترك مدني أو قانوني من أجل اثبات التواجد ونشر الأفكار، وعدم ترك الساحة خالية للسلطة وأدواتها، إلا أن التركيز على الملفات المهمة أمر أكثر جدوى. فالاصطفاف خلف أهداف قليلة ومحددة أفضل من تبديد الجهود في الهرولة وراء كل القضايا. ولعل الأولوية الآن هي للتباحث في شأن الموقف من الانتخابات الرئاسية المقرر أن تبدأ إجراءاتها في غضون شهور قليلة. يأتي ذلك على الرغم من تضاؤل فرص الفوز بها. ولكن لعل الجميع يدرك أن المعارك كثيراً ما تحسم بالنقاط لا الضربات القاضية. وأياً كان الموقف من الانتخابات وغيرها من القضايا فالمهم أن يظل دائماً موقفاً موحداً وثابتاً.
-          أما معايير اختيار المعارك السياسية الواجب التركيز عليها فيعتمد على أهمية الموضوع وتأثيره على فرص حلحلة الأوضاع وتقويض السلطة وتمهيد الطريق نحو تغيير أكبر. ويمكن الاقتداء في هذا الصدد بالتجربة الناجحة التي خاضها المحامي القانوني خالد علي في مواجهة اتفاقية ترسيم الحدود المصرية السعودية.  
-          البحث عن قيادة تروج وتعبر عن معاني الديمقراطية وقيم الحرية واحترام كرامة الإنسان. فالشعوب تميل بالفطرة لشخصنة الأفكار، وأغلب الناس كما قال الملك الحسن الثاني يوماً لا يكترثون كثيراً بالبرامج أو الخطط أو الأفكار وسائر المطلقات، وإنما بفريق من البشر، يتبعونهم ويخلصون لهم، ويفضل أن يكون لهذا الفريق قائد واحد وصوت واحد. كان هذا حال عبد الناصر الذي جسد للجماهير معاني الحرية والاستقلال والنهضة، وأعفاهم من مشقة التفكير في هذه المفاهيم السياسية ومدلولاتها العملية. وعلى الرغم من أن في جوهر هذا المنحى استسلاماً لآليات غير صحية نأمل أن تتغير، إلا أن للضرورات في هذا الزمن الوغد أحكامها.    
-          التمييز بين معارضة سياسات السلطة وهو حق أصيل، وبين الحفاظ على وحدة الجيش، وهو واجب لا يتزعزع. فالقوات المسلحة بحجمها ودورها وتاريخها ركن لا غنى عنه في الحفاظ على وحدة البلاد وسلامتها، ولا يمكن بأي حال من الأحوال محو ارتباط الشعب بالجيش، ولا محو الذكرى العطرة لأكتوبر 1973م. وإنطلاقاً من الحرص على سلامة الوطن والجيش معاً فلابد من الإعلان وبلا مواربة أن العلاقات المدنية-العسكرية تعرضت لخلل شديد في السنوات القليلة الماضية. وأن لهذا الخلل تبعاته السلبية على كل مناحي الحياة في مصر. ولا حل لاستعادة التوازن المفقود في المجتمع سوى بعودة كل طرف إلى قواعده. ومن ثم تبرز أهمية فتح حوار مع قيادات المؤسسة العسكرية، وشرح كيف أن انفتاح المجال السياسي ليس استهدافاً للجيش، بل هو على العكس يصب تماماً في مصلحته، الآن ومستقبلاً.   
-          في إطار إدارة العلاقة الشائكة مع السلطة، لم لا يتم إحياء فكرة الوفد؟ المقصود تكوين وفد بقيادة شخصية قوية العزائم كريمة الشمائل لا سبيل للطعن في شرفها، وذات مصداقية وشعبية واسعة في الداخل والخارج، وعضوية مجموعة من رموز الأمة. ويكون تكوين الوفد تعبيراً عن أن الأوضاع لم يعد من الممكن السكوت عليها، ومهمته أن يتفاوض مع السلطة رافعاً لائحة محددة من الطلبات المدعومة شعبياً (أكرر، المقصود التفاوض حول طلبات، لا رفع الطلبات انتظاراً لمكرمة أو هبة). ربما قال قائل إن السلطة عصية على الإصلاح، ولا فائدة من الحوار معها، وربما كان هذا صحيحاً. لكن التجربة خير برهان، ثم أن الفكرة في حد ذاتها ستؤدي إلى قليل من إعادة إحياء السياسة بوصفها ميداناً للتفاوض بين مختلف قوى المجتمع. أليس هذا أفضل – ولو قليلاً – من حالة الموات التام السائدة حالياً؟   
أما اللاءات الثلاث التي ينبغي أن تحكم ميثاق العمل الوطني فهي:
1-      عدم اللجوء للخارج بتاتاً، لأن المسألة برمتها مصرية. أما الجبهات التي تشكل في الخارج فغير مفيدة ولا قيمة لها، لأسباب مبدأية، فضلاً عن أنها تشوه سمعة الجهود الوطنية، إضافة إلى أن التواجد بالخارج يعرضها للاستغلال من الدول المضيفة، ولها مصالحها الخاصة بالطبع.
2-      عدم اللجوء للعنف. ففضلاً عن أسئلة المشروعية الأخلاقية الواضحة فإن الجدوى السياسية له محدودة للغاية.
3-      التوقف عن التخوين والسباب والنبش في اختلافات الماضي وإطلاق الاتهامات الجزافية بحق الحلفاء والغرماء على حد سواء. قديماً قيل: اعوجاج اللسان علامة على اعوجاج الحال. وعدالة القضايا بالفعل يلوثها السلوك والخطاب المعوج للمدافعين عنها.  
ما لا يدرك كله لا يترك كله، والنزال في القضايا الكبرى يحتاج لنفس طويل، واحتساب للصبر الجميل، ثم تنويع في الوسائل وتفرقة بين المراحل المختلفة للصراع دون تململ أو شكوى، ويبقى أن إشعال شمعة خير ألف مرة من لعن الظلام أناء الليل وأطراف النهار، وهو ما وصل إليه حالنا للأسف الشديد. 

د. نايل شامة
* نُشرت هذه المقالة بموقع المنصة (بتاريخ 21 سبتمبر 2017).        


Wednesday, September 13, 2017

A New Middle East?

Peering into the state of affairs in the Middle East reveals that the region might be on the verge of sea change. On various levels, and in several subsystems, a significant remoulding of maps, alliances and norms seems to be on the horizon. In this Middle East in flux, fundamental alliances are crumbling, old paths are being abandoned, political articles of faith are questioned, new plots and schemes are planned, emerging actors that don’t play it safe are asserting their presence, and traditional powers are groping to find their way amid increasing difficulties.
The winds of change are blowing in all directions. The contours of some of these changes already manifested themselves in the crisis that erupted last June between the United Arab Emirates (UAE), Saudi Arabia, Egypt and Bahrain on one hand and Qatar on the other. The standoff demonstrated that small Middle Eastern states that strive to punch above their weight have become regional forces to be reckoned with. In essence, the crisis was a testimony to the rising power of Qatar and the UAE: the former has proved influential enough to trigger the enforcement of a political and economic blockade by four more powerful states; the latter has led the anti-Qatar coalition and strove to push Doha out of the fold.
The crisis also marked the demise of the role of regional institutions, such as the Gulf Cooperation Council and the Arab League (AL), and their replacement by other, less formal and institutionalized, groupings. For instance, instead of its traditional reliance on the AL and the Organization of Islamic Conference, Saudi Arabia has preferred to work within the so-called Arab Alliance in Yemen, and the Quartet in regional politics. If this trend continues, which seems like the case, these institutions run the risk of descending into total irrelevance.     
In Gaza, an unanticipated political warming of relations between Hamas and its erstwhile bitter rival, Fateh’s former security honcho Mohamed Dahlan, has been in the making for months. According to the plan, whose full details are still unclear, Dahlan will return from his exile in the UAE to become prime minister of Gaza, Hamas will retain its control of the security file and Egypt will reopen the Rafah Crossing. Obviously, the step is taken in open defiance of Fateh and the Palestinian President Mahmoud Abbas, with which Dahlan has been at loggerheads for many years.
If finalized, the new arrangement - which is mediated by Egypt, financed by the UAE and indirectly backed by the United States - would significantly reshape Palestinian politics. It would reinforce the current division between Gaza and the West Bank, and undermine the influence of Abbas over Palestinian political and armed factions. It would also subject solid regional alliances to a drastic reconfiguration. News of the plan have already drawn the ire of Abbas and strained Cairo’s longstanding relations with Fateh,
Yet, the most striking outcome of this deal is that it might turn the cautious rapprochement between Hamas and Egypt into a substantial alliance, an unthinkable development in light of the antagonism and mistrust that have governed their relations over the past decades. Hamas has already tightened its control of the Egypt border, and organized a huge rally to declare its support for the Egyptian army in its war against terrorism. In return, Cairo has, as scholar Michele Dunne explained, “abandoned earlier efforts to isolate or crush Hamas,” the Palestinian offshoot of its domestic nemesis, the Muslim Brotherhood.     
Meanwhile, another political storm may be gathering in the heart of the Arab world. A final solution for the Palestinian question - the “ultimate deal” in the words of Donald Trump, or the “deal of the century” as the Egyptian President Abdel-Fattah El-Sisi dubbed it – has slowly come to the surface. It has apparently gained currency in Washington and Arab capitals in recent months. US and Middle Eastern leaders have not explained what exactly is meant by these terms, and whether they describe a workable short-term framework agreement or just a distant long-term objective. However, media reports indicate that the plan offers a formula to solve the Palestinian-Israeli conflict that involves the entire Arab world, and imply that it would radically transform both Middle Eastern politics and geography. According to these reports, the vision includes the establishment of a Palestinian state in Gaza, which would include parts of northern Sinai, and would accommodate Palestinian refugees. Israel would in return concede parts of its territory to Egypt. Full normalization between Israel and Arab states would ensue, which might pave the way for the formation of an Israel-Sunni Arab coalition against Iran.        
Concurrently, the time-honored norms of Arab politics are slowly changing. Most Arab states no longer pay deference, or even lip service, to the ideals of pan-Arabism or Islamism, which have consistently been seen as sources of domestic legitimacy. For decades following the inception of the modern Arab state system, Arab regimes used to make noise about Arab unity, the plight of the Palestinians and the wellbeing of the Islamic Umma. But now they make no effort to hide that realpolitik, not ideology, has become a fact of life in Arab politics. Saudi Arabia, for one, has to a large extent relinquished its historical role as a leading ‘Muslim’ country and the guardian of the Muslim holy shrines. It is now wagering on military might rather than Muslim diplomacy. That’s not entirely a surprise in light of Riyadh’s relentless bombing of a fellow Muslim country, Yemen, and its secret endeavors to develop ties with Israel—both taboos in the eyes of Arab people.
Other crucial developments in the region include a possible rapprochement between two of the region’s leading powers: Iran and Saudi Arabia. Signs suggesting a possible thaw in their icing relations include a handshake between the foreign ministers of the two countries in Istanbul, a rare visit by Iraq’s Shia cleric Muqtada Sadr to Saudi Arabia, and a declared plan to exchange diplomatic visits after the end of the Hajj season. In the shifting sands of the Levant, the Islamic State is losing territory and influence; the balance of power is tipping in favor of the Syrian regime of Bashar al-Assad who is clawing back territory from the rebels; and a referendum for the independence of Kurdistan is slated for September 25.
The implications of these developments for the international relations of the Middle East are still not fully clear, but are likely to be extremely significant. Bashar’s victory will embolden Arab autocrats and undermine the already meagre prospects of democratic transition in their countries; the rise of an independent Kurdistan in Iraq will encourage separatist Kurds in Turkey to follow suit, and may ignite a new civil war in Iraq for the control of the oil-rich city of Kirkuk; the deal of the century would put an end to the 70-year-old Arab-Israeli conflict; and a shift in regional alliances would likely breed a change in the region’s balance of power, disrupt the pecking order of the Arab state system and, perhaps, trigger the birth of an entirely new regional order. Domestically, meanwhile, a world of difference still exists between the expectations of Arab people and the foreign policies of their states. Legitimacy deficits persist, patience is wearing thin and instability remains the order of the day.

Nael Shama
* This essay appeared in The New Arab (English) on September 11, 2017.


Thursday, September 7, 2017

يوم تحين لحظة التغيير في مصر (3): ماذا تعلمنا من التجربة؟

سنوات ست ونيف مضت منذ لحظة الخامس والعشرين من يناير في 2011م، مر فيها الوطن بأكثر التجارب السياسية ثراءاً في تاريخه الحديث. كانت أيام مبارك في مجملها قليلة الأحداث، ضعيفة المردود، خافتة التأثير. تتابعت الوقائع على مدار ثلاثين عاماً بإيقاع ثابت رتيب ممل، يبعث على الخمول والكسل العقلي. وبغتة جاءت يناير وما بعدها، كسيلٍ عارم عرمرم في بركة ميتة، مفسحة المجال لطبقات من التفاعلات الكثيفة بين شبكات من الفاعلين والمشاركين. توالت الأحداث في الدهاليز والثكنات والميادين واستوديوهات التليفزيون، ومع كل حدث عبرة تتجلى، ومع كل انعطافة درس يتكشف، وفي كل قرار مناسبة للتدبر واستخلاص العبر. سنوات ست من الصعود والهبوط والاضطراب والتقلب والرجرجة، لكن بعد هذا الفيض من التفاعلات يجدر السؤال: ماذا تعلمت الأطراف المختلفة حقاً من هذه التجربة الثرية التي عايشتها عن كثب؟ هل عرفنا على وجه اليقين لِمَ لم نتمكن من تجنب المصير الذي آلت إليه يناير؟ وكيف السبيل إلى تجنبه حين تحين "يناير" أخرى؟  
مثلاً، ماذا تعلمت السلطة حقاً من زلزال الثورة؟ هل تفهمت أخيراً أن مفهوم السياسة أوسع كثيراً من مفهوم الأمن؟ هل أدركت أن المشاركة السياسية أساس أي نظام مستقر وقابل للحياة؟ هل أتاها حديث المنطق، فعرفت أن الاستئثار بالسلطة لا يدوم، وأن تأليه الحاكم لعنة تعجل بالنهايات، وأن تكميم الأفواه لا يمنع العقول من التفكير؟ ثم هل - وهو أضعف الإيمان - نما وعيها السياسي، أو صحا ضميرها الإنساني، فأدركت أن الممارسات التي تنتهك كرامة المواطنين لا تقيم أود الدولة ولا تعزز هيبتها، فضلاً عن انحرافها عن جادة كل دين وقانون؟ كلها لاءات تنضح بعمق الأزمة وصعوبة الحل، بل الأدهى أن أهل السلطة ما برحوا يعتبرون أن ثورة يناير إما مؤامرة، أو في أفضل الأحوال "وعياً زائفاً" أدى إلى "تحرك" غير محسوب كاد أن يسقط الدولة وينشر الفوضى. وعوضاً عن تفعيل التغيير اكتفوا بمغازلة الحالمين بالتغيير، يعدون بالرخاء والناس جوعى، ويبشرون بالأمن والناس مذعورون، ويرقصون على نغم العصر الذهبي المرتقب والبلاد في خراب مقيم.
وغلى الجانب الآخر من الصدع الوطني الكبير، ماذا تعلم الإخوان المسلمين من مأساة صعودهم وسقوطهم السريع إبان الثورة؟ هل اقتفوا أثر تجربتي 1952-1954 و 2011-2013م بدقة وأناة، ورصدوا دلالاتها ودروسها؟ هل بلغهم خطر خلط السياسة بالدين أم مازالوا في غيهم يعمهون، يعبون من قدح المظلومية ويعيدون إنتاج سائر الأفكار العتيقة؟ هل قاموا بمراجعة شاملة لعامهم البائس في السلطة مستخلصين مواضع الخلل ومواطن الزلل؟ لم يتغير كما يبدو شئ في أفكار الجماعة المترهل عقلها الجمعي سوى انزلاق فريق منهم نحو العنف السياسي، فصاروا كالمستجيرين من الرمضاء بالنار، يداوون الداء بداء أشد منه فتكاً.   
وماذا عن الأحزاب السياسية؟ للأسف يبدو أن أغلب قادتها وكوادرها لم يدرك بعد أن الصراع الحقيقي إنما هو بين مناصري الديمقراطية وأعدائها، لا بين الليبراليين والإسلاميين أو بين الليبراليين والاشتراكيين، وأنه لا إصلاح حقيقي بدون تعديل في طبيعة العلاقات المدنية-العسكرية القائمة. كما لم يظهر أيهم برهاناً على الإلمام بشروط وعقبات عمليات الانتقال الديمقراطي، كما أظهرتها عشرات من تجارب الدول عبر العقود السبعة الماضية، ومئات من الكتب والدراسات حول تلك التجارب. ثم يبدو أن الأحزاب لم تتعلم أن مغبة الخضوع والقبول بقواعد اللعبة كما ترسمها السلطة، أوخم من مغبة الممانعة، وأن ثمن دعم الاستبداد فادح، وأنها ستكون هي أول من يدفعه. وعلى الصعيد التنظيمي، مازال العراك والتشرذم والشللية وتغليب المصالح الشخصية مهيمناً على سلوكها وتوجهاتها.   
ثم ماذا عن السواد الأعظم من الشعب؟ هل صقلتهم التجربة وأيقظتهم الأزمة؟ ألم يصيبهم الجلوس في مقاعد المتفرجين بالضجر بعد؟ هل نفضوا عن أنفسهم غبار الضعف ووثاق الاستكانة وكفوا عن مؤاخاة اللامبالاة وشرعوا في طريق الوعي ولو بخطوة ؟ هل عرفوا أن الاستبداد مهلك، وأن اليقظة فرض وأن الخلاص للمنتفضين من أجل حقوقهم وعد؟ هل أدركوا أن جدارتهم بإنسانيتهم مرهون بالفكاك من عبادة القوة والهرولة بلا كلل وراء السراب؟  
***
وكأن مصر قد كتب عليها منذ أمد بعيد أن تدور بلا توقف في فلك آليات سيزيفية سرمدية يلوح فيها الأمل مع فجر كل تجربة، ثم ينقشع الوهم، ويتبدد الأمل، وتبوء كل تجربة بالفشل في نهايتها، ثم تتكرر الكَرَّة من البداية مرة أخرى. حماس فترقب فخيبة أمل فشعور طاغ بالهزيمة، وهكذا دواليك. تحمس الشعب "للحركة المباركة" في يوليو 1952م، آملاً في أن يكون في حكم "الضباط الأحرار" بديلاً حسناً لتسلط الملك وفشل الأحزاب السياسية. ثم اتقدت المشاعر وارتفع منسوب الحماس مع جلاء الإنجليز وتأميم قناة السويس والتصدي للعدوان الثلاثي. ثم ما لبثت أن وقعت أقنعة الناصرية وبدت عيوب التجربة شيئاً فشيئاً حتى زالت ورقة التوت الأخيرة مع هزيمة 1967م. 
تكررت الديناميات نفسها مع الرئيس السادات، الذي بدأ عهده بوعود القضاء على مراكز القوى وهدم المعتقلات وتدشين دولة القانون. استبشر المصريون خيراً بتلك الإيماءات، وارتفعت حرارة الاستبشار بالمستقبل إلى عنان السماء مع حرب أكتوبر المجيدة. ثم فتر ذلك الحماس بالتدريج بعدما تعثر الاقتصاد، وساد منطق الانفتاح "سداح مداح"، وحين اتضح أن للديمقراطية مخالب وأنياب حقيقية أودت في سبتمبر الغضب بآلاف السياسيين والمثقفين في غياهب السجون في ليلة واحدة. ظهر أن الليلة تشبه البارحة بل هي امتداد لها. ثم جاء مبارك، فأخرج المعتقلين السياسيين، وبشر بشعار "صنع في مصر"، ووعد بألا يبقى في السلطة لأكثر من فترتين، ثم انتهى إلى ما انتهى إليه من فساد وعناد وتوريث وجمود وفشل محقق.
مع تتابع متواليات التاريخ الحديث، وبعدها دراما سنوات يناير، راحت السكرة وجاءت الفكرة مراراً وتكراراً، لكن الجميع لم يتوقف عن معاقرة الغفلة. يحدث هذا في ظل ثقافة تلح على فكرة أن "المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين"، وأنه "لا حكيم إلا ذو تجربة"، وأن "التجربة خير برهان". باختصار، إن كانت التجارب الماضية رغم تكرارها وثرائها قد تركت فينا من رواسب الحزن ودواعي القنوط ما يفوق ما منحته من نفحات المعرفة، فإن المنطقي أن نكون مثل أولئك الذين لا يعون ماضيهم فيكتب عليهم أن يعيدوه، فنفشل في اقتناص الفرصة حين تداهمنا في المرة القادمة، ثم نبكي على أطلالها ناعين زوال الألم وضياع الحلم.   
وبعد، هل يمكن لمن صارت الغفلة من طبائعهم أن يصنعوا التغيير المنشود؟

وللحديث بقية في الجزء القادم من المقال.     

د. نايل شامة
* نُشرت هذه المقالة بموقع المنصة (بتاريخ 7 سبتمبر 2017).