Monday, June 26, 2017

جمود السياسة وأعاصير الفشل في مصر

فيما يواصل الخطاب الرسمي التبشير بالغد الصبوح الذي ينتظر الشعب المصري بعد هنيهة من الصبر الجميل، تجوس في سماء السياسة والمجتمع في مصر غيوم مدلهمة عابسة مكفهرة القسمات تخفي أضواء المستقبل، وتبسط ظلالاً داكنة من الجزع والوحشة في سماء الحاضر. أربعة عواصف على الأقل تجمعت نذرها في الأفاق، ويشتد أوارها يوماً وراء الآخر، ماضية - إن لم يتم إجهاضها سريعاً - بخطى واثقة نحو ما لا يحمد عقباه.
أولاً: اشتدت وطأة العمليات الإرهابية كماً وكيفاً. فمن ناحية شهدت الشهور الأخيرة اتساع نطاق الهجمات الإرهابية وخروجها من الحيز الجغرافي الضيق الذي انحصرت فيه لعدة أعوام في محافظة شمال سيناء، والذي أشار إليه الرئيس عبد الفتاح السيسي بكونه لا يزيد عن 1% من مجموع مساحة شبه جزيرة سيناء. خرج الإرهاب من مكمنه وامتدت أياديه لتضرب عدة مناطق استراتيجية بالعمق المصري - في أقاليم القاهرة والإسكندرية والدلتا والصعيد - وجنوب سيناء. أما على صعيد الكم فتشير الإحصاءات الصادرة عن معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط إلى زيادة عدد العمليات الإرهابية في نطاق محافظة شمال سيناء من 143 في عام 2014م إلى 426 في عام 2015م ثم 681 في عام 2016م. ثم كان أن دخلت القبائل مؤخراً على خط المواجهة المسلحة مع فرع تنظيم الدولة الإسلامية في شمال سيناء، وهو تطور مآله لا ريب تعاظم الصراع وإطالة أمده. أما الهجمات التي وقعت خارج نطاق شمال سيناء فقد انخفض عددها في عام 2016م مقارنة بالعام السابق، لكن زادت خطورتها وأعداد الضحايا الناجمة عنها في الشهور الأولى من عام 2017م.
سنوات تربو على الأربع انقضت من حرب ضروس مع الإرهاب أظهرت عجز الدولة عن التعامل بكفاءة مع هذا التهديد المتصاعد من زاويتين رئيسيتين. الأولى هي الخطط الأمنية المطبقة على الأرض في خضم المواجهات المباشرة، والثانية تتعلق بالإطار السياسي والفكري الذي زرع الريح فحصد العاصفة، إذ وفرت السياسات المتبعة البيئة المناسبة لبزوغ وتمدد الإرهاب من حيث أراد حصاره واستئصال شأفته. وهو ما أومأ إليه مؤخراً مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان حين حذر من أن الإجراءات الأمنية العنيفة التي تنتهجها الحكومة المصرية تغذي التطرف والإرهاب ولا تقطع دابرهما، مضيفاً أنه ما هكذا يُواجه الإرهاب.   
ثانياً: تشهد الساحة المصرية منذ ديسمبر الماضي استهدافاً منظماً للمسيحيين المصريين، شمل تهجيرهم قسرياً من منازلهم بمحافظة شمال سيناء، واستهداف كنائسهم بالقاهرة والإسكندرية وطنطا وسانت كاترين، إضافة إلى استهداف حافلة تقل مسيحيين في طريقهم للصلاة في المنيا. والأكثر مدعاة للقلق من استهداف العاصمتين الأولى والثانية للدولة المصرية في غضون أشهر قليلة هو أن استهداف الكاتدرائية المرقسية بالإسكندرية في أبريل الماضي وقع أثناء تواجد البابا تواضروس بها، أما حادث المنيا فيكشف عن اتجاه لاستهداف الأقباط في أكثر الأماكن الأمنية رخاوة، وفي أبعدها من الناحية الجغرافية عن مركز الأحداث. هذان التطوران – استهداف أهم القيادات وعامة المسيحيين على السواء - ينذران إن تكررا بتداعيات ونتائج بالغة الخطورة.   
ويدرك المتابع لسلوك وخطاب الفرع المصري للتنظيم أنه ليس في نيتها الإحجام عن استهداف المسيحيين، بل من المرجح أن يتسع المدى الجغرافي وتطول قائمة الأهداف الحيوية لحملتهم الدموية. وبديهي أنه لن تقف عقبى ذلك عند تهديد الأمن العام، وتقويض شرعية النظام، وخفض موارد الدولة من السياحة والاستثمارات الأجنبية فحسب، بل قد تتعداه إلى شق صفوف المجتمع وزرع بذور فتنة طائفية لا يعلم إلا الله آثارها ومداها. 
ثالثاً: مازال الاقتصاد المصري في حالة من التأزم شديدة ومستفحلة. فبعد أشهر من التلكؤ وجر الأرجل، استقرت الجكومة أخيراً في نوفمبر الماضي على ما رأت فيه حلاً للأزمة، وهو تحرير سعر الصرف. لكن الأزمة الاقتصادية مازالت تراوح مكانها بعد أكثر من ستة أشهر من تطبيق الإجراءات الرامية لتعزيز موارد الدولة من العملة الصعبة وتطويق السوق الموازية للنقد الأجنبي. وتشير الأرقام الرسمية الصادرة من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلى ارتفاع معدل التضخم السنوي إلى 31.7% و32.5% و32.9% في شهور فبراير ومارس وأبريل الماضية، وهو معدل قياسي لم يتحقق منذ أكثر من ثلاثين عاماً، أما زيادة أسعار الغذاء والمشروبات فقد تجاوزت على مدار عام حاجز الأربعين بالمائة. في نفس السياق، توقع تقرير لمؤسسة "يولر هيرميس" الائتمانية أن تشهد مصر في عام 2017م أسوأ معدل نمو اقتصادي منذ عام 1967م، أي منذ خمسين عاماً كاملة، وفي سنة تلقت فيها الدولة هزيمة عسكرية ثقيلة.  
رابعاً: برغم تلك الأزمات المستعرة، ما انفكت السياسة متابعة سباتها العميق، فيما يواصل سيف الأمن البتار العصف بالدستور والقانون، وانتهاك الحريات والحقوق بلا رادع أو وازع. وتُظهر أزمات السلطة المستمرة مع السلطة القضائية والأزهر وأطراف في الإعلام إلى انصباب اهتمامها على السيطرة التامة، بالتوازي مع سقوط معايير رأب الصدع المجتمعي ووأد الأزمات في مهدها من سلم أولوياتها. وما التطور الأخير بحجب العشرات من المواقع الخبرية على موقع الإنترنت إلا حلقة في سلسلة طويلة تشي بضيق صدر السلطة بأقل القليل من الاستقلال واختلاف الرأي.
يستمر انسداد الأفق السياسي هذا فيما تبدأ الإجراءات الممهدة لانتخابات الرئاسة 2018م في أقل من عام في بيئة سياسية جدباء، وغياب لكل أنواع الحريات، وعزوف لكل المرشحين المحتملين عن حتى البوح بنواياهم مخافة البطش وتلويث السمعة. يتزامن ذلك مع اختزال السياسة المصرية بكل تعقيداتها ومستوياتها في شخص واحد ومؤسسة واحدة. ذلك أمر جسيم في بلد كمصر، إمكانياته البشرية هائلة لكنها محجوبة ومحاصرة، فصارت كالسيوف في أغمادها يأكلها صدأ النسيان.
ثم جاءت موافقة مجلس النواب على اتفاقية تعيين الحدود البحرية بين القاهرة والرياض - والتي تتضمن نقل السيادة على جزيرتي تيران وصنافير للسعودية – ثم مسارعة الرئيس السيسي في التصديق على الاتفاقية (برغم استمرار النزاع القانوني حول سلامتها الدستورية والقانونية) لتصيب شرعية النظام في مقتل، ولتُفقد قطاعات واسعة من الشعب المصري ثقتهم في النظام السياسي بأكمله. يرى هؤلاء أن النظام القائم بشخوصه ومؤسساته ما عاد مؤتمناً، ليس فقط على رفاهة الشعب وتحقيق تطلعاته في الاقتصاد والأمن، بل حتى على الحفاظ على وحدة الوطن وسيادته على كامل أراضيه. يفاقم هذا التطور الجلل من عمق الأزمة السياسية، ويهدد بحدوث تداعيات سياسية ودستورية واجتماعية لا يبدو أن بمقدور السلطة الحالية التعامل معها بكفاءة.
***
تغذي هذه الأزمات بعضها البعض، ليزيد استحكام الأزمة وليتعمق مأزق الشرعية. لكن الدولة تجابه هذه الحزمة من التهديدات بجعبة خاوية الوفاض من الرؤى بعيدة الأمد والحلول السياسية الناجعة، مواصلة تربصها الدوائر بكل أشكال الاحتجاج، واتكائها على ما بقي من شعبية الرئيس عبد الفتاح السيسي وخطاباته العاطفية، التي توقظ مشاعر الأمل والحماس لبرهة، لكنها لا تغني ولا تسمن من جوع وفقر وإرهاب واستبداد.
ولهذا احتجبت الشمس في سرادق الغيم طويلاً دون بادرة على حل أو حلحلة لأيٍ من معضلات السياسة والاقتصاد والمجتمع الرئيسة في مصر. ومن نافلة القول أن أكبر النار من مستصغر الشرر، وأن تجاهل الأزمات يفاقمها، وأن العواصف الناشئة قد تتحول سريعاً لأنواء هوجاء تنثر الوبال وسوء العاقبة. وعليه فحري بمن بيدهم مقاليد الأمر أن يغوا وينتبهوا ويبادروا سريعاً بإصلاح الخلل من جذوره قبل أن يعصف الريح الصرصر بكل شئ.  

د. نايل شامة

* نُشرت هذه المقالة بموقع المنصة (بتاريخ 26 يونيو 2017).