Thursday, June 19, 2014

الدولة الأمنية والمجتمع الأمني في مصر

  

يقال في التراث العربي إن "الناس على دين ملوكهم"، فصلاح الحاكم يصلحهم وفساده يفسدهم، ويقال أيضاً نقيض تلك العبارة: "كما تكونوا يولى عليكم"، أي أن نظام الحكم ما هو إلا مرآة عاكسة للشعب وشخصيته وخصائصه الثقافية، ومن داخل هذا الإطار طرح الفيلسوف مالك بن نبي مفهوم "القابلية للاستعمار"، والذي يفضي إن مُد على استقامته إلى فكرة "القابلية للاستبداد" عامة. أياً ما كان الأمر فإنه مما لا شك فيه أن ثمة علاقة جدلية تربط بين الحاكم والمحكوم، فكلاهما يؤثر في الآخر ويتأثر به، ليتشكل من دينامية تفاعلاتهما البيئة الحاضنة لهذا أو ذاك التوجه السياسي، والسلوك الإنساني، والمسار الحضاري.    
الوضع في مصر اليوم خير مثال على ذلك التفاعل بين السياسي والمجتمعي، فثمة إحساس طاغ بالحرب غُرس وسُقي في ردهات السلطة، فاستشرى وتوغل بين جنبات المجتمع. تحليل مضمون تصريحات المسئولين سيكشف على الأرجح أن أكثر العبارات تداولاً على ألسنتهم هي "المؤامرة" و"الخطر" و"الأمن القومي". أما وسائل الإعلام المساندة للدولة فاستعاضت عن باحثي العلوم السياسية والاجتماعية بطوفان ممن يشار إليهم بحسبانهم "محللين أمنيين"، وهم ضباط أمن سابقون يدرك أغلبهم السياسة من منظور أمني، ويتحدثون في شئونها على الهواء كما كانوا، على ما يبدو، يثرثرون عنها مع مرؤوسيهم قبل التقاعد. ثم إن الحرب التي تخوضها الدولة المصرية ليست فقط مع الجماعات الإرهابية التي ترفع السلاح وتقوض الاستقرار، بل مع الجميع: مع العالم الذي يترقب ويناقش، ومع الصحافة التي ترصد وتنتقد، ومع شباب تنعي بكائياته ضياع الحلم وانطفاء جذوة الثورة.
انهماك الدولة في قرع طبول الحرب أدى إلى قيام مجتمع ذي حس أمني عال، يرصد المخاطر، ويتحسب لكل كلمة أو هفوة لعلها تخفي ورائها خطراً أو تهديداً عظيماً. سادت لذلك أجواء التربص والارتياب، والخوف من "الآخر"، وبزغت النزعة إلى التفتيش في النيات، وممارسة العقاب الجماعي. والشاهد أن الدولة لم تكتف بحشد المواطنين في معاركها تحت رايات المصلحة القومية وحب الوطن، بل شرعت (ولو ضمنياً) في تأليبهم ضد بعضهم بعضاً. يشير إلى ذلك بوضوح تعبير "المواطنون الشرفاء" الذي ظهر في مصر في أعقاب ثورة 25 يناير. والمقصود بهم أولئك الذين يأخذون على عاتقهم مساعدة الأجهزة الأمنية في القبض على المتظاهرين وتسليمهم للشرطة، بدعوى الحفاظ على الأمن وفرض الانضباط. بعبارة أخرى، هم مواطنون مدنيون انتزعوا لأنفسهم بمباركة أجهزة الدولة حق الضبطية القضائية، والقيام بدور الشرطة في مجتمع يضطرم بنير بالتوتر والانفلات والصراع السياسي. 
بالتزامن مع ذلك، يسود بين عموم المصريين تقدير وتمجيد نادران لرجال الأمن، ما يطرح كثيراً من علامات الاستفهام والتعجب. أولها يتأمل في ما تغير منذ يناير 2011م حين بلغ غضب المصريين من الشرطة مبلغاً دفعهم للثورة عليها ومهاجمة مقارها. وثانيها يتعجب من ذلك الإجلال الذي يتزامن مع استمرار زهق الدماء والتعذيب وسائر الانتهاكات. وثالثها يدهش من عدم قدرة المجتمع على غربلة ما يساق إليه من حجج، واستجلاء القيم منها من الرث.    
لقد تفاقم التشوش في خضم الإحساس بوطأة الصراع السياسي عقب عزل الرئيس محمد مرسي، إذ اختلط المعقول باللامعقول، وامتزجت المفاهيم في شكل يتعذر استيعابه، فصارت الهرطقة ديناً والإيمان كفراً. يتداخل في الفضاء العام زحام من الصور والروايات والحجج المباركة لقبضة الأمن الحديدية، لينتج صورة غائمة مموهة تتأرجح بين فضاءات العبث وابتهاجات الوهم وغوايات الأساطير. الأمثلة كثيرة ومتنوعة، ففي أجواء المجتمع الأمني المحمومة وُصفت حكومة رئيس الوزراء السابق حازم الببلاوي مراراً وتكراراً بأنها حكومة "الأيدى المرتعشة"، على رغم قيامها بإصدار الأمر بفض اعتصامات مؤيدي مرسي الذي أسفر في أقل التقديرات عن وفاة أكثر من 600 شخص في يوم واحد، وعلى رغم قيامها أيضاً بإصدار قانون التظاهر المثير للجدل، وإعتبارها جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية استباقاً لحكم القضاء. وعلى إحدى القنوات الفضائية المصرية انبرت مذيعة لتقول بملء الفم أن "الدولة البوليسية القمعية" كانت وستظل ضرورة لمواجهة الإرهاب. فيما قال إعلامي وصحافي ملأت شهرته الأفاق أن "النفاق مطلوب من أجل الوطن"، وقال صحافي آخر أنه يتشرف بكونه عميلاً لأجهزة المخابرات و أمن الدولة.     
تاريخياً، ظلت نظرة المصريين لرجال الشرطة مثقلة بالمشاعر السلبية والضعائن، وفي رواية "بداية ونهاية" للأديب نجيب محفوظ إشارة مستترة إلا ذلك، لكن شيئاً ما تغير في السنوات الأخيرة. لا يمكن إغفال تأثير الإلحاح الإعلامي على ذهنية الشعب، أو استبعاد الخاصرة الرخوة التي ينفذ منها الاستبداد دوماً لتقديس السائد وتسفيه التغيير: الغرائز البدائية، كغواية الأمل في تحسن الأحوال وعصا الخوف من المجهول.  
لتلك الأسباب وجاهتها، لكن الأمر ربما يتعدى ذلك. لقد استفاض المفكر باولو فريري (1921-1997) في كتابه الأشهر "تربية المقهورين" في الحديث عن "التجرد من الإنسانية" الذي يحدث لكل من القاهر والمقهور في ظل استدامة بنية القهر. يقول فريري أن المقهور المغمور في أغلال بيئة قاهرة لا يدرك حقيقة أنه مقهور على رغم بداهتها، وإن أدركها فهو يخشى الحرية لأنه ألف الاضطهاد وتكيف معه، وإن أدرك الحرية فقد يتحول إلى قاهر جديد، لأن ذلك المفهوم المشوه عن جوهر الإنسانية – القائم بالضرورة على وجود ثنائية القاهر والمقهور - ترسخ في أعماق عقله لدرجة يستعصي محوها. من هنا يمكن فهم لماذا يبرر بعضهم التعذيب مثلاً معتبراً إياه من طبائع الأشياء، أو يضمر الكراهية للتغيير (وبالطبع الثورة) ناظراً إليه في شكل لا واع كشر مستطير ينبغي وأده.      
الدول السلطوية ليست في حاجة إلى مواطنين، بل إلى مخبرين، يعاونوها على أداء مهماتها الأمنية، ويغضون الطرف عن انتهاكاتها، أو يبررونها إن لزم الأمر. أما المواطنون فمنقسمون لفئتين أشار إليهما بحذق وبصيرة الطبيب والكاتب الراحل مصطفي محمود (1921-2009) بقوله: هناك من يناضلون من أجل التحرر من العبودية، وهناك من يطالبون بتحسين شروط العبودية.   


د. نايل شامة

* نُشرت هذه المقالة بجريدة الحياة (بتاريخ 16 يونيو 2014).

Wednesday, June 11, 2014

The Dilemmas of Egyptian Foreign Policy


Although Egypt is a political powerhouse in the Middle East, its foreign policy hardly reflects that. Under its longtime president Hosni Mubarak, Egypt receded into a long phase of quietism and withdrawal. Mubarak is gone, but 'Mubarakism without Mubarak' has persisted, even under the short-lived rule of the Islamist president Mohamed Morsi. As soon as he steps forth into the presidency, Egypt's new ruler, Field Marshal Abdel-Fattah Al-Sisi, will find himself on the horns of multiple foreign policy dilemmas. The way he tackles them will shape the substance, orientation and purpose of Egypt's foreign policy in the near future.
1- Resources and Aspirations
Egypt traditionally sees itself as the natural leader of the Arab world. In his manifesto The Philosophy of the Revolution, former Egyptian president Gamal Abdel-Nasser (ruled 1954-1970) rambled on about a leading role in the region that is "wandering aimlessly about seeking an actor to play it." This role, he added, "should at last settle down, weary and worn out, on our frontiers beckoning us to move, to dress up for it and to perform it since there is nobody else who could do so."[i] The foreign policy of Nasser's successor, Anwar Sadat, particularly the go-it-alone peace deal with Israel, led to Egypt's ostracization in the region. But Sadat was confident that Egypt's isolation in its sphere of influence was only temporary, and that Arabs were bound to follow in its footsteps. Although Mubarak was not interested in the flamboyance of leadership, preferring instead to be a distant, bureaucratic president of a status quo state, he still clung to a vital Egyptian involvement in the Palestinian problem.
The recent rise of Al-Sisi in Egyptian politics revived nationalist sentiments and ambitions after decades of dormancy. Fostered by state institutions and the pro-regime mass media, ostensibly as a bulwark against Islamism, these nationalist sentiments bred a wave of great expectations. On Egypt's cafes and television shows, analogies are frequently drawn between Al-Sisi and Nasser, the leader whose reign witnessed the most dynamic and change-oriented Egyptian foreign policy in modern times. Great hopes are pinned on Al-Sisi's leadership. He will be another Nasser, his supporters wish, taking on the mantle of leadership, defying international powers and restoring Egypt's wounded prestige in the world.
But times have massively changed. Capitalizing on political determination and the availability of resources, Nasser could, with relative ease, fund revolutionary movements in Africa, provide support for Arab states against Israel and lead the developing world, under the umbrella of the Non-Aligned Movement, against the plots of superpowers. His electrifying charisma added an element of inspiration and magic to his foreign policy. For more than ten years (1956-1967), the role Nasser had envisaged as a young officer rested indeed on Egypt's shores.  
Egypt's dire economic situation today inhibits its ability to play the same role. Three years of political turmoil took a great toll on its economy, slowing down economic growth and foreign investment flows and reducing tourism and export earnings. In foreign affairs, the economic crisis increased Egypt's vulnerability and deepened its dependence on Gulf states, especially Saudi Arabia, Kuwait and the UAE, who together provided more than $20 billion in various forms of assistance to Egypt since Morsi's ouster.[ii] As a result, Egypt's foreign policy has been increasingly wedded to the interests of Gulf states, with less autonomy and a narrow margin of maneuverability being the outcome.  
The change in Egypt's stance toward the Syrian conflict is proof of this. Morsi had vocally supported the Syrian "revolution." He severed diplomatic ties with Syria's regime during a rally in which hardline Islamists called for "jihad" against Bashar al-Assad. But a few weeks after the coup, Egypt's Foreign Minister Nabil Fahmy announced that Egypt is reevaluating its relationship with Syria, adding that Morsi's decision to cut diplomatic ties with Damascus would be "re-examined."[iii] In the following months, Cairo's policy on Syria came closer to that endorsed by its Gulf allies, indicating a policy that is "shaped by donors."[iv]
Al-Sisi must find a creative answer to this predicament: How to reconcile needed economic aid from donors with an independent foreign policy? Without aid, Egypt's ailing economy will continue to suffer, but for a populist president like Al-Sisi, dependency on - or worse, acquiescence to - the small oil Sheikhdoms will come at a huge cost: diminished popularity and reminiscence of the notorious days of Mubarak, not Nasser.       
2- Authoritarianism and the Outside World
The ouster of Morsi, and the subsequent crackdown on the Muslim Brotherhood (MB), unleashed all the demons of the authoritarian state, which had been dormant since Mubarak's overthrow in 2011. In the name of combating terrorism and restoring the 'prestige' of the state, thousands have been killed and arrested in the span of a few months, an Orwellian protest law was issued and dissent has been quashed using all possible means. Such draconian measures cannot take place in today's globalized, interconnected world, which attaches great importance to liberties and human rights issues, without international ramifications.  
Indeed, widespread human rights abuses in Egypt elicited major responses from various international players. The African Union, for instance, suspended Egypt's membership days after Morsi's removal in July 2013. As a result, Egypt (along with international pariahs Zimbabwe and Sudan) was last January excluded from attending the high-profile US-Africa Leaders Summit, which will take place in Washington next August. Also, a joint declaration was issued last March by 27 member states in the United Nations Human Rights Council, expressing concern over Egypt's excessive use of force against protestors, and asking the Egyptian authorities to hold those responsible for the abuses to account. In the same vein, the outcry of international journalists over the trial of the journalists of Al-Jazeera's Cairo office continues unabated, causing embarrassment for the Egyptian government in major world capitals.  
Al-Sisi will soon be caught between internal and external allies. A large segment of his power base rejects any conciliation with the MB, and advocates continuing – or even escalating – the crackdown on dissidents, Islamists and revolutionary youth alike. Moreover, any attempt to reform state institutions, especially the gigantic security apparatus, will be resisted by a state that has become too old and too corrupt to change its notorious ways. On the other hand, blatant authoritarianism at home will continue to strain Egypt's relations with the outside world, especially the United States and European countries, undermining foreign aid, investment and Egypt's international reputation.
3- Few Allies, Many Antagonists
Egypt has few allies in the region: the Gulf states. With the exception of Qatar, which dances to a different drum, these states have an abundance of petrodollars and harbor an abundance of antipathy towards Islamist movements - the perfect allies of today's Egypt. Conversely, because of their support for the MB, Turkey, Qatar and Hamas are seen in Cairo as barefaced adversaries. Egypt's relations with neighboring Libya and Sudan are cordial, but fraught with tension. The Sudan did not toe the line of Egypt over Ethiopia's Renaissance Dam, which Egypt regards as a menace to its share of Nile water. The inability of Libya's government to curb arms trafficking across the border, and to control the Islamic militias that are hostile to Egypt's regime, and the latter's reluctance to extradite members of Gaddafi's regime who live in Egypt are causes of friction in Egyptian-Libyan ties.[v] Egypt's formal diplomatic relations with Iran have been severed since 1980, and their restoration is nowhere on the horizon.          
Egypt therefore is semi-isolated in the region where it is centered, the Middle East. Proximate states such as Libya, Qatar, Sudan and Hamas – and, in the wider region, Turkey, Iran and Ethiopia – are not allies. They all fall within the scope of hostile, unfriendly or, at best, neutral states. In response to this inimical milieu, the strategy of the post-Morsi regime has rested on escalation. Cairo expelled the Turkish ambassador in November, recalled its ambassador to Doha in January, and an Egyptian court labeled Hamas a terrorist organization in March. Media assaults on Ankara, Doha and Hamas have verged on hysteria, reflecting how distant reconciliation is.     
However, not only cannot a strategy that is premised on confrontation survive, especially for a pivotal country with leadership aspirations, but it could also be very detrimental. For instance, suffocating Hamas for too long might drive its radical elements to forge ties with the Islamist insurgents in Sinai. Also, Egypt will not be able to mediate between the belligerent Palestinian factions, Fateh and Hamas, or between Israel and the Palestinians if it continues to boycott Hamas. Moreover, the legitimacy of Egypt's new president will be undercut if he is seen at home as colluding with Israel against the besieged and poverty-stricken Palestinians. Likewise, a protracted state of tension with two regional powers like Turkey and Iran is neither constructive nor conducive to regional stability.
Which strategic formula will Al-Sisi embrace to confront these threats, break out of this isolation, and restore Egypt's stature in the region? Escalation may undermine Egypt's national security and ignite a new Arab Cold War, to whose ill winds no state would be immune, but inaction could be costly, too. So will Al-Sisi manage to strike a balance between both courses of action, with skill, intellect and prescience?

Foreign policy victories and failures were kingmakers and breakers in Egypt. The nationalization of the Suez Canal Company and the 'Crossing' in 1973 made Nasser and Sadat national heroes. In contrast, the 1967 defeat heralded Nasser's political demise, and Sadat's separate peace with Israel 10 years later precipitated his assassination. Undoubtedly, Al-Sisi will soon be put to serious tests. Will his foreign policy be his crowning glory or his knockout punch?       

Nael M. Shama
* This article appeared first on AhramOnline on June 11, 2014.


[i] Gamal Abdel-Nasser, The Philosophy of the Revolution, Cairo: Information Agency, 1954, p. 68. (in Arabic)
[ii]  "Gulf Aid to Egypt Since 30 June More than $20 Billion: El-Sisi" AhramOnline, 6 May 2014, http://english.ahram.org.eg/NewsContent/1/64/100653/Egypt/Politics-/Gulf-aid-to-Egypt-since--June-more-than--billion-E.aspx.
[iii] "Egypt to Re-evaluate Relations with Syria," Al-Jazeera.com, 21 July 2013, http://www.aljazeera.com/news/middleeast/2013/07/201372013042628686.html.
[iv] Michele Dunne, "Foreign Policy Shaped by Donors," Sada, 3 April 2014, http://carnegieendowment.org/2014/04/03/foreign-policy-shaped-by-donors/h6z0.
[v] Mohamed Elmenshawy, "Bad Neighbor, Good Neighbor: Libya-Egypt Relations," Middle East Institute, 21 March 2014, http://www.mei.edu/content/bad-neighbor-good-neighbor-libya-egypt-relations. 

Wednesday, June 4, 2014

في رحاب الدولة العربية الفاشلة


لا يملك المرء إلا التأمل المشدوه إزاء انتشار من يطلقون على أنفسهم لقب "الدولجية" (نسبة إلى الدولة) في عدد من الدول العربية في الآونة الأخيرة. الدولجية هم أولئك الذين يؤمنون بمؤسسة الدولة، بدورها المهيمن وسلطاتها الواسعة، وهيبتها التي لا ينبغي أن يشوبها شائبة، وقانونها الذي يجب أن يسود على الجميع. الدولة في نظر هؤلاء كيان مرادف للوطن، يرمز له ويلتصق به، حتى لا يكاد يبين الفرق بينهما. ومن ثم فهي كيان مقدس، يسمو فوق مستوى النقد، ويتنحى بعيداً عن مساحات الاختلاف السياسية والأيديولوجية. بالنسبة إلى هؤلاء، فإن منتقدي الدولة إما جهلاء أو عملاء، أما المدافعون عنها فجنود بواسل في معركة مقدسة. تبجيل الدولة هذا ولد بالتبعية ولعاً برجل الدولة القوي الذي سيدحر الغزاة، ويعيد الأمجاد، ويفجر أنهار اللبن والعسل الدافقة.  
بيد أنه يغيب عن هؤلاء أمران أساسيان. أولهما أن مفهوم "الدولة" السياسي مختلف كلية عن معنى الوطن. قالوطن أرض وشعب وحياة وروابط وانتماء، أما الدولة فمحض مؤسسة، قوامها نظام سياسي وجهاز إداري وإطار تشريعي، تحتمل جميعها الصلاح أو السوء، ومن ثم فلا قداسة أو حصانة لها. أما الأمر الثاني والأهم فهو أن الدولة في الوطن العربي لا تستحق مثقال ذرة من تبجيل، إذ ليس في سجلها سوى صفحات متوالية من الإخفاقات والانكسارات وجر أذيال الخيبة. تغير الكثير في العالم منذ مولد الدولة العربية الحديثة في منتصف القرن العشرين. صعدت البشرية إلى الفضاء، وانكشف سر الجينوم البشري، وانتشرت الحاسوبات والهواتف المحمولة، وهرول العالم باتجاه إقامة نظم ديمقراطية تعددية، فيما ظلت الدولة العربية كما هي: كيان متصلب مهتريء، يعيش متخشباً خارج العصر وإن رفع شعاراته، ويعلق فشله على مشجب الآخر، ثم يعتمد على أدوات القهر للحفاظ على وجوده. 
فشلت الدولة بداية في معركة الاقتصاد والتنمية، فاعتمدت اقتصاداتها على الريع والمساعدات الخارجية والخدمات، عوضاً عن الانتاج والتصنيع والابتكار. ورعت تلك الاقتصادات الهشة بنياناً أفعوانياً ضخماً من شبكات الفساد واقتصاد المحاسيب ورأسماليات "تسليم المفتاح" (القائمة على خصخصة المشاريع العامة)، ما أفضى إلى التخلف الاقتصادي، وشيوع الفقر والبطالة، واستدامة الاعتمادية على الخارج. ونظرة سريعة على تقارير التنمية الإنسانية الصادرة عن الأمم المتحدة تشي بقتامة الصورة الكلية، فالناتج المحلي الإجمالي للدول العربية كافة أقل من نظيره في اسبانيا، أما إجمالي الصادرات غير النفطية لكل الدول العربية فأدنى من إجمالي صادرات فنلندا (وهي دولة تعدادها نحو خمسة ملايين نسمة). بغياب التنمية، انتشرت أحزمة الفقر على ضفاف المدن الكبرى – كالقاهرة وبيروت والجزائر – وفي مناطقها المهمشة البعيدة عن اهتمام المركز وخططه وموارده. من أحد تلك المناطق خرج بائع متجول يقاسي شظف العيش وجور السلطة، مشعلاً النار في نفسه ومفجراً انتفاضات الربيع العربي في 2011م.       
فشلت الدولة العربية أيضاً على امتداد المسافة من المحيط إلى الخليج في إفامة نظام سياسي يصون الحريات والحقوق الأساسية، ويحترم الكرامة الإنسانية وتكافؤ الفرص. فصارت إسرائيل تتشدق بأنها "واحة للديمقراطية" في صحراء متخمة بأنظمة سلطوية، لها برلمانات شكلية، وأحزاب ضعيفة، وقوانين صورية، وأبواق زاعقة، والكثير من المعتقلات وقوات مكافحة الشغب. نمت وازدهرت وتمددت في الوطن العربي الدولة السلطوية، ممارسة ومنطقاً وأسلوب حياة. ومن رحمها خرج حكام صاروا في التاريخ الإنساني نماذج في الهوس بالسلطة وجنون العظمة، كالقذافي وصدام حسين وبشار الأسد. ولذلك بزغ مفهوم "الاستثناء العربي" في الدراسات الديمقراطية، محاولاً تفسير لماذا شذت دولة الإقليم عن التيار، وتخلفت عن موجات الديمقراطية العالمية الثلاث.    
ثم فشلت الدولة العربية خارجياً بامتياز، وانكشف وهنها وهوانها أمام تفوق وتنظيم الآخر. تجرعت الدولة مرارة الهزيمة تلو الأخرى أمام إسرائيل (بإستثناء الأداء المميز للجيشين المصري والسوري في حرب أكتوبر، ولحزب الله في 2006م)، وفشلت في حماية أشقائها من الهجمات الإسرائيلية المتتابعة (العراق في 1981م، وتونس في 1985م، ولبنان في 1982م و2006م، وقطاع غزة في كل السنوات). ثم فشلت مجدداً في نصرة الدول العربية في نزاعاتها الحدودية مع الدول غير العربية (كجزر الإمارات الثلاث، ولواء الاسكندرون السورى، وسبتة ومليلية المغربية). انهار مفهوم الأمن القومي العربي على عقبيه، ولم يعد يعني الكثير في وطن عربي تبدلت خرائطه، وتشكلت عبر مسامه طرقاً نفذ منها الجيران وجيران الجيران. بل عجزت الدولة العربية حتى عن إدارة تناقضاتها الداخلية، فتفاقمت الصراعات الإثنية والمذهبية بداخلها، ومشاهد الحرب الأهلية المفزعة في سوريا (ومن قبلها في العراق والسودان ولبنان) ليست في حاجة إلى تذكير. اغتصبت فلسطين، واحتل العراق، وانشطر السودان، وتمزق الصومال، وتفجر لبنان، فيما المدافع ساكنة والميكروفونات هادرة.  
الفشل في مواجهة الآخر على الصعيد الأمني والعسكري صاحبه قصور مطبق في سد الفجوة العلمية والتكنولوجية مع الدول المتقدمة. فهوس الدولة بالسيطرة رافقه إهمال، وأحياناً ازدراء، للعلم، ما أدى لانخفاض مستوى التعليم، وشيوع نمط ثقافي متهافت بائس، يكرس للاستبداد ويكبح الابتكار. وفي عدد براءات الاختراع المسجلة في العشرين سنة الأخيرة من القرن العشرين في الولايات المتحدة خير دليل، ففي مقابل أكثر من 16000 اختراع من كوريا الجنوبية، حظيت مصر مثلاً بسبع وسبعين براءة اختراع فقط. كذلك ففي الوطن العربي ثاني أعلى معدل أمية بين أقاليم العالم الجغرافية (بعد إقليم جنوب الصحراء)، أما الكتب المترجمة إلى العربية في العام الواحد فلا تزيد عن خمس الكتب المترجمة إلى اليونانية (على رغم أن سكان اليونان يجاوزون الأحد عشر مليوناً بقليل). على أغصان شجرة الجهل السامة ولدت طامة التطرف، والتي ما برحت تقوض بنيان الأمة الفكري وسلامها الاجتماعي، وتحول بينها وبين الالتحاق بالعصر.           
فعن أي دولة يتحدث المتعبدون في محراب الدولة؟ عن ذلك الكيان السلطوي المهتريء الذي أضاع الأرض وأورث الفقر ونشر ثقافة الجهل ورسب في المعارك كافة داخلياً وخارجياً؟ أم عن دولة أخرى يتمنونها في مخيلتهم لكن لا دليل البتة على وجودها على أرض الواقع؟ 

د. نايل شامة
* نُشرت هذه المقالة بجريدة الحياة (بتاريخ 1 يونيو 2014).