Saturday, April 7, 2018

عن أشباه الدول في العصر الحديث


انشغل الرأي العام الأمريكي لشهور طويلة بقضية جنائية هي بلا شك من أكثر القضايا إثارة للمشاعر الجياشة، ما بين تعاطف مع الضحايا وحنق على المتهم ورغبة في إيقاع أشد أنواع العقاب به. تتعلق القضية بالطبيب الأمريكي لاري نصار الذي قام على مدار نحو عشرين عاماً قضاها كطبيب لفريق الجمباز الأمريكي للسيدات بالتحرش الجنسي بمئات الفتيات في سن الطفولة والمراهقة. أوضحت التفاصيل المفجعة للقضية كيف تحرر المتهم - المدان الآن والمحكوم عليه بالسجن لفترة تتراوح بين 40 و 175 سنة - من كل وازع أو ضمير، فنهشت يداه أجساد الفتيات، مما تسبب لهن في أثر نفسي مدمر ظل يلازمهن رغم مرور السنين، كما أدى إلى انتحار والد إحداهن.
انخلعت القلوب وهي تستمع لشهادات الضحايا الأبرياء وهن يذرفن الدمع أنهاراً وترتعش حناجرهن فيما يشرحن كيف اغتصب نصار - الذي أسمته وسائل الإعلام "بوحش الأطفال" - بكارة الفتيات الصغيرات، وكيف دمر حياتهن وحياة أسرهن. قالت إحداهن أن في ذاكرتها ثقوباً سوداء تعود لتهاجمها حتى الآن في كوابيسها، وقالت أخرى مخاطبة المتهم: لم أستطع أن أكون شخصاً طبيعياً بعد ما فعلت بي. لقد فقدت جزءاً كبيراً من طفولتي بسبب ما تعرضت له. وقالت ثالثة: لقد تركت ندوباً على روحي لا أعتقد أنها ستندمل أبداً. 
توالت الشهادات تقطع نياط القلب، ثم وصلت الدراما الإنسانية أثناء الاستماع لإفادات الضحايا إلى ذروتها حين قام والد مكلوم تعرضت بناته الثلاث لانتهاكات جسيمة من قبل نصار بمحاولة الانقضاض على المتهم داخل قاعة المحكمة، فانبرى له في ثوانٍ خاطفة حرس المحكمة، وأوقعوه أرضاً قبل أن يتعرض له. هذه اللقطة الأخيرة جديرة ببعض التأمل، فمهما اقترف المجرم من جرائم، ومهما بلغت درجة السخط عليه، يبقى أن له كمتهم ومدان حقوق وضمانات تحميه من بطش الضحايا وذويهم.
في مقابل هذا المشهد الكاشف، تأمل ما يحدث في بلادنا العربية يومياً من عصف وتنكيل بكل حقوق المتهمين، يزداد كلما ازدادت بشاعة التهم الموجهة إليهم. ففي حالات الاتهام بالقتل أو الاغتصاب أو الإرهاب، نجد من يستحل لنفسه إهانة المتهمين، والتعدي عليهم بالقول أو الضرب، متناسياً أولاً أهم قاعدة قانونية يعرفها الجميع، وهي أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته، وأن بشاعة التهمة لا تنفي أبداً تلك القاعدة الذهبية، وما يتصل بها من قواعد مثل أن الشك يفسر دوماً لصالح المتهم، وأن عبء إثبات التهمة يقع على النيابة. ثم أن الإدانة إن وقعت فمؤداها أن يظل العقاب بيد الدولة ومؤسساتها القانونية، لا أن يتم إنزال العقاب بصورة عشوائية همجية تستجيب لشهوة الانتقام ودفقات الغضب.
يصل الأمر إلى أكثر ما هو فداحة حين تقوم بتلك الاعتداءات المشينة قوات الأمن - أو إنفاذ القانون - نفسها. وفي بعض الأحيان يصل الأمر إلى أن تقوم هذه القوات "بتصفية" المتهمين على رؤوس الأشهاد، بل والإعلان عن ذلك بلا مواربة في البيانات الرسمية وكأنهم بصدد التبشير بفتح مبين. يتناسى هؤلاء وأولئك أن هذه دولة وليست قبيلة، وأن مواجهة الإرهاب والجريمة ليست عراكاً في شارع يتم فيه ضبط لص متلبساً بسرقة دابة أو حبل ملابس، فيبادر أهل الحارة إلى صفعه على قفاه وكل ما وصلت إليه أيديهم وأرجلهم في جسمه، وهم يتصورون أن في ذلك انتصار للحق وانتقام من السارق الدنئ.
ما هكذا تدار الأمم.
لقد أقرت كل التشريعات القانونية الحديثة لائحة طويلة من الضمانات والحقوق للمتهم سواء أثناء مرحلة التحقيق الابتدائي أو أثناء مرحلة المحاكمة. تتضمن تلك الحقوق حق المتهم في السكوت، وفي الاستعانة بمحام، وفي معرفة السبب وراء توقيفه، وفي الدفع ببطلان إجراءات التحقيق، وأن يحاكم المتهم بواسطة سلطة قضائية مستقلة، وأن تكون الجلسات علنية، وأن تتم وفق إجراءات سليمة تحفظ حقوق المتهم وكرامته. كل تلك الضمانات وغيرها الكثير لم تُشَرع من باب تدليل المتهم، بل بغية الوصول إلى الحقيقة عبر إعلاء سيادة القانون وضمان التوازن بين حقوق الدفاع وبين حق المجتمع في القصاص.   
الثابت أن الالتزام الدقيق بنصوص الدستور والقانون هو الخط الفاصل بين فسطاطي الحضارة والبدائية. ففي زمن الشعوب البدائية كانت الغريزة العفوية هي المحرك الرئيسي للفعل ورد الفعل في شتى مناحي الحياة. أما وقد قامت الحضارات منذ آلاف السنين فقد استبدلت المشاعر بالنظم، والغرائز بالقوانين، والأعراف بالنصوص. ومع التطور الإنساني صار للدول دساتير وتشريعات ولوائح تنفيذية شاملة، تنظم وتحدد بأدق التفاصيل حياة المجتمع في سائر الأوجه. يشمل ذلك التنظيم بالطبع قضاءاً متعدد الدرجات يحفظ حقوق الجميع، ويبتغي تحقيق العدل مسترشداً بتراث قانوني ضخم تم تطويره وتنقيحه وسد ثغراته عبر مئات السنين.    
يجدر الذكر في سياق الحديث المتكرر عن "الدولة" وسبل نهضتها أن قوة الدولة لا تقاس ببطش الأجهزة الأمنية، أو إطلاق العنان لها لتعيث في الأرض فساداً طالما تحدق بها أخطار أو يتربص بها أشرار. وأن معيار الدولة الحق هو أن تكون بلا مشاعر أو أهواء أو انحيازات أو ضغائن، وأن مقياس الحكم عليها دوماً هو التطبيق الصارم للدستور والقانون. الأفراد عرضة لأن يكونوا هوائيين، تجرفهم مشاعرهم ذات اليمين وذات اليسار، أما الدولة فلا ينبغي أن تكون كذلك، وإلا فقدت أهم مقوماتها كدولة تنتمي للعصر الحديث، وصارت بحق "شبه دولة"، عبئاً على مواطنيها وعالة على العالم.  
ببصيرة نافذة وعبارة موجزة، لخص العالم النفسي سيجموند فرويد المسألة حين قال أن الحضارة بدأت أول مرة حين قام رجل غاضب بإلقاء كلمة بدلاً من قذف حجر. ذلك بالضبط هو الفارق بين عصر البربرية ونزقه وأدواته وبين عصر الحضارة ومنطقه ومؤسساته. فمن فيهما يستحق أن تُرفع أعمدته وتُنشر مبادئه؟  

د. نايل شامة     
* نُشرت هذه المقالة بموقع الحوار المتمدن (بتاريخ 8 أبريل 2018م).