Sunday, January 15, 2012

المجلس العسكري ومستقبل الديمقراطية في مصر


* Photo: Nael Shama, Tahrir Square, February 2011.




جرت في نهر العلاقة بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة والشعب المصري مياه كثيرة منذ توافق الطرفان في فبراير الماضي على ضرورة إقصاء الرئيس مبارك عن المشهد السياسي، بعدما اتضح بجلاء أن مجرد وجوده صار عبئاً على الجميع. لقد مرت أشهر عدة على نجاح الثورة، زادت فيها شقة الخلاف بين قطاعات واسعة من الشعب والمجلس العسكري، وتزايدت الشكوك، وتقلصت مساحة الثقة بالنوايا، وحل التربص والنزاع محل التسامح والوفاق. وإذا كانت أهداف ومصالح الأطراف المختلفة التي تشارك في عملية صنع القرار السياسي تتلاقى أحياناً، فإنها بحكم طبائع الأمور تتنافر أحياناً أخرى. لذا فالسؤال الجوهري الآن هو: أمازالت مصالح الطرفين – أي الجيش والشعب – متطابقة (كما عبر شعار الثورة الأثير: الجيش والشعب يد واحدة)، أم أن تطورات الأحداث قد أبرزت اختلافات نابعة من تناقضات بنيوية لا فكاك منها؟

لعل العبارة الذكية التي صاغها جراهام أليسون عالم السياسة الشهير والأستاذ بجامعة هارفارد وهي: (Where you stand depends on where you sit) تصلح مدخلاً للولوج إلى الموضوع. معنى العبارة الحرفي هو "موضع وقوفك يرتبط بموضع جلستك"، أما المغزى المقصود فهو أن المواقف التي يتبناها المرء تجاه سياسات معينة تعتمد بالأساس على مصالح وامتيازات وارتباطات المؤسسة التي ينتمي إليها. وبالإضافة إلى الاستخدام اللغوى الذكي للتقابل (في ثنائية الوقوف والجلوس)، فإن العبارة تلخص نموذجاً لفهم صناعة القرار ابتدعه أليسون، ملخصه أن القرار السياسي هو ناتج تفاعلات الأطراف المختلفة الضالعة في اتخاذه، وأن مواقف أي فرد في هذه العملية لا تحيد أبداً عن مصالح الجهة التي ينتمي إليها.

وهو ما ينطبق تماماً على مصر ما بعد الثورة. فبعد تنحي الرئيس السابق مبارك، سقط نموذج القائد الفرد الذي يهيمن منفرداً على صناعة القرار في ظل دولة مركزية فعلياً وميتافيزيقية نفسياً، وحل محله نموذج أليسون البيروقراطي، الذي يشير إلى مشاركة أطراف عدة في صناعة القرار، يتراوح تأثيرها تبعاً لأوزانها المختلفة في المسرح السياسي. والوزن الأكبر في المرحلة الحالية هو بطبيعة الحال للمجلس العسكري. وبالطبع فإن مواقف ذلك المجلس لا يمكن فصلها عن مصالح المؤسسة التي يمثلها، والتي أمضي كل أعضائه حياتهم في خدمتها. المدخل إذن هو فهم المصالح الرئيسية للمؤسسة العسكرية، وإدراك تأثيرها على مسار الفترة الإنتقالية السابقة، وعلى خطة الطريق التي اعتمدها المجلس للمستقبل، فما هي إذن المصالح الرئيسية للمؤسسة العسكرية في مصر؟

أولاً، المصالح الاقتصادية: تدير المؤسسة العسكرية إمبراطورية إقتصادية ضخمة، تتنوع نشاطاتها ما بين استصلاح الأراضي، وإدارة الفنادق، وإنتاج مواد البناء، والأجهزة الكهربائية، وحتى المياه المعدنية. وبرغم تراوح تقديرات الباحثين بشأن حجم أعمال هذا القطاع بالنسبة إلى حجم الإقتصاد الوطني (قدرها روجر أوين أستاذ تاريخ الشرق الأوسط بجامعة هارفارد ب40% من حجم الإقتصاد المصري)، فإن المؤكد أن هذه الإمبراطورية الإقتصادية الضخمة أنتجت عبر السنين شبكة واسعة ومتداخلة من المصالح المستقرة العصية على التفكيك، إلى جانب نخب نافذة ومستقرة تدافع عن سلطاتها وامتيازاتها. وتنقل إحدى وثائق ويكيليكس عن السفيرة الأمريكية السابقة قولها في سبتمبر 2008م إن معارضة الجيش القوية لعملية الإصلاح الإقتصادي مردها رغبته في الحفاظ على النفوذ الواسع الذي يتمتع به في هيكل الاقتصاد المصري.

فكيف سيكون رد فعل المجلس العسكري إن حاول الرئيس القادم أو البرلمان القادم الحد من الامتيازات الاقتصادية الواسعة للمؤسسة العسكرية أو إخضاعها لرقابة مالية وإدارية أوسع؟ وهل سيرحب المجلس بعملية إصلاح اقتصادي حقيقي تدعم المنافسة الحرة والشفافية في السوق المصرية إن مست تلك العملية تماسك البنية الإقتصادية للمؤسسة العسكرية؟

ثانياً، العلاقة مع إسرائيل والولايات المتحدة: يدرك أعضاء المجلس العسكري قبل غيرهم مخاطر الانزلاق إلى مواجهة عسكرية غير متكافئة مع إسرائيل، ليس هذا زمانها ولا ظروفها. وبالتالي فإن حرصهم على استمرار العلاقات الودية مع إسرائيل وتجنب تسخين العلاقات مع حكومتها أمر لا شك فيه. ومن هنا يمكن تصديق التصريحات التي أدلى بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لقناة العربية، والتي أعلن فيها أن "النظام المصري الحالي وعدنا بألا يكون هناك تغيير (في العلاقة مع إسرائيل)". والسؤال هنا: ماذا سيكون موقف المؤسسة العسكرية لو لجأ الرئيس القادم إلى التصعيد في ملف العلاقة مع إسرائيل (سواء لكسب شعبية في الشارع أو إنطلاقاً من قناعات أيديولوجية)؟ وماذا لو نجح هذا الرئيس في الحصول على تأييد البرلمان والرأي العام لمواقفه؟ بعبارة أخرى، هل سيوافق الجيش على ديمقراطية تضعه على طريق المواجهة مع إسرائيل؟

وبنفس المنطق فإن الجيش حريص على ضمان استمرار تدفق المساعدات العسكرية الأمريكية التي زاد مجموعها عن 40 مليار دولار منذ نهاية السبعينات. وبالتالي فهو غير مستعد لتقبل سياسة راديكالية تهدد بتلغيم العلاقة مع واشنطن وتغامر بمصير مساعدات واشنطن السخية.

ثالثاُ، الموقف الفكري: مع التسليم بصعوبة المعرفة التامة بالاتجاهات الفكرية والسياسية لأعضاء المجلس العسكري بشكل خاص، أو لكامل أفراد المؤسسة بشكل عام، كونها مؤسسة أمنية منغلقة على ذاتها، ومنضبطة مهنياً، ظلت لعقود لا تمارس العمل السياسي في العلن (ولذلك شبهت ب"الصندوق الأسود")، إلا أن الشائع في الدراسات السياسية المتوافرة عن العسكر في مصر هو ميلهم إلى المعسكر العلماني سياسياً، واليميني اقتصادياً، ونفورهم من التيارات الدينية بكل تنويعاتها ومدارسها.

والسؤال الذي يبرز هنا هو: إلى أي مدى سيقبل المجلس العسكري بنتائج العملية الديمقراطية إن أسفرت عن وصول رئيس ينتمي للتيار الديني إلى سدة الحكم؟ أو إذا حصل ذلك التيار وفق انتخابات نزيهة على أغلبية كبيرة داخل المجالس النيابية؟ هل سيحترم المجلس العسكري تلك النتائج؟ أم أن مباركته لعملية التحول الديمقراطي مشروطة بعدم سيطرة التيارات الدينية على السلطة؟

كل هذه الأسئلة تفتح الباب لسؤال أساسي ومصيري، وهو: هل مصر القابعة الآن تحت سيطرة المجلس العسكري بصدد الانتقال إلى ديمقراطية حقيقية؟ أم أن المصالح المتجذرة للمؤسسة العسكرية ستحول دون ذلك، وستضع إطاراً عاماً للسياسات العامة لا يمكن تجاوزه من قبل القوى السياسية؟

د. نايل شامة

* نُشرت هذه المقالة بموقع الحوار المتمدن (بتاريخ 29 ديسمبر 2011).