Friday, December 28, 2012

الحرب الباردة المصرية


ظهر مصطلح "الحرب الباردة" في نهاية الأربعينات حين بدأت الإشارات تترى منذرة بتحول حلفاء الحرب العالمية الثانية إلى فرقاء ألداء يتنازعون السيطرة على العالم، ويتقاسمون النفوذ حول مناطقه المختلفة، دون الدخول في مواجهات "ساخنة" مباشرة. وفي الستينات استخدم الأكاديمي الأمريكي مالكولم كير مصطلح "الحرب الباردة العربية" لوصف الانقسام في النظام الإفليمي العربي بين ما اصطلح على تسميته حينئذ بمعسكري "التقدمية" و"الرجعية". واليوم يدمى قلب المرء حين لا يجد أفضل من تعبير "الحرب الباردة المصرية" لوصف ما يجري على أرض الوطن من انقسام وفرقة، ونكوص عن مبادىء التوافق وأولويات الحوار إلى ساحات الحشد، وميادين الصراع، وأبجديات التنابذ.

والواقع أن خصائص وآليات الحرب الكونية الباردة التي شكلت جوهر تفاعلات العلاقات الدولية عير نصف قرن تقريباً تتماثل مع نظيرتها المُطْبِقة حالياً على جسد وروح الوطن، والمكبلة لطاقاته، والمهددة بفصم عرى العلاقة بين أبنائه. ويظهر ذلك في أربع سمات رئيسية على الأقل.

أولاً: الاستقطاب النفسي الحاد. فالاستقطاب السياسي الحالي يحاذيه (سواء كان سببه أو نتيجة له) استقطاب نفسي عميق، يغذيه الشك، والارتياب، وسوء الظن، وعدم القدرة على تجاوز حساسيات أيديولوجية وخلافات تاريخية. في ظل هذا الاستقطاب النفسي يشيطن كل طرف الطرف الآخر، بينما لا يرى في نفسه سوى الحق والنزاهة وابتغاء مصلحة الوطن (فيما يعرف في علم النفس السياسي بنظرية المرايا العاكسة (Mirror Images) التي حكمت إدراك كثير من ساسة الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي لبعضهما البعض أثناء سنوات الحرب الباردة).  

فالتيار المدني يتهم الرئيس مرسي بالدكتاتورية (بينما يتهم أنصار الرئيس ذلك التيار بالانقلاب على الديمقراطية وشرعية الصندوق)، كما يتهم التيار الديني بالفاشية (فيما يتهم بعض أبناء ذلك التيار مخالفيهم بالكفر والإلحاد وما إلى ذلك من نقائص). والطرفان يصفان بعضهما البعض "بالفلولية"، إذ يتهم التيار المدني جماعة الإخوان بعقد الصفقات مع النظام السابق، وبالقفز من قطار الثورة مبكراً سعياً وراء مصالح سياسية ضيقة، بينما يرى الإخوان أن التيار المدني تحالف مع فلول نظام مبارك في مواجهة مرسي. كما يتبادل الطرفان اتهامات حمل واستخدام السلاح، والسعي لوأد الثورة وخيانة اهدافها، والتملص من التزاماتها (كالعدالة الاجتماعية).    

ثانياً: قيام التحالفات على أساس أيديولوجي. فالملاحظ أن التيارات الإسلامية من اليمين إلى اليسار اصطفت كلها تقريباً في معسكر واحد يدعم الرئيس، ويوافق على الإعلان الدستوري، ويؤيد الدستور الجديد وخطة الطريق التي ستتبعه. ويشترك في ذلك الأحزاب السلفية (مثل حزب النور وحزب البناء والتنمية) وحزب الحرية والعدالة (الحزب الرئيس في التيار الإسلامي) وحزب الوسط. وذلك برغم أن هذه الأحزاب لم يربطها من قبل تحالفات انتخابية، أو تحالفات سياسية ذات جدوى، وبرغم أن الاستقطاب الحالي حول الدستور ليست له في العموم جذور أيديولوجية واضحة. 

وعلى الجانب الآخر من الصدع الوطني الكبير، اندرجت الأحزاب الليبرالية واليسارية والقومية (إضافة إلى بعض فلول النظام السابق) في تيار واحد واسع، ليس هناك ما يجمع أطرافه فكرياً سوى الإيمان العام ببعض مبادىء الديمقراطية، ومناصرة مفهوم "الدولة المدنية"، ومناهضة استئثار تيار الإسلام السياسي برسم مستفبل البلاد.

ثالثاً: هيمنة سلاح الإعلام. تتسم الحرب الباردة المصرية باستخدام الطرفين لسلاح الإعلام والبروباجاندا السياسية، لأغراض الإقناع والتعبئة والحشد. وفي الحرب النفسية التي يتم الاعتماد عليها لبث الثقة في الأنصار، وترهيب الخصوم، تستخدم وسائل الإعلام بشكل كثيف لبث الشائعات، أو تسريب الأخبار، أو إطلاق قنابل الدخان لتشتيت الانتباه. ويبدو الأمر أحياناً وكأن القوى السياسية المتنازعة قد استبدلت العمل السياسي على الأرض بالتواجد الإعلامي عبر الأثير وعلى شبكة الإنترنت.

وتتضح بجلاء محورية سلاح الإعلام في الصراع السياسي الحالي في كثرة الإشارة إلى دوره وتأثيره من جانب الفرقاء، وخاصة التيار الديني، الذي ينحي باللائمة في الأزمة الحالية على التغطية الإعلامية، ويصمها بالانحياز وغياب المهنية. ومشهد حصار مدينة الإنتاج الإعلامي (بل والتهديد باقتحامها) من جانب بعض أنصار التيار الديني دال على اعتبارهم إياها طرفاً أصيلاً في النزاع، وليس مجرد متابع محايد لها.

رابعاً: التلويح باستخدام القوة. فكثير من تصريحات قادة التيار الديني تعبر - إن تلميحاً وتصريحاً – عن الاستعداد للجوء للقوة إن لزم الأمر. فالملايين "تنتظر ساعة الصفر" للتحرك كما قال أحدهم، و"بحور من الدم" ستتدفق "للدفاع عن شرعية الرئيس" إن تم اقتحام قصر الاتحادية من جانب قوى المعارضة. أما على الجانب الآخر، فحصار المتظاهرين لقصر الرئاسة والشعارات المرفوعة والمكتوبة غلى الجدران تستعرض القوة والجسارة، وتعبرعن الرغبة في إزاحة الرئيس عن سدة الحكم، أو تقويض سلطته، بوسائل الضغط والقسر المعنوي، حتى وإن ظلت سلمية في العموم. كما يندرج تهديد المخالفين في الرأي والتوجه الأيديولوجي بالانتقام، وإعداد قوائم "العار" التي سيطولها "العقاب"، في إطار سياسة التلويح باستخدام القوة للتخويف والابتزاز.

وفي الحرب الباردة يتم أحياناً استخدام مستويات محدودة من العنف ضد الخصوم السياسيين، وذلك إما بشكل واع، أو بشكل لاإرادي منعدم الرشد، ناتج عن تأجج المشاعر وعدم القدرة على التحكم في ردود الأفعال. مثال ذلك حرق العديد من مقار جماعة الإخوان المسلمين وحزب الحربة والعدالة، والهجوم على مقر جريدة الوفد، والاعتداء الجسدي على رموز سياسية من تيارات مختلفة (مثل أبو العز الحريري وصبحي صالح ومحمد أبو حامد)، وغلق مجمع التحرير، ومحاولة تعويق سير مترو الأنفاق في محطة التحرير. هذه الأمثلة تبرهن على غلبة منطق الصراع على منطق التعاون، ومركزية فكرة القوة المادية في أذهان أطراف الصراع، واحتمالية الانزلاق مستقبلاً نحو مواجهات أكثر عنفاً وضراوة. وما اشتباكات الأربعاء الدامي أمام قصر الاتحادية إلا نموذجاً حياً لما يمكن أن تصل إليه الأمور إن لم يتم رأب الصدع، ونزع فتيل الحرب.

قد تتحول الحرب الباردة إلى أخرى ساخنة إن استمر منطقها وآلياتها في صياغة المشهد السياسي المصري. لذلك فإن كل الأطراف (وأولها الرئيس) معنية ومطالبة بتفادي سيناريو البارود والدم الذي إن ساد فلن يبقي ولن يذر. فهل من مجيب لنداء العقل وصيحة حقن الدماء؟ أم أنه لا حياة ولا خلاق لمن ننادي؟

 

د. نايل شامة
 
* نُشرت هذه المقالة بجريدة الشروق (بتاريخ 25 ديسمبر 2012).
 
 

Wednesday, November 21, 2012

مرسي وأشباح مبارك المتراقصة


يرقد الرئيس المصري السابق حسني مبارك في سريره بسجن طرة ناعياً ضياع السلطة وزوال النعمة، لكن أشباحه مازالت تطارد المصريين. لقد جثم الرجل ونظامه فوق صدورهم طويلاً حتى أكلت عليهم سنواته وشربت، تاركة أثاراً غائرة لا يبدو أنها ستنمحي بسهولة. تجرعوا مرارة عهده فصاروا حتى بعد الثورة يرون خلف كل باب، ووراء كل منعطف، شبح مبارك ورجاله وسياساته وممارساته التعسة. صاروا يتوجسون خيفة من كل شيء، ويخشون أن يكون في كل توجه تكرار لما سبق، أو إعادة إنتاج للماضي الذي يبغون قطيعته، فإذا به قابع تحت جلودهم، ومستقر في أذهانهم.  

والواقع أن الإدارة الجديدة للبلاد بقيادة الرئيس محمد مرسي تصر على تذكيرهم بأن ما مضى لم يمض تماماً، وأن ذيول الماضي لها في الحاضر تواجد وتأثير، وأن حجم الاستمرارية أكبر كثيراً من حجم التغيير المنشود. ففي ثلاث مستويات على الأقل هي الرؤية الاستراتيجية، وآليات عملية صنع القرار، وبعض السمات الشخصية للرئيس، يضبط المصريون أنفسهم يتمتمون بعبارة "ما أشبه الليلة بالبارحة"، رغم أن الشعب قام بثورة، وخلع الديكتاتور، ودفع ضريبة الدم. 

***

أولاً، لم يكن مبارك قائداً أو زعيماً سياسياً بأي معنى من المعاني، ولكنه كان رئيساً بيروقراطياً بامتياز قذفت به الأقدار إلى موقع المسئولية. عرف مبارك كيف يضمن ولاء الأفراد وتبعية المؤسسات، وكيف يجعل تلك المؤسسات تدور في فلك الرئاسة ولا تتمرد على قانونها. كان بارعاً قي إذكاء المنافسة بين الأجهزة المختلفة، ليضعف كل منها الآخر، وليضمن السيطرة والإخضاع، كما أشرف على قيام شبكة من المصالح المتشابكة تنتفع منه وتؤيده. لكن مبارك افتقد الرؤية الاستراتيجية والتخطيط بعيد المدى والخيال الخلاق، فاعتمد على الحلول التقليدية، وابتعد عن المغامرة، وبمرور السنوات ساد الروتين والخوف من التغيير، واختفى كل فعل، ولم يبق سوي ردود الفعل المتهافتة في السياستين الداخلية والخارجية.

أعراض المرض القديم تعاود للأسف الشديد الظهور في العهد الجديد. فحتى الآن لم يتبين الشعب المصري تماماً ماهية المشروع الرئاسي لنهضة البلاد، ولا أولوياته، ولا منهاجه، ولا وسائله. تبدو الرؤية غائمة، والارتجال مهيمناً، والتخطيط غائباً. فالفلسفة الاقتصادية الحاكمة للعهد الجديد (وإلى أي مدى تقترب من أو تبتعد عن مبادىء الرأسمالية القح أو أهداف العدالة الاجتماعية) ليست واضحة بما يكفي. وباستثناء الخطاب الفضفاض والأهداف العامة تستمر الأطر الحاكمة للسياسة الخارجية المصرية بلا تغيير. والكثير من أفعال جماعة الإخوان المسلمين (بخاصة ما يندرج في ما يطلق عليه "مشروع التمكين") تثير القلق من قيام حزب وطني جديد يتدثر برداء الدين وقوامة الأخلاق. وإفراط الرئيس في الخطابة يقابله شح في شرح البرامج والأهداف. فهل غابت الرؤية فعلاً واستعيض عنها بالكلام الوردى كما كانت الحال في سنوات الجدب والكذب؟     

***

ثانياً، اتسمت عملية صنع القرار في أيام مبارك بالعشوائية والتخبط وغياب المؤسساتية. اعتمد مبارك على فريق صغير من المستشارين، ولم يشأ أبداً إجراء تعديلات واسعة على تشكيل هذا الفريق، فبقى بعضهم (مثل صفوت الشريف وزكريا عزمي وعمر سليمان) لسنوات وعقود في الدائرة الصغيرة المحيطة بالرئيس، والقادرة على صنع (أو إجهاض) التوجهات والسياسات. 

تغير هذا الهيكل المؤسساتي المعيب جذرياً مع مجيء مرسي، فصار للرئيس نائب، وأربعة مساعدين، وسبعة عشر مستشاراً في مختلف المجالات. لكن آفات عملية صنع القرار التقليدية ظلت عصية على التغيير. ويمثل قرارا عودة مجلس الشعب وإقالة النائب العام اللذان تراجع عنهما الرئيس نموذجاً للتسرع، وغياب الخبرة، وفقدان التنسيق بين أجهزة الدولة المختلفة. ووصلت دراما التخبط ذروتها حين تبادل وزير العدل والمستشار القانوني للرئيس الاتهامات العلنية بالمسئولية عن نشوب الأزمة، وتصاعدها على النحو الذي شهده الجميع. 

وبالمثل، فإن قرار تعديل مواعيد إغلاق المحال التجارية تم بلا دراسة، أو تمهيد، أو تخطيط، أو مناقشة مع المجتمع، وبالذات الفئات المتضررة منه. وشابه القرار إلى حد بعيد أسلوب الأنظمة السلطوية، التي تفاجيء شعوبها بما لا يستطاع، لكنها تتوقع منهم الطاعة العمياء والامتثال الكامل. حين يواصل الساسة الجدد السير على درب أسلافهم على هذا النحو في أعقاب ثورة قتلت مكامن الخوف وأحيت نوازع التمرد، يثور السؤال: ما الذي تغير حقاً بعد الثورة؟  

***

ثالثاً، في العقد الأول من عهد مبارك كتب المفكر الاقتصادي جلال أمين مقالاً بعنوان "الفلسفة الاقتصادية في خطب الرئيس". شرح أمين في مقاله بمزيج من المنطق السديد والسخرية اللاذعة قابلية مبارك المفرطة لتصديق ما يسوقه مستشاروه الاقتصاديين من حجج لتبرير تردي الأوضاع الاقتصادية وارتفاع الأسعار. كانت ثقافة مبارك السياسية والاقتصادية ضحلة بالفعل، وكانت تلك فيما يبدو نقطة ضعفه التي تسلل منها مستشارو السوء ليبرروا له كل إخفاق، وليجملوا له كل جريمة، بدءاً من التحالف الآثم مع إسرائيل لخنق الفلسطينيين، مروراً بصمت الشياطين على استشراء الفساد، ووصولاً إلى خطيئة التوريث.

وتلوح في الأفق اليوم أشباح مبارك المتراقصة، ففي خطابه في استاد القاهرة، ذهب مرسي إلى مدى بعيد ليقنع المصريين بأن سجل المئة يوم الأولى لم يكن سلبياً، وبأن نجاحات حقيقية قد أنجزت على أرض الواقع. فالمرور تحسنت أوضاعه بنسبة 60 في المئة لأن الدولة زادت من حصيلة المخالفات المرورية، وإنجازات ملف الطاقة يشهد بها تحرير المئات من قضايا تهريب البوتاجاز. وفي حديث آخر استشهد مرسي بانخفاض سعر المانجو ليدلل على تحسن الأوضاع الإقتصادية وانخفاض الأسعار.

هذا الميل إلى التبسيط المخل، والنزعة إلى انتقاء أمثلة معينة للقفز إلى استنتاجات تصب في مصلحة الرئيس وقدرته على الانجاز، هي نذير خطر، ومؤشر واضح على قابلية الرئيس لتصديق أي منظق معوج يستخدمه معاونوه، لتجميل صورته، وإبراء ذمته. وإذا كان هذا سمت الرئيس في الشهور الأولى، فكيف سيكون الحال في قادم الشهور والسنين؟    

***

مرت أشهر قليلة على دخول مرسي قصر الرئاسة. والمؤكد أن الرئيس يستحق أكثر من فرصة، والوطن يستحق أكثر من هدنة، إلا أن أشباح مبارك تأبى إلا أن تؤرق المصريين في الصحو والمنام، ربما لتذكرهم بما كان، وتحذرهم مما هو آت.    

 

د. نايل شامة

 

* نُشرت هذه المقالة بجريدة الحياة (بتاريخ 19 نوفمبر 2012).

Sunday, November 4, 2012

نهضة الإخوان الذكورية


ضجة سياسية واسعة صاحبت إعلان جماعة الإخوان المسلمين عن مشروعها للنهضة، أعقبها جدال وسجال إعلامي محموم، تخلله تصريح لنائب المرشد العام بأن المشروع ما زال في طور الأفكار والاقتراحات، ولم يتبلور شكله النهائي بعد، وإن كان التسويق له يرتكز في مجمله على أنه سيقيل البلاد من عثرتها الاقتصادية الحالية، وسيمهد الطريق إلى المستقبل المشرق المنشود.  

لكن النهضة ليست فقط كما هو شائع اقتصاداً ينمو، واستثماراُ يتدفق، وأموالاً تضخ، ووظائف تخلق، وإنما هي قبل ذلك كله اهتمام وعناية بالقاعدة الاجتماعية التي ستضطلع بهذه النهضة، وتقيم أسسها، وتدفع كلفتها. فلا تستقيم نهضة دون استقامة القائمين عليها، ودون إقامة العدل وتحقيق المساواة بينهم جميعاً.

***

وبعيداً عن تفاصيل الخطط الإقتصادية والبرامج التنموية، فإن أحد مآزق النهضة المرجاة يتمثل في غياب المساواة بين المرأة والرجل عن عقيدة وفكر وممارسة الجماعة السياسية الأكبر والأكثر تنظيماً في البلاد، والتي أخذت على عاتقها تخطيط وتسويق وتنفيذ مشروع النهضة. فبداية من "مذكرات الدعوة والداعية" للإمام حسن البنا في الأربعينات وحتى صياغة المواد الدستورية المتعلقة بالمرأة في 2012م، تشير أدبيات جماعة الإخوان المسلمين إلى موقف ملتبس من المرأة، يعترف بالمساواة بين الجنسين، لكنه يضع لتلك المساواة في الأغلب قيوداً وشروطاً وضوابط. كما أن السلوك السياسي العملي للجماعة، وهو فصل الخطاب في تحليل أداء أي جماعة سياسية، يؤكد تهميشاً واضحاً للنساء، واستبعاد لهن من سدة القيادة، والاكتفاء بوجودهن في الصفوف الخلفية، حيث يلعبن أدواراً مهمة في الحشد والتعبئة والتصويت. أما التخطيط والقيادة واتخاذ القرارات فحكر على الأعضاء الرجال، وهو ما ينبيء بطبيعة الفكر السائد، والتراتبية القائمة في هيكل الجماعة، وتوزيع العمل المبني عليها. 

فعلى الرغم من أن مشاركة كوادر جماعة الإخوان المسلمين في الانتخابات البرلمانية بدأت في عام 1984م، فإن هذه المشاركة اقتصرت على الرجال فقط حتى عام 2000م، حين ترشحت من صفوف الجماعة إمرأة واحدة فقط هي السيدة جيهان الحلفاوي، بعد جدال ونقاش محموم بين الإخوان حول الفكرة ومدى شرعيتها وإمكانية تطبيقها. وفي انتخابات 2005م، ترشحت أيضاً إمرأة واحدة فقط (هي مكارم الديري عن دائرة مدينة نصر) من مجموع 161 مرشحاً إخوانياً خاضوا الانتخابات (أي بنسبة تقل عن 1%). وفي انتخابات 2010م، خاضت نساء الإخوان غمار الانتخابات على مقاعد المرأة فقط، ولم ينافسن على بقية المقاعد. أما في انتخابات 2011م التي أعقبت ثورة الخبز والحرية التي لعبت فيها المرأة المصرية دوراً بارزاً، فاقتصر وجود النساء على قوائم حزب الحرية والعدالة (كما يفرض قانون الانتخابات)، ولم يرشح الحزب أية نساء على المقاعد الفردية. أما عدد النساء المنتخبات عن حزب الحرية والعدالة في مجلس الشعب فبلغ 4 فقط من بين 216 مقعداً حصل عليها الحزب (أي بنسبة تقل عن 2%).   

وتشكيل الهياكل الرئيسية لجماعة الإخوان المسلمين يؤكد إقصاء واضحاً للكوادر النسائية. فمنذ إنشاء الجماعة منذ نيف وثمانين عاماً، لم تصل أي إمرأة قط إلى عضوية مكتب الإرشاد، وهو المماثل في التراتبية والأهمية لمجلس الوزراء في الدولة المصرية. وهيمنة الرجال واضحة في مجلس شورى الجماعة، وهو بمثابة برلمان الجماعة، وفي مكاتب الجماعة الإدارية بالمحافظات المختلفة. وبالتأكيد لا داعي للتذكير بأن منصب المرشد العام ظل منذ إنشاء الجماعة مقصوراً على الرجال فقط.

ولئن كان لأعضاء الجماعة وقياداتها مطلق الحرية في إدارة أوضاعها الداخلية كما يحلو لهم، فإن تصاعد نفوذها السياسي عقب الثورة قد جلب معه تأثيرات واسعة إلى الفضاء العام، ما يجعل من مناقشة شئون الجماعة بالضرورة مناقشة لشئون الوطن برمته. فعلى سبيل المثال، بلغت نسبة النساء في التشكيل الأول للجمعية التأسيسية للدستور 6% فقط، زادت قليلاً إلى 7% في التشكيل الثاني، أما تمثيل النساء في أول مجلس للوزراء في عهد الرئيس محمد مرسي قيقتصر على وزيرتين فقط (بنسبة 5% من مجموع عدد الوزراء). وتثير المواد المتعلقة بالمرأة في مسودة الدستور الجديد القلق والأسى والغضب في آن واحد، ما حدا بإحدى الناشطات في مجال حقوق المرأة إلى اعتباره "دستوراً للرجال فقط". 

***

لا يزال البون شاسعاً بيننا وبين دول العالم كما كان دائماً فيما يتعلق بحقوق المرأة. فبحلول العقد الأخير من القرن التاسع عشر، زاد عدد النساء العاملات في المصانع اليابانية على عدد الرجال، في الوقت الذي كانت فيه المرأة المصرية لا نزال تكافح من أجل منحها حق العمل والتعليم. واليوم لا يزال الجدل محتدماً حول جواز تولي المرأة رئاسة الجمهورية، بعد أن وصلت المرأة بالفعل إلى موقع القيادة في عشرات الدول، بما فيها دول إسلامية كباكستان وبنجلاديش. وفي ظل تصاعد تأثير جماعات الإسلام السياسي، فإن تهميش المرأة مرشح مستقبلاً لمزيد من التكريس، بل وربما تتم مأسسة ودسترة هذا التهميش.

لقد فطنت ثورة يوليو منذ ستين عاماً إلى أهمية قيام التنمية على أكتاف الرجال والنساء معاً، فتوسعت في بناء مدارس البنات، وفي تعيين النساء في المصانع والمصالح الحكومية، ومنحتهن حق التصويت، وتولت المرأة للمرة الأولى منصب الوزارة. بينما يظل مستقبل المرأة بعد ثورة يناير غير واضح، فسفينتها تتأرجح بين تعنت بعض أهل الدين وتجاهل أكثر أهل السياسة، والتشريعات الخاصة بها تبقى رهناً للمواءمات السياسية والمصالح الانتخابية الضيقة، ومستقبلها صار فريسة لأفكار وموروثات عفا عليها الزمن، ولكنها تنمو وتزدهر باتساع الوطن وعلى ضفاف النيل الحزين.   

***

لقد تجرعت مصر مرارة كؤوس التجارب الفاشلة مراراً، ولم يعد بها طاقة لتحمل المزيد من الانكسار والإحباط وخيبة الأمل. وأي مشروع نهضوي لا يرتكز على عموديه الاقتصادي والاجتماعي سيفشل قبل أن يبدأ. وعليه، فإن أرادت جماعة الإخوان المسلمين حقاً أن تقنع المتشككين، وتشجع المترددين، وتستنفر طاقات الجميع حول مشروعها، فعليها أن تضرب المثل، وتقدم القدوة، وتلهم الباقين بالسلوك والعمل.
 

د. نايل شامة
* نُشرت هذه المقالة بجريدة الشروق (بتاريخ 3 نوفمبر 2012).

 

Monday, October 15, 2012

السياسة الخارجية المصرية: الآمال والمعوقات


 

ارتفعت الآمال إلى عنان السماء بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير بإمكانية حدوث تغيير جوهري في السياسة الخارجية المصرية بعد عقود من الضعف، وذبول الطموح، وهيمنة رد الفعل على الفعل. إلا أن الآمال والطموحات تصطدم - كما هو الحال غالباً - بمعطيات الواقع وقيوده. وكما تتيح الأوضاع الجديدة بعد الثورة فرصاً واسعة لإعادة بعث السياسة الخارجية، وإحياء دور مصر الريادي في المنطقة والعالم، فإنها حبلى أيضاً بقيود وتحديات شتى ينبغي على صانع السياسة الالتفات إليها، والتعاطي معها بكفاءة، إن كان يبغي تغييراً واضحاً في الأداء، لا مجرد تغيير طفيف في النص المصاحب لأنغام اللحن القديم الرتيب.

ثمة ارتباط أصيل بين وحدة ومنعة وسلامة الجبهة الداخلية وبين قيام سياسة خارجية ناجعة، فذاك السبب لا غنى عنه في سبيل الوصول لتلك النتيجة. والآن، وبينما يحلم المصريون بتغيير أداء السياسة الخارجية المصرية إلى الأفضل، تواجه سفينة الوطن ثلاث تحديات رئيسية، ينبثق عن كل منها سؤال محوري ينبغي التوقف عنده والإجابة عليه.    

أولاً، من الصعب الحديث عن سياسة خارجية فاعلة ونشطة بدون أن تدعم هذه السياسة قاعدة إقتصادية قوية ومرنة. فلا توجد سياسة خارجية بلا تكلفة، تستقطع من الاقتصاد الوطني لخدمة الأمن القومي وتحقيق الأهداف العليا للوطن. لذلك فإن الأزمة الإقتصادية الحالية تخصم بلا شك من رصيد السياسة الخارجية، وتحد من قدرتها على الفعل والتأثير. والحلول التي تراهن عليها القيادة الحالية لا تختلف كثيراً عما سبق الرهان عليه في عقود الانكفاء والتبعية. إذ تعتمد كما هو واضح على القروض والاستثمارات الخارجية، مما يزيد من الاعتماد على الخارج، ويقوض استقلالية القرار المصري وحريته في الحركة.

الازدهار الإقتصادي إذن شرط من شروط كفاءة وفاعلية أي سياسة خارجية، وهو شرط لا يمكن الاستعاضة عنه بالخطب الرنانة، وفنون العلاقات العامة، والارتكان إلى أمجاد الماضي. وكما هو معلوم فإن تركيا لم تطور سياستها الخارجية وترتقي بطموحاتها في الإقليم في العقد الأخير إلا بعد بنائها أساساً اقتصادياً متيناً، يدعم ويصون هذا التوجه الجديد.

يثور في ضوء هذه المعطيات سؤال مهم: كيف سيتمكن صانع القرار المصري من إدارة السياسة الخارجية بأقصى كفاءة ممكنة في ظل شح الموارد، وتردي الأوضاع الاجتماعية، وازدياد الحاجة إلى رأس المال الأجنبي؟   

ثانياً، كلما اتسعت قاعدة التأييد السياسي للنظام القائم، كلما زادت قدرة هذا النظام على تنفيذ سياسة خارجية ناجحة. ولعلنا نذكر أن قوى العدوان الثلاثي على مصر في 1956 راهنت على أن التدخل العسكري كفيل بفض الالتفاف الشعبي حول القيادة وإسقاط النظام، وفشل الرهان نتيجة لتوحد الشعب مع قيادته في معركة التنمية والاستقلال الوطني. أما الوضع اليوم فجد مختلف، فالرئيس محمد مرسي نجح في الانتخابات الرئاسية بفارق ضئيل، والاستقطاب بين المعسكرين المدني والإسلامي على أشده، والوئام الطائفي المستقر منذ قرون يتعرض لأشد المحن. ولا يوجد ما يشير إلى أن هناك رغبة رئاسية في وقف التناحر المدمر بين القوى السياسية المختلفة، ولا في اتخاذ إجراءات فاعلة لتهدئة التوتر الطائفى، ولا في خلق إجماع وطني على مشروع سياسي وتنموي تتضافر فيه كل الجهود في تناغم لخلق نهضة حقيقية.

الانقسام الداخلي معطل للصعود الخارجي، والعاصفة القادمة ستهب على الأرجح من اتجاه الخلاف حول الدستور الجديد، الذي أجج الاستقطاب الدائر حول بعض مواده بالفعل من نير التناحر بين القوى السياسية المختلفة، وزاد من هوة الخلاف بين الرئاسة وقطاعات واسعة من الشعب.

الدور الخارجي النشيط يجلب معه بالضرورة مواجهات ومعارك، ومعارك السياسة الخارجية تستلزم حداً أدنى من التوافق الداخلي، وقدراً معقولاً من تأييد القيادة، ونصيباً أصيلاً من الشرعية  السياسية والمشروعية القانونية. والسؤال هنا: هل يمكن لدولة أن تحلق سياستها الخارجية وأوضاعها الداخلية على هذا النحو من التشتت والانقسام؟ 

ثالثاً، نجاح سياستنا الخارجية في تفاعلها تعاوناً وصراعاً مع القوى الأخرى على الساحتين الإقليمية والدولية خاضع لموازين القوى بين مصر وهذه القوى. فقدرات أي دولة في الساحة الدولية أمر نسبي يقاس بالمقارنة بقدرات الدول الأخرى. والبديهي في هذا المقام رفع دعائم الدولة، وتعضيد أوجه القوة، وسد مكامن النقص، وعلاج أوجه القصور.  

وتمثل الأوضاع الأمنية الغير مستقرة في سيناء أحد هذه المواضع التي تحتاج لرأب الصدع فوراً ودون إبطاء. إذ تشكل تهديداً سياسياً وأمنياً خطيراً في بقعة جغرافية لا تحتمل أي تهاون أو تقصير، وتغري أطرافاً خارجية إما لاستخدام هذه الورقة لفرض أمر واقع لا يصب في المصلحة الوطنية المصرية وسيادتها على كامل ترابها، أو لاستقطاع  تنازلات من مصر في قضايا حيوية أخرى. كما أن استعادة الأمن في سيناء اختبار لمدى قدرة النظام الجديد على التعامل مع الأزمات المعقدة بحنكة السياسة وحزم السلاح، ومن ثم سيعزز نجاحه من سمعته في الساحة الدولية.

لكن المؤشرات الأولى غير مشجعة، فالانفلات الأمني قائم رغم تعزيزات الشرطة والجيش، والمعلومات عن حجم الداء ومدى النجاح في استئصاله إما غائبة أو متضاربة، والسيناريوهات الكابوسية تملأ صفحات الجرائد وأحاديث الأثير. والسؤال هنا: إلى أي مدى يمكن أن تؤثر الأوضاع الأمنية المضطربة في سيناء على السياسة الخارجية المصرية باتجاه إسرائيل وحركة حماس وملف الصراع العربي-الإسرائيلي بشكل عام؟

الأزمة الاقتصادية الطاحنة، والانقسام الداخلي، وهشاشة الأوضاع الأمنية في سيناء أزمات تكبح جماح طموحاتنا وآمالنا التي أفرزتها ثورة يناير العظيمة في استعادة مصر لمكانتها الفريدة بين الأمم، والتي تستحقها لا ريب. وبقدر عظمة الثورة بقدر جسامة التحديات التي تلتها وبقدر الحاجة إلى العناية بترتيب وبناء الداخل قبل (أو بالتوازي مع) الشروع في التمدد للخارج.  

 د. نايل شامة

* نُشرت هذه المقالة بجريدة الشروق (بتاريخ 13 أكتوبر 2012).

 

Sunday, September 30, 2012

Beyond Muslim Rage


What often lies at the center of media attention isn’t necessarily the aspect worth our consideration and thought. The media coverage of the recent anti-US demonstrations in the Middle East is a good case in point. It focused on the details of the anti-Islamic film "Innocence of Muslims" (an obscure film which mocked Islam and its Prophet Muhammad), and the furious, in some cases violent, response of Muslims, but ignored other more important aspects.

To a large extent, the protestors, the real actors on the stage, have disappeared from the radar of political commentary. While still recognizing the significance of analyzing states, institutions, and power games among nations, the individual remains a crucial unit of analysis mostly overlooked by today's mass media as they feverishly compete with each other to hunt for dramatic news, in order to increase their ratings and attract more viewers and advertisers.

Infotainment, merging information with entertainment, distorts the news and doesn’t dig deep to provide thorough coverage and in-depth analysis. The commercial, profit-driven newspapers and TV channels reduced the anti-film protestors to unthinking thugs, who are full of hatred, and who intend, if given the chance, to inflict harm upon non-Muslims.

These negative, racial stereotypes are misleading. There are many other perspectives that sound journalistic coverage can use to analyze the behavior of the angry protestors who stormed US embassies in Egypt, Libya and other Muslim countries recently.  

First, protestors were not only furious because they felt their faith had been insulted. This is just a fraction of the truth. The film was, undoubtedly, provocative and disrespectful of Islam. The deep-rooted resentment of US foreign policy weighed heavily, whether consciously or not, on the minds of those who burned the US flag and threw stones on its embassies in Cairo and Benghazi. US support of Israel, its apparent indifference to the plight of the Palestinians, and its overall hegemonic policies in the Middle East have bred hostility to the US and deep suspicion of its intentions. Had the film been produced in, say, Ghana, Ukraine or Brazil, countries whose past interactions with the Muslim world haven’t been marred with distrust and ill-feelings, the response of Muslims would have been muted.  
 
Secondly, the violent clashes that lasted for days in the Egyptian capital cannot be understood without taking into consideration the decades-long popular enmity with the security forces. Egypt's gigantic security apparatus has had a shameful record of intimidation, torture, and misconduct for decades. The eruption of the 2011 revolution on January 25, National Police Day, came as no surprise. During the revolution, moreover, hundreds of mostly young Egyptians were brutally killed at the hands of the police. The painful moments of their death cannot be easily erased from the memories of their families and friends.   

Accordingly, going into battle with security forces has become a national hobby to many of Egypt's disgruntled youth who seek retaliation. As the footage of the recent clashes show, what started as a protest against the insult to Prophet Mohamed quickly turned into a collective fight-or-flight response with the police.  

Thirdly, the overwhelming sense of defeat as a civilization felt by Arab people left a deep scar on their collective psyche. Despite several ambitious development attempts in the past two centuries, progress has generally eluded the Arab world, as its people watched Western nations and Asian tigers make great leaps in economic development and scientific innovation.  

The contrast between a glorious past and a miserable present led Egyptians to ask a number of vital soul-searching questions, such as: Why is the scientific and economic gap between us and the First World so enormous? And why has it widened over the past years? People normally seek spiritual solace in times of crisis. Many Egyptians resorted to Islam, finding comfort and consolation in the teachings and promises of their faith.

To be sure, the question of identity figures prominently in the actions, reactions, attitudes and worldviews of young Arabs and Egyptians. The aversion to Western culture, particularly consumerism and sexual liberties, is commonplace in the Middle East. Westernization has been on the rise for many decades. It has permeated nearly all aspects of life, including culture, education, and lifestyle. Islamists perceive this as a threat to the unity and purity of the Muslim community and act accordingly. Interestingly, the Sudanese protestors broke into the German embassy, not the American, for they perceive the West as superior, homogeneous and hostile. An attack on Islam is seen as a direct attack by the 'other' on their safe spiritual haven that must be resisted.

Shallow media coverage perpetuates stereotyping and prejudice. We should expose it, challenge it, and change it.

Nael M. Shama

* This article was published in Global Times (China) on September 26, 2012.

Thursday, August 30, 2012

Morsi's Egypt: Toward a New Foreign Policy?


After consolidating his power domestically by dismissing top military generals, the newly-elected Egyptian President Mohamed Morsi probably reasoned that it is time he turn his attention to foreign policy. A series of his recent diplomatic activities such as visiting China, attending the Non-Aligned Movement summit in Iran and his visit to the US set for late September raise the question of whether post-revolution Egypt is in the process of rolling out a new active, independent foreign policy.   
There is little doubt that the 2011 revolution broke out primarily because of domestic reasons, such as the deterioration of socioeconomic conditions, rampant corruption and former President Hosni Mubarak's ill-advised plan to groom his unpopular son, Gamal, as his successor. However, foreign policy issues cannot be totally excluded from the factors that drove millions of protestors to demand his ouster. In his last years in office, Mubarak's policies drew closer to the policies of the US/Israeli axis, which came at the expense of an acute drop in legitimacy at home.  
Mubarak harbored a deep-seated sense of distrust towards regional militant Islamic groups, particularly Hamas, an offshoot of the Muslim Brotherhood (MB), then Egypt's most organized opposition group. He collaborated with Israel in the inhumane blockade of Gaza, exported scarce gas to Israel and turned a blind eye to Israel's maltreatment of the Palestinians.    
A departure from this past is almost inevitable. The new president would most likely reconsider his ties with Israel and search for a new formula of relations with the US.  
With regard to Israel, the honeymoon is undoubtedly over. The peace treaty will be kept, but Egypt may attempt to amend some of its provisions, particularly to allow for the deployment of more Egyptian troops in the Sinai Peninsula (demilitarized by the Camp David Accords) to curb the rising violence of local militants. Despite the MB's heated rhetoric, there will be no return to war, but neither will there be a close alliance.  
A totally new chapter with the US is not in the offing. Even before Morsi's election as president, the MB made overtures to the US administration, assuring her of continued political and economic cooperation, and guaranteeing that the peace treaty with Israel will not be annulled. Egypt is still in need of the US generous military aid, and Washington's political support is crucial to secure badly-needed financial assistance from international financial institutions. Egypt has already requested a $4.8 billion loan from with the International Monetary Fund.   
But Morsi will attempt to diversify his international alliances, and lessen his predecessor's dependence on the Americans. In addition, and in light of Egypt's current economic malaises, its government will seek to bolster its economic relations with the world's major economic powers, including China and the European Union.  
It is within this context that Morsi's visit to China should be viewed. Modern Egyptian-Chinese relations date back to 1956, when late President Gamal Abdel-Nasser recognized the People's Republic of China against the backdrop of Western denunciation. Since then, economic relations have constituted the backbone of the bilateral ties. Egypt is looking forward to attracting Chinese investors and tourists, and various cooperation agreements have been signed during Morsi's visit.  
The future of Egypt's diplomatic relations with Iran represents the real litmus test for change in Egyptian foreign policy. Bilateral relations have been severed for more than thirty years. The Iranians have since Khomeini's death sought a rapprochement with Egypt, but Mubarak was not interested. With him gone, the road seems to be paved for the resumption of relations. Indeed, a few days ago, Iranian Foreign Minister Ali Akbar Salehi said that both countries are moving toward restoring diplomatic relations.
How soon will that happen remains unclear. Morsi would first have to alleviate the fears of Gulf States leaders, who are concerned an improvement in Egyptian-Iranian relations would tip the regional balance of power toward Iran. Needless to say, the Americans share the same reservations. But mending fences with Tehran would signal Morsi's determination to pursue an independent foreign policy that is neither constrained by Egypt's "special" relationship with the US nor by its need of financial assistance from oil-rich Gulf States.
The foreign policy challenges facing today's Egypt are abundant. Morsi will have to decide where Egypt stands on a number of fast-evolving regional issues, such as the civil war in Syria, the US-Iran discord, and Arab-Israeli relations. Moreover, there is a general feeling in the country that, under Mubarak, Egypt abandoned its responsibilities and forfeited its leading role in the Middle East. Morsi is expected to restore Egypt's strategic and political clout, and he may have just taken the first step toward that goal.    


* This article was published in Global Times (China) on August 30, 2012.





Sunday, June 17, 2012

Shafik: What's at Stake?


There is little doubt that on a personal level presidential candidate Ahmed Shafik provides his audience with many reasons that would deter them from voting for him. But the issue at stake clearly transcends the persona of Shafiq, his unmasked arrogance, and his many media blunders. It rather goes into the heart of the nature, structure and alliances of the formidable Egyptian state.
    
A little bit of history is needed here. The nation state that emerged in the Arab world after independence has exhibited a remarkable ability to reproduce itself against all odds. The numerous military defeats against Israel, the inability to fulfill the basic needs of their populations, the stark deterioration in public services, and the pervasive corruption among top officials have all produced a huge legitimacy deficit. However, to the surprise of political and social scientists, these regimes managed to survive, and not only for a year or decade, but for more than five or six decades.

The post-independence Arab state relied on a variety of means to preserve itself in the face of a plethora of internal and external threats. First, and perhaps most importantly, it relied on the might, or rather cruelty, of the security apparatus to crush dissidence and restore order. And so "republics of fear," which capitalize on executions, military trials, prolonged detainments, and torture, thrived. Secondly, the economic and military support of superpowers constituted the lifeline of these ailing regimes. Whenever internal threats seemed to topple them from their fragile thrones, a new kiss of life was provided by their external patron.   

Thirdly, the art of propaganda and brainwash techniques were incessantly utilized to give the impression that major change (or reform) is underway. For instance, in the late 1970s, President Anwar Sadat replaced the single-party system, in place since the 1950s, with a multi-party system. The heavy rhetoric of "change" notwithstanding, the dynamics governing the old/new political system remained untouched. The dominance of the single party persisted, with only the National Democratic Party (NDP) replacing the Arab Socialist Union. Also, by the outbreak of the 2011 revolution, more than twenty parties were operating in Egypt, most of which serving the interests of the authoritarian state well by giving the impression of a competitive democratic process. Meanwhile, the ruling party was, using fraudulent means of course, always winning the majority of parliament seats, including the landslide 97% win in 2010.   

Five years earlier, the state media's machine was beating the drums of "the new dawn of democracy" after President Hosni Mubarak decided to amend Article 76 of the constitution in order to open the door for a direct, multi-candidacy electoral process. But, again, with the executive control of the ballots, the presidential election was a farce. Mubarak remained the unchallenged president, aided by a few puppets used to decorate the sham election.

Old wine was once more poured into new shiny bottles to thwart real fundamental change.
   
Fourth, a fierce ruling class (in Egypt, composed of the presidential center, the security apparatus, the huge bureaucracy and the largely parasitic business bourgeoisie) emerged with its vested interests, privileges and ambitions. In control of these vital institutions, the ruling class has closely worked behind the scenes to ensure the continuation of its decades-old dominance. The 2011 revolution sent shockwaves through this formidable establishment, and the privileged classes have vigorously reacted to retain their power and fortune.  

In brief, the Arab state in Egypt and many Arab countries persisted, but at a huge human and political cost. Development and progress were impeded, basic human rights were denied and political liberalization remained elusive. Egypt stood still for decades, as it agonizingly watched dozens of developing countries in Africa, Asia and Latin America making great leaps toward democracy and economic prosperity.  
  
This corrupt state has defied change, and it is this state – with its deep-rooted structure, alliances and policies – that Shafik embodies by virtue of association, profession, and doctrine. His unwillingness, perhaps even his inability, to bring down this state is alarming. If elected president, Shafik and his associates will obviously pay lip service to "the glorious January revolution" and "the sacrifices of the martyrs" and will brag about their unwavering commitment to put Egypt on the "road to democracy." But this gigantic corrupt entity will be preserved under his leadership. Shafik's discourse, age, long association with the military establishment and the Mubarak regime all suggest that he is no revolutionary; he spearheads the counter-revolution. Tahrir will become a symbol, not a vehicle for change. Meaningless cosmetic reform, a la Nasser, Sadat and Mubarak, will be put forward, and real reform will be deferred. Déjà vu.
    
The authoritarian state installed post-1952 (or the "deep state," as the Turks prefer to call it) is still intact. Its raw and administrative coercion is seen everywhere, the havoc it has brought to Egyptian society is immense, and its intense resistance to change is glaring. All this must be – finally – brought to an end.   

Nael M. Shama

* This article first appeared on The Egypt Monocle (www.egyptmonocle.com) on June 7, 2012. 

Sunday, February 12, 2012

The Dominance of Mubarakism




One year after the dramatic ouster of former Egyptian President Hosni Mubarak, many Egyptians now look retrospectively at the jubilation that followed his resignation with ache and bitterness. "We made a big mistake by leaving Tahrir Square," they say, admitting that the removal of Mubarak did not connote the triumph of the revolution as they then, quite naively, thought. Mubarak is gone, but his rotten regime still combats the revolution and resists reform efforts. With the influence of money, propaganda and connections, Mubarak's regime continues to reproduce itself under new shiny banners and slogans with a fancy revolutionary veneer. Whither the revolution when the old ruling elite is still in force?

The Hegemony of Old Elites
There's nothing puzzling about the resilience of the old elites. Egypt's traditional elites are still coherent, well-organized, and well-positioned to control the state's key resources and to make and influence policies. The military elite is made up of a small and cohesive group of top officers, whose closeness has been fostered by belonging to the same duf'ah (graduating class) and shilla (group), and the entrenched interests of the business elite are intertwined and fostered by ties of kinship and marriage. In addition, the state machinery has not been purged of the corrupt bureaucratic elite – managers, technocrats and top civil servants – that has been born and raised in the rotten structures of Mubarak's Egypt.

There is no scarcity of opportunists in this country, who cling to authority and influence, the change of fashionable ideology and discourse notwithstanding. In the 1960s, socialism was top-down applied without true socialists in the corridors of power, and in the 1970s, 1980s and 1990s, there was much talk about democracy being the ultimate remedy to all ills, but without democrats and without any official commitment to full-blown democracy. In post-revolution Egypt, the unblemished façade of a revolution exists without many revolutionaries in charge, and perhaps even without a real revolution. The old elite (together with the rising new parliamentary elite) has again associated itself with the ruling authority as it strives to monopolize control of the spoils that can be harvested in the new setting. These elites assert their presence in the public domain, paying lip service to the prevailing political order, and preaching the virtues of the triumphant ideology.

Furthermore, the forces of the revolution have not transformed themselves into a viable political grouping. The youth of the revolution are inexperienced, divided, and leaderless. And, sadly, some of them defected and followed the path of self-interest, finding comfort in media platforms, an early warning of their propensity to be co-opted by the disposition and dynamics of the existing sociopolitical order.

The sponsors of the ancient regime (referred to as folool, or remnants, in post-revolution political discourse) have not been, particularly in the lower echelons of state structure, rooted out by the revolution because the revolutionaries, who challenged the dictator and withstood his wrath, did not assume power after toppling him down. Instead, a faction of Mubarak's ruling elite, the military, took over power and throughout the past year it has made certain no fundamental change applies to the nature, alliances and doctrine of the Mubarak regime.

The Supreme Council of the Armed Forces (SCAF) is composed of 19 senior officers, all veterans of Mubarak's regime, all the faithful guardians of his regime against internal and external threats for many years. During the riots of the Central Security Forces in 1986, Mubarak relied on the army to restore law and order, and the top brass proved to be loyal to him and rigorous against the rebellion of a sister security organization. In the 1980s and 1990s, the army went into battle against the fierce Islamic insurgency that claimed the lives of more than 1,000 Egyptians to protect Mubarak's regime. In addition, in the name of protecting the "constitutional legitimacy" of the state, the rise of Gamal Mubarak was never openly contested by the military establishment.

Mubarak's protracted era, logically, shaped these officers' beliefs and worldviews. Over the past twelve months, no wonder, the stance of SCAF has oscillated between taming the revolution and blatantly working against the revolution. And on the spectrum linking these two postures, the political attitudes and decision-making style characterizing SCAF's misrule have remarkably emulated those of the ousted despot.

Mubarakism
Traditionally, the suffix "ism" is appended to nouns – as in socialism, capitalism, fascism, etc – to refer to a philosophical paradigm, or school of thought. To apply it to Mubarak not only contravenes the rules of linguistics, but also betrays common sense. For three decades, Mubarak substituted politics with administration, and ruled without a strategic vision or a philosophical outlook. For purposes of simplicity, however, we can drop the semantic identification of "ism" with ideology, and use it to refer to the characteristics of Mubarak's rule and his decision-making style.

Despite some limited successes in economy and foreign policy in his early years in office, Mubarakism, if applied to the entirety of his political tenure, epitomized economic and administrative failure, political decadence, and foreign policy inaction, all of which resulted in a huge legitimacy deficit. In terms of decision-making style, Mubarakism was marred with the lack of a broad strategic vision, suicidal indecisiveness and the instinctive inclination to address political problems with security solutions. In addition, similar to authoritarian regimes that are short on legitimacy and long on armaments, repression was omnipresent and intense.

In addition to emulating Mubarak in his subjugation of dissent, and his harassment of critical journalists and newspapers, SCAF in many aspects outbid Mubarak's notorious brand of authoritarianism. The ousted president did not dare send 12,000 civilians to military courts in less than one year (perhaps a world record), nor did he issue a law that outlaws strikes and demonstrations. SCAF took these measures in the name of "curbing violence and lawlessness." This is typical dictatorship propaganda, and so reminiscent of the daily belching of Bashar Al-Assad's big lying machine.

Against the backdrop of authoritarian rule, Mubarak tried to give the impression of residing over an open political system and an inclusive decision-making process. His decision-making style can be summarized as follows: you may consult many, but finally take the decision according to your own thinking, even if it was against the law, the national interest or majority opinion. The process through which laws have been formulated after the revolution has followed that same path; SCAF members met with representatives of political parties, youth coalitions and public dignitaries on a regular basis. However, everybody soon realized that these meetings were nothing but public relations sessions, or chitchat gatherings. In the end, the opinion of Egypt's political and social forces was mostly disregarded, and SCAF had their own way.

Additionally, the basic tenets of Mubarak's economic and foreign policy, which partly triggered the revolution, remain untouched.

In his last years in office, Mubarak became addicted to the powerful psychological mechanism of denial. As Mubarak maintained an inexcusable silence on the chronic crises that hit every sector of Egyptian society, he preferred to spend quality time chitchatting with Tal'at Zakaria, an actor who starred in the mediocre movie "The President's Chef," and to pay homage to the national football team, even after it failed to qualify to the World Cup. This lazy attitude, which bred inattention to political crises until they grew and escalated out of control, continued after his demise. The sectarian problem, the discord between judges and lawyers, the strikes and sit-ins staged by workers and state employees, which destabilized the economy in the last few months, could all have been avoided had SCAF, or its well-groomed poodle -the toothless cabinet- intervened earlier.

History vanishes when the lines between "before" and "after" (in our case, February 11th, 2011) are so blurred. For how could one comprehend the essence of historical development without the juxtaposition of "before" and "after"? One year after the January 25th revolution, Egyptians are outraged and disappointed. Mubarak is gone, but Mubarakism still lingers. If it is not shattered, millions of them will continue to flock to Tahrir Square.

Nael M. Shama

* This article was published in Daily News (Egypt) on February 7, 2012.

Sunday, January 15, 2012

المجلس العسكري ومستقبل الديمقراطية في مصر


* Photo: Nael Shama, Tahrir Square, February 2011.




جرت في نهر العلاقة بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة والشعب المصري مياه كثيرة منذ توافق الطرفان في فبراير الماضي على ضرورة إقصاء الرئيس مبارك عن المشهد السياسي، بعدما اتضح بجلاء أن مجرد وجوده صار عبئاً على الجميع. لقد مرت أشهر عدة على نجاح الثورة، زادت فيها شقة الخلاف بين قطاعات واسعة من الشعب والمجلس العسكري، وتزايدت الشكوك، وتقلصت مساحة الثقة بالنوايا، وحل التربص والنزاع محل التسامح والوفاق. وإذا كانت أهداف ومصالح الأطراف المختلفة التي تشارك في عملية صنع القرار السياسي تتلاقى أحياناً، فإنها بحكم طبائع الأمور تتنافر أحياناً أخرى. لذا فالسؤال الجوهري الآن هو: أمازالت مصالح الطرفين – أي الجيش والشعب – متطابقة (كما عبر شعار الثورة الأثير: الجيش والشعب يد واحدة)، أم أن تطورات الأحداث قد أبرزت اختلافات نابعة من تناقضات بنيوية لا فكاك منها؟

لعل العبارة الذكية التي صاغها جراهام أليسون عالم السياسة الشهير والأستاذ بجامعة هارفارد وهي: (Where you stand depends on where you sit) تصلح مدخلاً للولوج إلى الموضوع. معنى العبارة الحرفي هو "موضع وقوفك يرتبط بموضع جلستك"، أما المغزى المقصود فهو أن المواقف التي يتبناها المرء تجاه سياسات معينة تعتمد بالأساس على مصالح وامتيازات وارتباطات المؤسسة التي ينتمي إليها. وبالإضافة إلى الاستخدام اللغوى الذكي للتقابل (في ثنائية الوقوف والجلوس)، فإن العبارة تلخص نموذجاً لفهم صناعة القرار ابتدعه أليسون، ملخصه أن القرار السياسي هو ناتج تفاعلات الأطراف المختلفة الضالعة في اتخاذه، وأن مواقف أي فرد في هذه العملية لا تحيد أبداً عن مصالح الجهة التي ينتمي إليها.

وهو ما ينطبق تماماً على مصر ما بعد الثورة. فبعد تنحي الرئيس السابق مبارك، سقط نموذج القائد الفرد الذي يهيمن منفرداً على صناعة القرار في ظل دولة مركزية فعلياً وميتافيزيقية نفسياً، وحل محله نموذج أليسون البيروقراطي، الذي يشير إلى مشاركة أطراف عدة في صناعة القرار، يتراوح تأثيرها تبعاً لأوزانها المختلفة في المسرح السياسي. والوزن الأكبر في المرحلة الحالية هو بطبيعة الحال للمجلس العسكري. وبالطبع فإن مواقف ذلك المجلس لا يمكن فصلها عن مصالح المؤسسة التي يمثلها، والتي أمضي كل أعضائه حياتهم في خدمتها. المدخل إذن هو فهم المصالح الرئيسية للمؤسسة العسكرية، وإدراك تأثيرها على مسار الفترة الإنتقالية السابقة، وعلى خطة الطريق التي اعتمدها المجلس للمستقبل، فما هي إذن المصالح الرئيسية للمؤسسة العسكرية في مصر؟

أولاً، المصالح الاقتصادية: تدير المؤسسة العسكرية إمبراطورية إقتصادية ضخمة، تتنوع نشاطاتها ما بين استصلاح الأراضي، وإدارة الفنادق، وإنتاج مواد البناء، والأجهزة الكهربائية، وحتى المياه المعدنية. وبرغم تراوح تقديرات الباحثين بشأن حجم أعمال هذا القطاع بالنسبة إلى حجم الإقتصاد الوطني (قدرها روجر أوين أستاذ تاريخ الشرق الأوسط بجامعة هارفارد ب40% من حجم الإقتصاد المصري)، فإن المؤكد أن هذه الإمبراطورية الإقتصادية الضخمة أنتجت عبر السنين شبكة واسعة ومتداخلة من المصالح المستقرة العصية على التفكيك، إلى جانب نخب نافذة ومستقرة تدافع عن سلطاتها وامتيازاتها. وتنقل إحدى وثائق ويكيليكس عن السفيرة الأمريكية السابقة قولها في سبتمبر 2008م إن معارضة الجيش القوية لعملية الإصلاح الإقتصادي مردها رغبته في الحفاظ على النفوذ الواسع الذي يتمتع به في هيكل الاقتصاد المصري.

فكيف سيكون رد فعل المجلس العسكري إن حاول الرئيس القادم أو البرلمان القادم الحد من الامتيازات الاقتصادية الواسعة للمؤسسة العسكرية أو إخضاعها لرقابة مالية وإدارية أوسع؟ وهل سيرحب المجلس بعملية إصلاح اقتصادي حقيقي تدعم المنافسة الحرة والشفافية في السوق المصرية إن مست تلك العملية تماسك البنية الإقتصادية للمؤسسة العسكرية؟

ثانياً، العلاقة مع إسرائيل والولايات المتحدة: يدرك أعضاء المجلس العسكري قبل غيرهم مخاطر الانزلاق إلى مواجهة عسكرية غير متكافئة مع إسرائيل، ليس هذا زمانها ولا ظروفها. وبالتالي فإن حرصهم على استمرار العلاقات الودية مع إسرائيل وتجنب تسخين العلاقات مع حكومتها أمر لا شك فيه. ومن هنا يمكن تصديق التصريحات التي أدلى بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لقناة العربية، والتي أعلن فيها أن "النظام المصري الحالي وعدنا بألا يكون هناك تغيير (في العلاقة مع إسرائيل)". والسؤال هنا: ماذا سيكون موقف المؤسسة العسكرية لو لجأ الرئيس القادم إلى التصعيد في ملف العلاقة مع إسرائيل (سواء لكسب شعبية في الشارع أو إنطلاقاً من قناعات أيديولوجية)؟ وماذا لو نجح هذا الرئيس في الحصول على تأييد البرلمان والرأي العام لمواقفه؟ بعبارة أخرى، هل سيوافق الجيش على ديمقراطية تضعه على طريق المواجهة مع إسرائيل؟

وبنفس المنطق فإن الجيش حريص على ضمان استمرار تدفق المساعدات العسكرية الأمريكية التي زاد مجموعها عن 40 مليار دولار منذ نهاية السبعينات. وبالتالي فهو غير مستعد لتقبل سياسة راديكالية تهدد بتلغيم العلاقة مع واشنطن وتغامر بمصير مساعدات واشنطن السخية.

ثالثاُ، الموقف الفكري: مع التسليم بصعوبة المعرفة التامة بالاتجاهات الفكرية والسياسية لأعضاء المجلس العسكري بشكل خاص، أو لكامل أفراد المؤسسة بشكل عام، كونها مؤسسة أمنية منغلقة على ذاتها، ومنضبطة مهنياً، ظلت لعقود لا تمارس العمل السياسي في العلن (ولذلك شبهت ب"الصندوق الأسود")، إلا أن الشائع في الدراسات السياسية المتوافرة عن العسكر في مصر هو ميلهم إلى المعسكر العلماني سياسياً، واليميني اقتصادياً، ونفورهم من التيارات الدينية بكل تنويعاتها ومدارسها.

والسؤال الذي يبرز هنا هو: إلى أي مدى سيقبل المجلس العسكري بنتائج العملية الديمقراطية إن أسفرت عن وصول رئيس ينتمي للتيار الديني إلى سدة الحكم؟ أو إذا حصل ذلك التيار وفق انتخابات نزيهة على أغلبية كبيرة داخل المجالس النيابية؟ هل سيحترم المجلس العسكري تلك النتائج؟ أم أن مباركته لعملية التحول الديمقراطي مشروطة بعدم سيطرة التيارات الدينية على السلطة؟

كل هذه الأسئلة تفتح الباب لسؤال أساسي ومصيري، وهو: هل مصر القابعة الآن تحت سيطرة المجلس العسكري بصدد الانتقال إلى ديمقراطية حقيقية؟ أم أن المصالح المتجذرة للمؤسسة العسكرية ستحول دون ذلك، وستضع إطاراً عاماً للسياسات العامة لا يمكن تجاوزه من قبل القوى السياسية؟

د. نايل شامة

* نُشرت هذه المقالة بموقع الحوار المتمدن (بتاريخ 29 ديسمبر 2011).