Wednesday, August 30, 2017

يوم تحين لحظة التغيير في مصر (2): ملاحظات حول تقديس الثورة

حديث التغيير المحتوم في مصر يجرنا شئنا أم أبينا إلى حديث الثورة بمفهومها الضيق، أي المظاهرات والاعتصامات وسائر الاحتجاجات الشعبية التي تؤدي إلى حدوث تغيير في قمة السلطة يمهد الطريق لتغيير النظام برمته. هذا الاقتران الشرطي في ذهنية كثير من المصريين راجع لسببين أساسيين. الأول هو تجربة الماضي القريب، متمثلة في 25 يناير و30 يونيو، اللتان صارتا جزءاً لا يتجزأ من وعي الشعب ونظرته إلى وسائل التغيير. أما الثاني فهو انسداد وسائل التغيير السلمي من داخل النظام، بل ووفاة السياسة عملياً في العهد الحالي، ما يجعل التغيير من داخل إطار المؤسسات الحالية أمراً يكاد يكون مستحيلاً، ولذلك تتكرر الإشارة إلى عبارة جون كينيدي الأثيرة - "هؤلاء الذين يجعلون الثورة السلمية مستحيلة يجعلون الثورة العنيفة حتمية" - في أدبيات المنشغلين بالشأن العام في مصر.    
التوق إلى الثورة أدى إلى اختزال التغيير في الثورة، بل وتقديس الثورة ورفعها فوق مستوى التناول والنقد. ثمة إشكاليات عدة تنبثق من ذلك المنحى. فمن حيث المبدأ يبدو أن البعض وقع بوجدانه أسيراً للثورة وصورها ورموزها، فنسى أن الثورة وسيلة وليست غاية في حد ذاتها، فركز أنظاره على الوسيلة متناسياً الغاية الأخيرة التي يرتجى الوصول إليها. والواقع أن التاريخ الإنساني يزخر بتجارب كثيرة تجاوزت فيها الوسائل الغايات وابتلعتها. مثلاً، طور العالم الأسلحة كوسيلة لاستخدامها لغاية محددة هي الحرب، لكن تطور صناعة السلاح وزيادة القدرة التدميرية الفتاكة لتلك الأسلحة (وخصوصاً الأسلحة النووية) جعل الحرب نفسها مستحيلة، وإلا خسر الطرفان ودُمر العالم بأسره.   
ثم أن الجنوح للثورة أمر محفوف دوماً بالمخاطر، ولهذا لا يجب اللجوء إليها إلا اضطراراً، لا السعي إليها هرولة بغض النظر عن السياق والتداعيات والنتائج. ولعل الجميع يدرك أن الأوضاع في مصر - الآن وفي المستقبل القريب - أسوأ كثيراً مما كانت عليه في 2011م، وعلى جميع المستويات. فالاقتصاد يمر اليوم بأزمة عضال لم يشهد مثلها منذ ثلاثين عاماً على الأقل، أما السنوات السابقة لثورة يناير، فشهدت تحسناً نظرياً في بعض المؤشرات الاقتصادية مثل معدل النمو، لكن أحداً لم يشعر بثماره بسبب سوء التوزيع وتوحش الفساد. أيضاً تراجعت وطأة العمليات الإرهابية في مصر مبارك منذ عام 1997م، ثم شهدت مصر هدوءاً كبيراً في السنوات الخمس السابقة على الثورة (باستثناء حادث كنيسة القديسين في الإسكندرية)، فيما وصل الوضع الأمني اليوم إلى ما هو أخطر بكثير. ثم أن رد فعل القوى المعادية للثورة لن يقف عند حدود التحريض الإعلامي الساذج أو استخدام أرباب الجمال للهجوم على المتظاهرين كما حدث في يناير. لقد تعقدت بشدة شبكات المصالح المستفيدة من الوضع القائم، وامتدت بطول البلاد وعرضها، والأرجح أن يستميت أصحابها للدفاع عن مصالحهم بكل قوة وقسوة. سيناريوهات المستقبل إذن إما غائمة أو كابوسية تشيب لها النواصي، لذا فالحسابات السياسية والإنسانية مطلوبة، والبحث في الخيارات والاحتمالات فريضة، والتريث ضروري،، وليس في ذلك أي نقيصة أو عيب.    
وحتى إذا وصلنا في مصر إلى وضع لا يتأتى تغييره بغير طريق الشارع وانتفاضته، وهو أمر محتمل، فإن دور الشارع سيقتصر على إطلاق شرارة التغيير، لا بلورة محتواه وتحديد مآله. لقد أبدع الشباب أيما إبداع في ثورة يناير، راسمين في جمهورية التحرير صورة بديعة، بكفاءة التنظيمً وبسالة التصميم وروعة الالتزام ورقي المعاملة. لكنهم - ومعهم زمرة السياسيين والمثقفين - فشلوا أيما فشل في المرحلة الانتقالية التي دُشنت بعد رحيل مبارك. سيطر سلطان الغضب والإفراط في العفوية، وغاب التحليل السليم لما هو حاصل ولما هو آت، واختفى التنظيم والتخطيط، وساد التشرذم القوى الثورية من بعد التوحد، وشاع الانغماس في معارك جانبية لا طائل من ورائها. ولذلك صحت فيهم مقولة الشاعر أحمد شوقي: "قادة الثورة مقودون بها، كالجلاميد تقدمت السيل، تحسبها تقوده وهي به مندفعة". ولم يكن غريباً بالتبعة أن تُهزم الثورة وتُنكس راياتها في أعين قطاعات واسعة من الشعب قبل أن تسحق على يد السلطة وهراواتها.
وفي العموم، يبقى أن الانفجار الثوري لحظة، أما التغيير فعملية مستمرة من العمل المضني تدوم شهوراً وسنوات، تتعرج وتنعطف فيها المسارات مراراً قبل أن تصل لمحطتها النهائية. فما الضمان على أن مصير يناير التعس لن يتكرر إن كرر الظرف التاريخي نفسه مرة أخرى؟
***
إن الشد والجذب في أوساط المثقفين بين مدرستي الإصلاح والثورة، وما بينهما من ظلال وأطياف وتخوم، قديم قدم الفكر الإنساني، ولا يعكس بالضرورة الفرقان بين فسطاطي الحق والباطل، بل هي فقط تصورات ورؤى مختلفة تبغي الوصول لعين الهدف. اختلف الفلاسفة مثلاً حول الثورة الفرتسية، فعارضها ادموند بيرك بشدة في كتابه "تأملات حول الثورة في فرنسا"، معرباً عن ثقته في أن التغيير الراديكالي لا يجدي نفعاً، وأن الثورة بالضرورة ستزيد الأوضاع سوءاً. أما توماس باين فكان من أشد أنصارها وملهميها، من خلال كتابيه "المنطق السليم" و"حقوق الإنسان". كما تفرقت السبل بمنظري الثورة الشيوعية في نهاية القرن التاسع عشر، فكان هناك إدوارد بيرنشتاين الداعي إلى مراجعة أفكار كارل ماركس، وكانت هناك الثورية روزا لوكسمبورج التي انتقدت أفكار بيرنشتاين في كتابها الشهير "إصلاح اجتماعي أم ثورة؟". أيضاً، في ظل احتدام الصراع في مصر مع السراي والإنجليز في عشرينات القرن الماضي، قال السياسي مكرم عبيد: "دلوني على الطريق، أثورة؟ ... نحن لسنا رجال ثورة. وأما الانتخابات فلندخلها"، فيما تحمس آخرون لاستئناف ثورة 1919م. وبالمثل، آمن الاشتراكيون الإنجليز من أتباع الجمعية الفابية - مثل الكاتب برنارد شو والإقتصادي سيدني ويب - بالإصلاح التدريجي الهادئ عوضاً عن التغيير بواسطة الثورة الشاملة.  
بيد أن معسكر الثورة في مصر نزع بإسم الحفاظ على النقاء الثوري المحض إلى تقديس الثورة بشكل مطلق، ورفض كل ما عداها. أنتج ذلك تزمتاً، وإفراطاً في التشدد مع المختلفين في الرأي، حتى هؤلاء المنضويين تحت لواء الثورة. ولذلك انتشرت لغة التخوين وسادت الشتائم في أوساط الثوار منذ يناير وحتى الآن. ثمة مفارقة كبيرة هنا، وهي أن الثوار تحولوا في تعلقهم هذا بفكرة الثورة واستبسالهم في الدفاع عنها لمحافظين متصلبي المزاج لا ثوريين حقيقيين. إذ ما الثورة سوى يقظة واعية، واستمرار أبدي في إعمال العقل، والتعاطي مع الأفكار، وتقليب الأمور على جوانبها؟ يشبه هذا التشدد ما ذهب إاليه فلاديمير لينين من وصف كارل كاوتسكي بالمرتد (renegade) في كتابه الشهير "الثورة البروليتاربة والمرتد كاوتسكي". كان كاونسكي قبلها أحد منظري الماركسية العتاة، ووُصف كثيراً "ببابا الماركسية". ثم اختلفت رؤى  الرفيقين حول الثورة والحكم وطبيعة الدولة السوفيتية الناشئة، وما لبث أن استحال الاختلاف خلافاً، ثم استعر الحلاف وتحول إلى عداء مستطير. وكان أن قال لينين بعدها: "أنا أكره وأحتقر كاوتسكي الآن أكثر من أي وقت مضى ، بحقارته وقذارته وزهوه بنفاقه". أما روزا لوكسمبورج فوصفت كتابات كاوتسكي بأنها "سلسلة مقرفة من شبكات العنكبوت". وفي السنوات الأولى للثورة الإيرانية، استفحل الخلاف بين الإمام الخميني ونائبه آية الله حسين منتظري (وهو أحد قادة الثورة ومنظريها)، ما أدى إلى فرض الإقامة الجبرية على الثاني، وإبعادة كلية عن حقل السياسة والفتوى.
نرى ما يشبه هذا الفُجر في الخصومة في سجالات الثوار المصريين ومناقشاتهم، حيث التطاوس الأجوف، والنزعة إلى نفي الغرماء ووصمهم بالخيانة ووصد الأبواب أمام آرائهم، وتبادل ذرابة الكلام وقاسي النعوت عند أول خلاف في وجهات النظر دون أن يندى لأحدهم جبين. أنى للتغيير الحق أن ينجح في تخليص الوطن من ربقة الاستبداد إن كان هذا النزق الطفولي هو سمت جنوده الأوفياء؟ وأنى لنا أن نصل إلى الديمقراطية إن كانت قيم كثير من الساعين إليها ديكتاتورية وإقصائية بامتياز؟
وبصرف النظر عن مثالب ومناقب نهجي الإصلاح والثورة، فإن ثمة أمران رئيسيان يجب وضعهما دوماً في الاعتبار. الأول أن الثورة في الأساس إدراك وتفكير، وليست تعصباً وبغضاً وحزبية وعلواً في الصوت وضيقاً في الأفق. ليست هذه بالطبع دعوة إلى المهادنة مع الظلم، أو القبول بالاستبداد وسياساته، أو حكم الأقلية ورجاله، بل هي دعوة إلى إعمال العقل، وتعاطي السياسة، والتخلص من إسار العاطفة حين تدق ساعة العمل. الأمر الثاني أن إرادة الفعل لا قيمة لها إن لم يسبقها حرية العقل. فالتفكير هو أساس التقدم الإنساني، أو كما قال هيجل أساس إعادة إنتاج البشرية لذاتها (sich selbst produzieren)، ثم جاء ماركس واستبدل قيمة التفكير بالعمل. أما الحقيقة فما هي إلا شك يؤدي لليقين ويقين قابل للشك. لكن العقل الثوري في مصر كثيراً ما يتنحى مفسحاً المجال لطغيان المشاعر وفيضان الغضب وتدفق شحنات الوجدان، في حالة من الانجراف لا يشكمها منطق أو تلجمها رشادة.
حري بالثوار النبلاء ألا يقعوا فيما وصف به الفيلسوف نافذ البصيرة اومبرتو إكو الفاشيين، حين قال أنهم صاروا أسرى للعمل أو الحركة (action)، فالحركة في نظرهم جميلة في حد ذاتها ولهذا يجب الاعتماد عليها بدون أن يسبقها أو يرافقها أي تدبر، فالتفكير شكل من أشكال الخصي. فليكن العقل نبراسنا دوماً على درب الحرية، أليس العقل بعماد الحرية في نهاية المطاف؟  
  
وللحديث بقية في الجزء القادم من المقال.     

د. نايل شامة

* نُشرت هذه المقالة بموقع المنصة (بتاريخ 30 أغسطس 2017).       

Wednesday, August 23, 2017

يوم تحين لحظة التغيير في مصر (1) صعوبات على الطريق

إذا كانت الجهود الرامية لإصلاح الواقع في مصر قد اصطدمت بصخور عدة، كارتفاع مستويات القمع، وتقلص مساحات التعبير عن الرأي، ورقاد الأحزاب والمثقفين في سبات عميق، فلا مناص – ولا بأس – من الانشغال بالمستقبل والتدبر في أمره. فالوضع الحالي ليس مستداماً وليس مستقراً مهما أوحت الشواهد بغير ذلك، بل يمكن القول أنه يحمل في طيات بنيته وأطره وأدائه بذور تغييره، طال الوقت اللازم لذلك أم قصر. إذ لا يمكن تصور أن تتزامن لفترة طويلة عوامل كممارسة أعلى درجات القمع والمعاناة المجتمعية من أسوأ الأزمات الاقتصادية مع موت العملية السياسية بالكامل وتفاقم الفشل الإداري في كل القطاعات دون أن يحدث أي انفتاح ولو جزئي في النظام السياسي. لكن المعضلة أنه حين تحين في المستقبل لحظة تغيير كبرى – أياً كان نوعها ومقدماتها وتوقيتها – فإن قوى التغيير ستجد أنفسها أمام بيئة غير مهيأة بالمرة للتغيير. ففي الحاضر علل مستعصية ستقف في اللحظة الفارقة حجر عثرة أمام نجاح أي تغيير سلمي ومتوازن وبناء.
أول تلك العلل هو غياب البديل القادر على ملء الفراغ السياسي وقت الأزمة، نتيجة لضمور الحياة السياسية، واقتلاع مؤسسات المجتمع المدني وتأميم الإعلام. المفارقة أنه كانت هناك ثمة حياة سياسية أيام مبارك (الذي قامت ضده ثورة أنهت عهده)، لكنها كانت محكومة بقواعد صارمة، تحافظ على منصب الرئيس وهيمنة الأجهزة الأمنية وسيطرة الحزب الحاكم على البرلمان. برغم السلطوية، لم تمت السياسة، وأعلنت عن نفسها من خلال منابر مختلفة، كالنقابات وصحف المعارضة ومسيرات الشارع (وفي وقت لاحق استعانت بالأدوات الرقمية كالمدونات ووسائل التواصل الاجتماعي). اليوم يبدو ذلك القليل من السياسة (والمحصور في الهامش) من قبيل الرغد والبحبوحة السياسية. فقد لفظت السياسة بشكلها التقليدي أنفاسها الأخيرة في السنوات الأخيرة، واختُزِلت - وهي بطبيعة الأشياء عملية معقدة ومتعددة الأوجه ومترامية الأطراف - في شخص واحد تعاونه الأجهزة الأمنية، ولم يعد هناك حتى حزب حاكم. كما اختُزِلت عملية الحكم - والمنوط بها إدارة تناقضات المجتمع والتعبير عنها – في السيطرة والقمع. باختصار صرنا بصدد سلطة بلا سياسة.  
يبدو الأمر، إن شبهناه بمباريات كرة القدم، وكأن قواعد اللعبة تغيرت جذرياً: حق للجميع أيام مبارك نزول الملعب ومداعبة الكرة لكن تسجيل الأهداف ظل امتيازاً حصرياً لمبارك ونجله وحزبه، فيما اكتفى الآخرون بركل الكرة في أركان الملعب. أما الآن فليس من حق أحد نزول الملعب من الأساس سوى الرئيس وأجهزته ومعاونيه. لذا اكتظت بالآخرين مدرجات المتفرجين أو سلالم الخروج من الاستاد.
وبديهي أن مصر ستدفع ثمناً باهظاً لذلك حين تحين لحظة التغيير. يتذكر الجميع مثلاً أن تهميش القوى العلمانية في العقود الثلاثة لعهد مبارك أدى إلى سيطرة الإسلاميين على كل الإنتخابات بعد رحيله (ومجموعها خمسٍ جرت في الفترة من مارس 2011م إلى ديسمبر 2012م). أما اليوم فالجميع – من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين –  في التهميش سواء. وحين تتداعى الأوضاع ويستوطن الفراغ، ستسعى كل الأطراف بشكل محموم لفرض إرادتها وحسم الأمور لصالحها. بيد أن غياب الأطر السياسية الشرعية، وطول فترة الكمون في الهامش، ينذر بخطر أن تسقط البلاد في قبضة العنف. إذ يولد العنف دوماً من كونه خياراً أخيراً يتم اللجوء إليه حين تتوارى السياسة، وحين لا توجد آليات واضحة تحظى بالتوافق الوطني لحل الخلافات بين الفرقاء.  
ثاني تلك العلل يكمن في انخفاض مستوى الثقة في مؤسسات الدولة جميعاً إلى أدنى مستوياتها، ليس فقط في كفاءتها المهنية وقدرتها على الإنجاز، بل في إخلاصها ووطنيتها أيضاً. يأتي ذلك رغم أن النظام الحالي جاء منذ اللحظة الأولى محمولاً على صهوة الوطنية، وما طفق منذئذ يقتات على سنام مشاعرها الجياشة. لقد كان لافتاً في غمرة الثورة في يناير 2011م أن المتظاهرين صبوا جام غضبهم على الشرطة والحزب الوطني الديمقراطي فحسب، ولذلك استهدفت طاقتهم التدميرية أقسام الشرطة ومقار الحزب على مستوى الجمهورية، فيما لم تُمس بسوء تقريباً باقي المباني والمصالح الحكومية. أما الاحتفاء العظيم يومئذ فكان من نصيب ضباط الجيش وجنوده.
كانت هذه هي الصورة في 2011م، لكن مياهاً كثيرة جرت في نهر السياسة المصرية منذ ذلك الحين. فالحياد الذي اتسم به موقف المؤسسة العسكرية في 2011م تحول في غضون سنوات قليلة إلى دعم كامل وظاهر للنظام، وعلى نفس المنوال أصاب التسييس جزءاً من مؤسسة القضاء العريق، مما جعل منه طرفاً أساسياً في معادلة الحكم. انفصمت إذاً كل أواصر الثقة أو كادت بين الدولة وقطاعات واسعة من المجتمع، ولم يبق ثمة من محصنين - بالهيبة والسمعة - داخل إطار الدولة المصرية. وعليه فإذا وصل السخط الشعبي على نظام الحكم ذروته يوماً، فستمتد نيرانه بلا شك إلى كل المؤسسات، وهو أمر شديد الخطورة، وينبغي بكل وسيلة تجنبه.
ثم أن تفكك مؤسسات الدولة وتحولها إلى جزر منفصلة لا رابط ولا تنسيق بينها إلا القليل لا يبشر بخير. فحين يفرض التغيير نفسه يفترض أن يحدث بالدولة، لا بمعزل عنها. فمصر دولة ذات بيروقراطية عتيدة، تبسط وجودها الأخطبوطي على كافة مناحي الحياة، ولذلك لا يمكن تجاوزها أو القفز من فوقها. وعلى الرغم من أن الرئيس السيسي قد وضع الحفاظ على مؤسسات الدولة هدفاً رئيسياً لحكمه، فإن ذلك لم يتحقق، على الأرجح لاختلاف مفهومه عن ماهية "الدولة" والأسلوب الأمثل لاستعادة "هيبتها". بل كان أن حدث العكس تماماً: كفاءة متدنية في الأداء، وتراكم للأخطاء والخيبات في كافة القطاعات، واعتماد متزايد على المؤسسة العسكرية (للاستفادة من انضباطها وكفاءة أدائها) أدى لمزيد من تدهور أداء المؤسسات المدنية.  
والأكثر من هذا غياب القيادة الحكيمة، فلا نحن الآن إزاء ديمقراطية سليمة متسلحة بقواعد الحكم الرشيد، ولا حتى ديكتاتورية آمرة ناهية ترصد مواطن الزلل داخل الدولة فتقومها سريعاً بسلطة الحاكم الفرد. بل نحن بصدد حالة من السيولة والانقسام انطلق على إثرها المرؤوسون في مواقعهم يوطدون نفوذهم، ويشيدون بكل دأبٍ قواعداً من المؤيدين والمريدين. يظهر هذا أكثر ما يظهر في المؤسسات الأمنية، والتي يفترض أن يكون التنسيق والتعاون فيما بينها أعلى ما يكون، بالنظر إلى تقارب الاختصاصات، ووحدة الأهداف (كمحاربة الإرهاب والجريمة). لكن التعاون استبدل بالتنافس، وبزغ بوضوح السعي المنفرد للظفر بالسلطة، ولزيادة رأس المال السياسي عبر الاستثمار في المشاريع الإقتصادية ووسائل الإعلام، وبناء شبكات واسعة من العلاقات في الدولة والمجتمع ودوائر المال والأعمال.  
بالتوازي مع ذلك، سقط نموذج الثورة السلمية في أذهان الشباب، وهم بطبيعة الحال وقود أي تغيير حقيقي ومعوله. إذ حدث لهم تغير هائل على المستوى النفسي والوجداني منذ لحظة يناير، والتي كان شعارها الأثير هو "سلمية". كان الثوار عندئذ أيفاعاً في ميعة الشباب، وكانوا بالطبع حديثي العهد بالسياسة، مدفوعين في حماسهم بالأمل والإخلاص وسلامة الطوية، لكن الانخراط في نهر السياسة الآسن، وانكباب الأطراف كلها على نفخ جمرات الصراع والفتنة، ترك آثاراً كبيرة عليهم.  
فالسنوات المحمومة التي تلت إقصاء مبارك، والعنف الذي ترعرع ثم تربع فيها، ثم عودة الدولة على أسنة الرماح في عام 2013م، هزت كيان الشباب، وربتهم على أن القوة - والقوة فقط - هي ما يفيد وينفع في مضمار السياسة، وأن الأحلام البريئة والشعارات النبيلة التي حملوها على أكتافهم في يناير لا تغني ولا تسمن من جوع. اليوم يؤمن كثير منهم أن إسقاط النظام "بأكمله" ضرورة، وأن بناء ما هو جديد يستدعي هدماً كاملاً لما هو قديم، كما سقط بعضهم فريسة لروح الانتقام والرغبة في التشفي في غرمائهم. ليس هذا بمستغرب، فالعنف معدٍ، والأنظمة العنيفة كثيراً ما تولد معارضة شبيهة بها: عنيفة وشديدة المراس.  
بانصرام الثورة، واختطاف الحلم، وسجن الرفاق، وانفجار حمامات الدم، تكسرت النصال على النصال، وبلغ الغضب الحلقوم، ولذلك ما طفقت أفئدة الشباب ترسف في أغلال اليأس والبغضاء وخيبة الأمل. طاقات الغضب المكظوم ونوازع الشر المكبوتة اليوم هائلة، ولا ينبغي الاستهانة بها أبداً. وبديهي أنه إن واتت الفرصة الشباب لتفريغ هذه الطاقات في حمأة صراع مستقبلي، فستكون العواقب وخيمة، وهو ما يخصم قطعاً من فرص النجاح حين ترسو سفينة المجتمع على محطة التغيير.  
ثم يأتي استمرار تدهور النخب المصرية ليضفي ظلالاً إضافية من الشك على إمكانية نجاح أي تغيير إيجابي، إذ أنى للتغيير أن يتحقق في غياب الكوادر والقيادات؟ لقد رسبت النخبة المصرية منذ لحظة الخامس والعشرين من يناير في كل الاختبارات، ولا يرجى منها الكثير، لا في أوقات الاستقرار ولا في أوقات التغيير. فأمراض الحياة الحزبية الرئيسية ما تزال مستمرة ومتفاقمة، مثل تشظى الكيانات الحزبية، وانغماسها في صراعاتها الداخلية، وجنوحها إلى الصراع مع بعضها البعض أكثر من مناطحتها للسلطة، بل ومساندة بعضها للأنظمة بشكل صارخ (ولذلك سميت "بالمعارضة الوفية")، وفشلها في تقديم أي إسهامات سياسية أو فكرية حقيقية. أما النخب المصرية – داخل الأحزاب وخارجها – فلا يزال يحكم أداء أغلبها مزيج سام من الانتهازية والاستبداد والشللية والمداهنة وقصر النظر.
***
ستشتد على الأرجح عقابيل الأزمة حتى منتهاها. وبالتبعة ستكر السبحة، وينفرط العقد، وتنقشع الغيمة، وتبزغ شمس الفرصة يوماً، لكننا غير مؤهلين لاغتنامها. فغياب البديل السياسي، وضعف الثقة في الدولة والنخب السياسية وآلآليات المؤسساتية القائمة، وفتور الحماس للأدوات السلمية في التعبير مع تصاعد مستويات الغضب، كل هذا يفتح الباب على مصراعيه أمام انفجارات العنف الطائش والمراهقة السياسية من ناحية، وجموح الانتهازية والصيد في الماء العكر من ناحية أخرى. أنى لمصر أن تتجنب هذا المصير الماحق؟ هذا هو السؤال الكبير الذي يجدر بالجميع الانشغال به.  

وللحديث بقية في الجزء القادم من المقال.        

د. نايل شامة

* نُشرت هذه المقالة بموقع المنصة (بتاريخ 23 أغسطس 2017).