Friday, December 15, 2023

هل هي حرب دينية مع إسرائيل؟

 

ارتجت ساحة الجامع الأزهر بصوت الهتاف المسجوع، المبطن بالوعد والوعيد في آن، والذي ألفته جنباته التليدة في العقود الأخيرة: "خيبر خيبر يا يهود، جيش محمد سوف يعود". في المشهد الذي تكررت وقائعه مع كل عدوان إسرائيلي وانكسار عربي، تجمعت زرافات من الرجال والنساء وأنشأوا يرددون حرفاً بحرف عين ما ردده أسلافهم في مناسبات شبيهة متعلقة بالصراع الطويل المرير مع إسرائيل. الهتاف الذي صار شائعاً يشكِّل – مع غيره من العبارات والحجج والرموز – ملامح سردية أو دعوة تشق طريقها نحو التأصيل، يتم بمقتضاها تصوير الصراع العربي-الإسرائيلي على أنه في الجوهر والمضمون صراع ديني بين المسلمين واليهود.

لكن هل يستقيم هذا الطرح مع دواعي كل من المنطق والمصلحة؟    

في الواقع، يشوب التعاطي مع إسرائيل وفق منطق الحرب الدينية اختزالاً مزدوجاً على مستوى السطح البارز. يتمثل الوجه الأول لهذا الاختزال في القفز بخفة ظاهرة فوق حقيقة اجتماعية ساطعة هي أن الفلسطينيين – أصحاب القضية وحَمَلة عبء الصراع – ليسوا جميعاً مسلمين؛ فمنهم من يعتنق المسيحية. بل إن مكانة فلسطين في المسيحية عظيمة الشأن، فهي موطن ولادة المسيح ومقر كرازته ومحل بعض أقدم وأقدس الكنائس المسيحية الكائنة في القدس وبيت لحم وغيرها. كما أن سيرة النضال الفلسطيني مترعة بأسماء مثقفين وسياسيين مسيحيين اضطلعوا بأنصع الأدوار في سبيل نصرة القضية والذود عنها. وبالتالي، فإن إقصاء المكون المسيحي من معادلة الاجتماع البشري الفلسطيني يخاصم التاريخ والعدل بل والمصلحة أيضاً.

أما الوجه الثاني للاختزال فيتضح من حقيقة أنه ليس ثمة تماثل بين اليهود وإسرائيل رغم ارتكاز الأخيرة على فكرة الوطن القومي لليهود وإقرار الكنيست في 2018 قانوناً نصَّ على أن إسرائيل هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي. إذ تفصح الحقائق الديموغرافية عن أنه لا يعيش في إسرائيل سوى ما يقرب من 46% من يهود العالم المقدر عددهم وفق إحصاء حديث بحوالي 15.7 مليون نسمة، أي نحو 0.2% من إجمالي سكان العالم. في المقابل، يعيش 8.5 مليون يهودي خارج إسرائيل، موزعون على تجمعات مختلفة حول العالم أكبرها في الولايات المتحدة الأمريكية. وكما أظهرت مؤخراً المظاهرات المتوالية ليهود نيويورك، والتي نددوا فيها بأعلى الأصوات بالعدوان الإسرائيلي على غزة، لا تتمتع إسرائيل بتأييد كل يهود العالم، بل يناصبها بعضهم العداء المستطير، بما فيهم كوكبة من المثقفين والعلماء وأصحاب الرأي.

وعليه، فإن الرنو إلى الصراع مع إسرائيل بعين الحرب الدينية يحرم القضية من بعض أبرز وأهم داعميها، سواء من الفلسطينيين المسيحيين أو اليهود المناهضين لإسرائيل كفكرة وممارسات. حسبنا في هذا المقام أن نتخيل ولو لبرهة كم ستخسر القضية الفلسطينية لو حُرمت من إسهامات مثقفين ضُلُع وذوي حجة وتأثير مثل إدوارد سعيد ونعوم تشومسكي؟

أهذه بغيتنا؟

لو نحينا اختزالات السطح جانباً وولينا وجوهنا شطر اختلالات العمق، لوجدنا أنفسنا أمام معضلات شتى لا مجال إلى إغفالها أو تجاوزها. لكن التفكير في النزاع وأطره ومناهجه يستدعي قبل ذلك تأملاً عميقاً في عدة أسئلة تدور حول محور واحد: لماذا أصبحت إسرائيل حقيقة واقعة بعد 1948؟ وكيف تمكنت من مضاعفة مساحتها عدة مرات إبان ستة أيام فاصلة في 1967؟ كيف فرضت من أخريات السبعينيات فصاعداً على كثير من العرب، بمن فيهم الدولة الأكثر سكاناً (مصر) والفلسطينيين أنفسهم، الاعتراف بها وإقامة علاقات سلام معها؟ باختصار، لماذا أخفق العرب في دحر المشروع الصهيوني ونجحت إسرائيل في ابتلاع الأرض الفلسطينية وفرض إرادتها على أمة العرب وافرة العدد وفيرة الموارد؟ وإلام يمكن إرجاع غلبة إسرائيل: قوة مشاعرها الدينية أم عظم ما امتلكته منذ ولادتها من أدوات السلاح والسياسة؟

كل الأسئلة السابقة تقود إلى إجابة واحدة مفادها أن المشروع الإسرائيلي الذي علا بسواعد علمانية التوجه لم يتوكأ على عصا الدين، وإنما نما على أكتاف امتلاك العناصر المادية للقوة: اعتراف الكتلتين الشرقية والغربية بالدولة فور لحظة إعلانها، وحسن تنظيم ميليشياتها وجيشها الوليد في 1948، وتفوق سلاحها الجوي في 1967 وكل الحروب اللاحقة، والدعم السياسي والعسكري الأمريكي السخي، والإطار الديمقراطي لنظامها السياسي الذي كفل لمؤسساتها قدراً غير يسير من الاستقلال والفعالية. على الجانب الآخر، تمخض استقلال الأقطار العربية عن الاستعمار عن دول صارت أمثولات في السلطوية والفساد وسوء الإدارة وسوء استغلال الموارد. وعليه، يصبح السؤال الأكثر إلحاحاً في إطار تقصي أطر وسبل مساندة الحق الفلسطيني هو: كيف يمكن تحويل هذا الضعف إلى قوة وتلك القوة إلى ضعف؟

في ظل استمرار موازين القوة المادية في ترجيح كفة إسرائيل وحلفائها، لا مناص لإعادة الميزان المختل إلى استوائه من الاستناد إلى موازين القوة القانونية والأخلاقية المائلة ناحية الفلسطينيين وحلفائهم. سبيل ذلك هو التركيز على أن القضية في صميمها قضية احتلال يعتلج أوارها بين قوة عسكرية استولت على الأرض عنوة وشعب يئن تحت نير التسلط والقهر، وأن هذا الاحتلال يجري على رؤوس الأشهاد في عالم ولى فيه الاستعمار وسقطت شرعيته الأخلاقية، وأنه يتحكم في البلاد والعباد رغماً عن وتحدياً لقرارات الشرعية الدولية ومباديء القانون الدولي. المراد هنا تحييد القوة العسكرية بقوة أخلاقية تضارعها وتخلخل قواعدها. وقد ظهرت تباشير شيء من ذلك بالفعل مع دمقرطة وسائل الإعلام بظهور الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي مما أدى إلى تغير السردية وتبدل الصورة الذهنية وتحول موقف الرأي العام العالمي من القضية، وتبقى مهمة ترجمة هذه التحولات إلى نتائج سياسية ملموسة.

كمن أصاب نفسه بالرصاص من حيث أراد حمايتها، لن تأتي – على الجانب الآخر – النزعة إلى رفع رايات الحرب الدينية إلا بنتائج عكسية. إذ ستؤدي بطبائع الأمور إلى تحويل الصراع من صراع سياسي-اقتصادي (ولو كانت له أبعاد وخلفيات ثقافية) بين العرب وإسرائيل إلى صراع ديني-ثقافي قح بين عموم المسلمين من ناحية وعموم اليهود من ناحية أخرى، مع انضمام طائفة من المسيحيين إلى الناحية الأخيرة بحكم التراث اليهودي-المسيحي المشترك. مأل ذلك في جبهة الأفق هو دفع العرب والغرب إلى مسار تصادمي، أي صراع حضارات يحقق نبوءة صامويل هنتنجتون الشهيرة. ما أسوأ هذه العاقبة. أليس الأجدى أن نستدني الغرب (أو قطاعات منه) إلى صفنا في مواجهة إسرائيل عوضاً عن استعدائه ودفعه إلى أحضان إسرائيل؟ في هذه المواجهة، يمثل العرب الطرف الأضعف الذي يستورد غذاءه وكساءه ودواءه وسلاحه من الطرف الآخر الأقوى، فكيف يتحدى المتكِل المتكَلَ عليه؟ وما تبعات هذا العراك على سلامة الأقليات غير المسلمة في بلاد العرب والأقليات المسلمة في بلاد الغرب؟

أهذه بغيتنا؟

ثم إن لأي حرب، دينية أو غير ذلك، سردية تشرعنها وتجيِّش الأنصار خلفها. فعلى أي شاكلة ستأتي سردية الحرب المبتغاة ضد اليهود؟ ليس من العسير تخمين الإجابة لأنها ماثلة أمامنا بالفعل في الخطاب المعلن للدوائر التي تُلبس الصراع حلة دينية: استعادة ذكرى حروب النبي الكريم ضد يهود الجزيرة العربية وتصويرها – خطأ – بحسبانها دليلاً على أن قتال اليهود ركن من أركان العقيدة الإسلامية؛ وإطلاق اللسان بكلمات لاعنة مثل أن اليهود أحفاد القردة والخنازير؛ وتأبيد الصراع، إذ كيف يتجرأ مؤمن على نقض عهد الله والتملص من سلطان أوامره ونواهيه؟ وحينما يُعتمد قانون الحرب الدينية كمرجعية عليا، فمن سيقدر على وقف تغلغله إلى داخل البيت الإسلامي نفسه، أي العلاقات الشائكة بين السنة والشيعة فيقذفها هي الأخرى في أتون صراع دموي؟ ثم، مع اختلاط الحابل بالنابل، قد يطال الطعن أتباع ديانات وثقافات أخرى فيتسع نطاق البغضاء ويطول أمد الشقاق. 

سيرسخ هذا الصور النمطية السلبية عن العرب والمسلمين كقوم مغرمين بالعنف لا التعايش، ولا هم لهم سوى القتال وتسخير روح الجهاد (أي الحرب المقدسة) لتدمير الحضارة الغربية، كما أرغى وأزبد تنظيم القاعدة في أدبياته وكما تجلى على أرض الواقع في هجمات الحادي عشر من سبتمبر لعام 2001. ستجني إسرائيل من وراء هذا غاية ما تتمناه، أي تثبيت حظوتها الباسقة لدى الغرب عبر تصوير أي مقاومة لها على أنها تخوض حرباً مقدسة ضد إسرائيل وضد قيم الحضارة الحديثة في الوقت ذاته، كما ادعى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مراراً منذ السابع من أكتوبر الماضي. سيحمل أنصار إسرائيل لواء نظرية السلام الديمقراطي لإيمانويل كانط، مدعين أن العرب والمسلمين يعرِّضون السلام المستقر بين النظم الديمقراطية للتهديد. سيقولون: ألا ترون أن أشهر الكلمات العربية لدى غير الناطقين بها هي "جهاد" (أي حرب)، أما أكثر الكلمات العبرية شهرة فهي "شالوم" (أي سلام)؟

 وحين يستقر في وعي العالم على اتساعه أن ثمة حرباً دينية شعواء تدور بين متعصبين من المسلمين واليهود، فلن يبدِ سوى شديد الأسف على اتقاد جذوة هذا الصراع العبثي، لكنه سيضيق به ذرعاً في نهاية المطاف ويدع طرفي الصراع يقرع بعضهم بعضاً. عندها، وفي غياب الاكتراث الدولي، ستحسم معادلات السلاح الصماء نتيجة المعركة، وهي الآن وفي المستقبل المنظور في صالح إسرائيل.

أهذه بغيتنا؟

وماذا عن سلوك الجماهير العريضة إن وقر في قلبها أن حرباً دينية تدق أبوابها وتستصرخ مشاعرها؟ سيبعث النداء في الناس حمية تملأ فضاء قلوبهم لكن هذه الحمية ستكون مصحوبة على الأرجح بكثير من الانفلات والشطط.  ثمة مثال قريب العهد يكشف بجلاء مغبة استمطار غيث الدين لكسب الصراع وسط جموع لا ترى أحياناً أبعد من أخمص أقدامها. ففي داغستان البعيدة، وهي جمهورية ذات غالبية مسلمة تنتمي إلى الاتحاد الروسي، سرت أنباء عن أن طائرة قادمة من تل أبيب حطت في مطار العاصمة فاقتحمت أعداد غفيرة من المحتجين الغاضبين مدرج المطار ومبنى الركاب بحثاً عن إسرائيليين (فيما يبدو بنية الفتك بهم). ما لم يعلمه هؤلاء المحتجون هو أن هذا النوع من التصرفات يصب مباشرة في مصلحة إسرائيل كفكرة ومشروع، إذ يعطي المشروعية لوجود وطن قومي يحتضن اليهود بعد أن صارت سلامتهم مهددة في كثير من الأنحاء. وهكذا تطيش السهام حين تنفلت المشاعر الدينية من عقالها، وستنفلت حتماً في مواجهة طرف مثل إسرائيل استقر على عرش الكراهية لعقود طوال.

أهذه بغيتنا؟

***

جملة القول أن الأذن قد تطرب لدعوة أو فكرة تثير القلب وتدغدغ الوجدان لكنها تصطدم مع مقتضيات العقل والمصلحة. والعقل أبقى وأوفى وأنفع.

 

د. نايل شامة

 

Thursday, November 2, 2023

في مديح المقاومة وذم المقاومين

 

منذ بدأت فلسطين تنزف الدم والألم قبل خمسة وسبعين عاماً، صار واضحاً أن احتلال أرضها وتشريد شعبها وحرمانه من حقوقه ليس مشكلة أو أزمة أو نزاع فقط، بل قضية. ولذلك يشار إليها عن حق "بالقضية" الفلسطينية. ولأنها قضية عادلة تملك في جعبتها تلالاً من الحجج والأسانيد والحيثيات، فقد انبرى للدفاع عنها ورفع رايتها بل والحديث باسمها دعاة ومحامون ووكلاء وأدعياء كثر. هنا اشتد النزيف واستحالت المأساة مأساتين إذ ابتليت القضية بأدعيائها ووكلائها مثلما ابتليت بأعدائها ومناوئيها. ولأن 'نقد المقاومة مقاومة أيضاً'، فمن الواجب تناول هؤلاء بالنقد والتحليل، وبالأخص ثلاث فئات رئيسية منهم.

أول فئة هم المتاجرون بالقضية بلا مواربة، المتشدقون بها لا عن إيمان يذكر بل عن انتهازية لا تخطئها عين. عُمر هؤلاء من عُمر القضية، فحين فشلت الجيوش العربية في كبح قيام دولة إسرائيل في عام 1948، وجدت النخب الحاكمة العربية نفسها أمام مصدر تشع منه رائحة الخطر والفرصة معاً. منبع الخطر قيام دولة على مرمى حجر منهم ذات قدرات عسكرية ودعم دولي ومن ثم خشيتهم من الهزيمة أمامها مجدداً إن دُفعت دولهم إلى مواجهة أخرى معها. ومع ذلك، ومع تحول فلسطين إبان النكبة إلى جرح نازف يدمي قلوب العرب أجمعين، فقد تراءت لهم في الأفق فرصة فتوثبوا للانقضاض عليها. تمثلت هذه الفرصة في المكاسب السياسية الكبيرة التي يمكن لهم أن يغتنموها إن رفعوا الشعار وهتفوا الهتاف وارتدوا الكوفية حتى ولو لم يطلقوا رصاصة واحدة. من هنا بزغت ظاهرة النضال أمام الميكروفونات، أي استغلال الصراع لنيل شرعية سياسية دون تحمل تكاليفه. بعض هؤلاء "المناضلين" كان يلعن إسرائيل في الصباح ويلتقي قادتها خلسة في العشية، وبعضهم كان يحذر إسرائيل من خطر هجمات عربية وشيكة، وبعضهم كان يبتهج بضرب إسرائيل لأطراف عربية شقيقة. بيد أن إغراء الميكروفونات كان أكبر من أن يقاوم.

من هذه الإغراءات امتلاك ورقة رابحة لإسكات أي صوت معارض. فإن عنَّ للشعوب وسط القصف الشفهي أن تطالب بالحرية المهتوف باسمها صباح مساء، جاءها رد السلطة قاطعاً: ألا ترون؟ نحن نحارب إسرائيل وهذه أولويتنا. كان هذا، مثلاً، منطق وزير الحربية المصري محمد فوزي حين تظاهر الطلبة في فبراير 1968 طلباً للإصلاح السياسي وحرية الرأي إذ قال في اجتماع لمجلس الوزراء: هذا وقت حرب لا رأي، وأيده في ذلك الرئيس جمال عبد الناصر آمراً بالقبض على المتظاهرين مصداقاً لمقولته الشهيرة "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". ثمة أنظمة عربية تمحور خطابها بالكامل حول نصرة القضية الفلسطينية والتصدي – النظري – لإسرائيل، ومنه رتقت ثوب شرعيتها المهترئ (لعل أبرزها نظام العائلة الأسدية في سوريا). وفيما استخدمت هذه الفئة من الأنظمة العربية القضية كأداة لتكريس سلطتها، تحولت القضية بشكل ما إلى ملهاة لصرف الشعوب عن الالتفات إلى قضايا أخرى لا تقل عنها أهمية.

أما الفئة الثانية فيتربع على عرشها ما يسمى بتيار المقاومة الذي تمثله اليوم بشكل أساسي حركتا حماس وحزب الله ومن ورائهما إيران وبدرجة أقل سوريا. هنا لا مفر من نبذ الميل إلى المضاهاة بين المقاومة كفكرة مجردة قوامها التحرر والانعتاق والمقاومين كفواعل محددين لهم سجل معلوم من المواقف والأفعال والأقوال. ضرورة هذا التمييز مرجعها أنه لا يبدو أن الهوة بين معنى المقاومة وسلوك المقاومين، مهما علقت حبالهما معاً، أكثر اتساعاُ في أي حالة تاريخية عربية مما هي عليه في حالة فلسطين. ذلك أن سجل أطراف المعسكر المقاوم السالفين الذكر بعيد كل البعد عن قيمة المقاومة، وفي مقدمتهم بالطبع النظام السوري الذي شرد نصف أبناء شعبه وقتل منهم مئات الآلاف بكل أريحية وكأنه بفعل شيئاً من طبائع الأمور.

شأن أغلب الأحداث الكبرى، كانت الثورة السورية كاشفة بقدر ما كانت مؤلمة. كان حزب الله قد قدم أوراق اعتماده كحركة مقاومة ذات بأس إثر أدائه المميز ضد إسرائيل في حرب 2006 وكان قبلها قد ساهم في دفعها إلى الانسحاب من جنوب لبنان في 2000. لكن لحظة اختبار كاشفة حلت بعدها بسنوات حين ووجهت الثورة السورية بالرصاص والسلاح الكيماوي والبراميل المتفجرة. هنا نبذت "المقاومة" المقاومة وانحازت إلى صفوف طغيان يقمع المقاومة بلا رحمة. على نفس المنوال، قدمت الجمهورية الإسلامية في إيران – ابنة الثورة على نظام الشاه الدموي في 1979 – دعماً سياسياً وعسكرياً هائلاً للنظام في سوريا رغم سابق تأكيدها وعبر عقود على انحيازها الأصيل إلى "المستضعفين في الأرض". الثورة ضد الثورة والمقاومة عدو المقاومة.

أما الضلع الأخير في مربع المقاومة، أي حركة حماس، فلا تملك بدورها سجلاً يغري بكثير من الإعجاب. هناك الكثير مما يمكن أن يقال عن موقف حماس من الديمقراطية والأقليات وعن سجلها كحكومة في قطاع غزة منذ 2007 إزاء مسائل مثل احترام التعددية السياسية وحرية الإعلام واستقلال القضاء. في هذا السياق، يمكن الاستدلال بمثال واحد يعتمد على رأي أهل غزة أنفسهم. ففي استطلاع للرأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية ونشرت نتائجه في يونيو الماضي، أعرب 73% من سكان القطاع عن اعتقادهم بوجود فساد في المؤسسات والوزارات التي تديرها حركة حماس، وقال 59% أنه ليس بمقدورهم انتقاد سلطة الحركة دون خوف من العواقب، كما أبدت أغلبية كبيرة (77%) عن رغبتها في إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة.

وفي جولة السابع من أكتوبر، نجحت حماس في القيام بعمل عسكري بارع لكنه امتزج بانتهاكات واسعة لا يمكن تبريرها بأي حال. بعيداً عن السيل الجارف من المعلومات المضللة التي تغمر كل الفضاءات اليوم، هناك وقائع مثبتة عن جرائم ترتقي لمستوى جرائم الحرب ارتكبتها حماس بحق المدنيين والرهائن. من ناحية، لطخت هذه الأفعال سمعة المقاومة وكرست الصور الذهنية السلبية الشائعة عن العرب والمسلمين مانحة الحجة للزاعمين بأن نموذج داعش نبت في أرض صديقة وأنه قابل للتكرار في مواضع أخرى من نفس الأرض. ومن ناحية أخرى سياسية، فتحت العملية الباب لرد إسرائيلي لا يبدو أن حماس توقعت مداه مما يلقي ظلالاً من الشك حول مستقبل الصراع ومدى نجاح العملية في تحقيق أهدافها.

سجل معسكر "المقاومة" الذي عرجنا عليه تواً يطرح عدة أسئلة عن ماهية المقاومة وهوية المستحقين للقب وإدراكهم لمعناها وحدودها. مثلاً، بأي منطق يمكن نسبة النظامين الحاكمين في إيران وسوريا إلى المقاومة؟ وهل أسقط حزب الله عن نفسه صفة المقاومة حين أيد نظاماً ديكتاتورياً من أحط الأنواع؟ هل يمكن القول إنه سار بشكل ما على طريق منظمة "التحرير" الفلسطينية التي انحازت "للاحتلال" العراقي للكويت في لحظة كاشفة أخرى من التاريخ العربي المعاصر؟ ولماذا التصقت المقاومة على الدوام بالاستبداد والمستبدين، بل بأسوأهم، بدءاً من القذافي وصدام حسين ووصولاً إلى بشار الأسد وملالي إيران؟  وقبل كل ذلك، ما المقاومة؟ أليست المفاومة في صميمها رفضاً للظلم وثورة عليه؟ أم أن قنابل الأسد أقل فتكاً من القنابل الإسرائيلية؟ إن في الفعل المقاوم نبلاً وسمواً، فأي نبل وأي سمو في التنكيل بالمدنيين والإجهاز على الرهائن؟

تتكون الفئة الثالثة من مثقفين وناشطين مخلصين جعلوا القضية همهم الأكبر، وتفانوا في التبشير بعدالتها ومشروعيتها والدفاع عن ضحاياها. تماهى هؤلاء تماماً مع القضية فلم يعودوا يرون شيئاً لا قبلها ولا بعدها، فكأنها محور الكون وغاية الوجود. من فرط الولاء والتفاني، استحث هؤلاء الجميع في المحيط العربي المجاور على بذل الغالي والنفيس في سبيل نصرة القضية "المركزية" أياً كان الثمن والتكلفة. ثم اكتسب خطابهم بمرور الوقت شيئاً من الاستحقاقية، مصوبين بمقتضاها سهام النقد على الرافضين له. لكن، هل القضية الفلسطينية هي بالفعل قضية العرب (والمسلمين) المركزية؟ وهل تجُبُ قضية مقاومة إسرائيل بقية القضايا ومن ثم يحق لها إزاحتها وتأجيلها بل وإخمادها إن لزم الأمر؟ سيقول آخرون في المسافة الشاسعة من المغرب إلى البحرين: كلا، قضيتنا الأولى بالرعاية هي النهضة الحضارية أو الاستبداد السياسي أو التخلف الاقتصادي أو التعليم أو الطائفية أو غير ذلك.

عاب منطق هؤلاء المثقفين والناشطين أنه تناسى أن القضية إنسانية في المقام الأول ولا ينبغي معاضدتها على حساب مصالح أناس آخرين. من رحمه، لاسيما الاستحقاقية الرابضة بداخله، وقعت أحداث أيلول الأسود المؤسفة في الأردن (1970)، وشُرعن الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان الذي أودى بالبلد الهش (مع عوامل أخرى) إلى جحيم الحرب الأهلية (1975–1990وارتفعت نغمة تخوين المخالفين حتى صارت من آفات الخطاب العربي المعاصر ومن سقطات العمل المقاوم في فترات سابقة شهدت اغتيال العشرات من السياسيين والمناضلين الفلسطينيين بسلاح فلسطيني. 

         والآن، وفيما يستعر القصف على غزة ويموت الأطفال وتتحول البيوت إلى ركام، تواصل الأطراف الثلاث حضورها النشيط في المشهد. هذا يتاجر بالدم في أسواق السياسة، وذاك يصرع العدو برصاصة ويردي الشقيق برصاصتين، وذاك يكد بنبل وأنانية لنصرة قضيته ولو احترق العالم بأسره. وتدور الدوائر ويشتد النزيف. ما أحوج القضية، العادلة بملء الكلمة، إلى من هم أكثر رقياً وعدلاً وسمواً.

 

د. نايل شامة

Wednesday, October 11, 2023

دولة يوليو: الغريزة أقوى من العِلم

 

إن نزعت أي قراءة للوضع السياسي والاجتماعي في مصر إلى الفكاك من قبضة الظرف الراهن وتوسيع عدسة الزمن، ولو قليلاً، فلن يسعها إلا أن ترتد ببصرها - دائماً وأبداً - إلى لحظة الثالث والعشرين من يوليو لعام 1952. أهيل التراب عقب ذلك اليوم الفاصل على حقبة بأكملها ووُضع حجر أساس ركين لنظام – بل منظومة – سياسي واجتماعي جديد. تبدلت الوجوه وتغير شكل الزمان وروح العصر كثيراً منذئذ، لكن الخطوط العريضة لمنظومة الحكم والإدارة تلك، كما صممها وأقام بنيانها آباؤها الأوائل، صمدت حتى اليوم. يتمثل هذا البنيان في دولة شديدة المركزية والسلطوية، تضم جسماً بيروقراطياً مترامي الأطراف وعقلاً أمنياً ضيق الأفق ورأساً – رئاسياً – يتحكم في كافة المفاصل، وتزيح المجتمع وقواه وتنظيماته إلى هامش الحركة والتأثير.

أثبتت هذه المنظومة متناهية الكبر قدرة فائقة على الاستمرار على الرغم من أن اختياراتها قادتها إلى دروب غاصة بالعثرات والآلام. انغرست أقدامها في رمال اليمن المتحركة، وترنح عودها بفعل هزيمة 1967 المروعة، واغتيل رئيسها في يوم مجده في 1981، واعنرضت طريقها موجات من الإرهاب الأسود، ثم تراكمت عليها أزمات الاقتصاد والخدمات والإدارة حتى اسنقرت في وضعية الأزمة الدائمة، فكان أن أنبأتها انتفاضة يناير 2011 أنه قد حان حين طي صفحة الماضي والبدء من جديد. كان من الطبيعي أن تؤدي كل هذه الصدمات والشدائد، وبعضها اشتمل على وقائع دراماتيكية عاصفة مثل ما جرى في 1967 و1981 و2011، إلى ارتقاء منحنى تعلم هذه المنظومة/الدولة وتراكم معارفها وخبراتها، إذ تولد أسئلة البحث عن الذات والمعنى والمستقبل عادة من قلب لحظات الأسى والصدمة. لكن الشاهد في قصة دولة يوليو أنه لم يتمحض عن فيض التجارب التي ألمت بها سوى غيض من الدروس. والعبر.

يتجلى ذلك في حالة الصدمة الأعمق، أي هزيمة 1967، التي لم ترتق الدروس المستخلصة منها إلى قدر أهميتها وحجم الألم – والدم – المراق فيها. فقد اعتبرت النخبة السياسية الحاكمة أن الكارثة الأسوأ في تاريخ مصر الحديث لم تكن سوى هزيمة عسكرية عارضة. لم يكن من قبيل المصادفة لجوء رجال الدولة إلى استخدام كلمة "نكسة" لوصف الهزيمة، وهو استخدام لم يقتصر على خطاب تنحي جمال عبد الناصر في 9 يونيو (أول مناسبة تحدثت فيها السلطة بشكل مباشر إلى الشعب بعد قيام الحرب)، بل تكرر حتى صار معبراً عن نظرة كلية لا ترى، أو لا تريد أن ترى، الجذور البنيوية للهزيمة. ولأن الهزيمة محض نكسة، أي كبوة عابرة وسط مسيرة من الإنجازات، فقد تم "محوها" بحرب أكتوبر 1973. وإذ فتحت هذه القناعة الطريق للتغاضي عن الأسباب العميقة للهزيمة، الرابضة في قلب البنيان السياسي اليوليوي وأنماط اتخاذ القرار فيه، فإنها قطعت الطريق أمام أي محاولة جادة للتدبر والإصلاح. ومن زاوية ما، بدت المبالغة الإعلامية في تصوير الإنجاز العسكري لحرب 1973 وكأنها محاولة لإقناع الشعب بأنه تم الاقتصاص ممن أحدثوا هزيمة 1967 المريرة وأنها بالتالي انتهت إلى غير رجعة. وبعد إزالة الآثار المباشرة للعدوان بالحرب والسلم في السبعينيات، انزوت الهزيمة إلى ركن قصي في عقل الدولة إذ طفقت تعاملها في عهد السلام باعتبارها ذكرى سيئة من مخلفات زمن الحروب الذي ولى وينبغي نسيانها.

تعاملت النخب السياسية والعسكرية الإسرائيلية بشكل مغاير مع حرب أكتوبر 1973 رغم اقتناعها بأن المحصلة النهائية للمواجهة لم تكن هزيمة إسرائيل. فقد أقرت هذه النخب بأن قصوراً معلوماتياً فادحاً ثد شاب توقع الحرب، وبأن ضعف الاستعداد أدى في الأيام الأولى للمعركة إلى ارتباك في الأداء وارتفاع في الخسائر. لدراسة هذا القصور، شكلت الحكومة الإسرائيلية لجنة أجرانات بعد أن وضعت الحرب أوزارها ببضعة أسابيع فقط. ظهرت نتائج عمل اللجنة تباعاً على عدة مراحل في عامي 1974 و1975، وظلت مثار نقاش استمر لعقود ثم تجدد مؤخراً إثر إماطة إسرائيل اللثام عن وثائق سرية تخص الحرب بمناسبة مرور نصف قرن عليها. تعاملت الولايات المتحدة على نفس المنوال مع هجمات الحادي عشر من سبتمبر الدامية حيث أصدر الكونجرس قانوتاً يقضي بتشكيل لجنة للتحقيق فيما جرى. بعد أن استجوبت أكثر من 1200 شخصاً (بما فيهم الرئيس جورج بوش والعشرات من كبار المسئولين) وأطلعت على مليوني ونصف صفحة من الوثائق، أصدرت اللجنة تقريراً مفصلاً من مئات الصفحات يتناول أوجه القصور وتوصيات علاجها. على النقيض، لم تشكل مصر لجاناً "جادة" لدراسة أسباب نكسة 1967 وثغرة 1973 ولا لقطع الشك باليقين حول الدور الذي لعبه أشرف مروان في حرب أكتوبر، ولم تنشر اللجان الخجولة التي تشكلت لتقصي الحقائق وكتابة تاريخ الثورة نتائجها حتى الآن.

على غرار 1967، كانت 2011 حدثاً مترعاً بالمعاني والدلالات واستحق من الدولة وقفة صادقة مع النفس تتضمن التأمل المتجرد والدراسة المتعمقة. لكن عَظُم على الدولة أن تقر بمسئولياتها واستسلمت عوضاً عن ذلك لغرائزها الأمنية وشكوكها المتأصلة ومن ثم وجدت في أحاديث المؤامرة بالغة الشطط تفسيراً مرضياً لثورة الناس، إذ تعفيها من مسئولية الفشل وعبء الإصلاح. بنظر الدولة، لم تكن 2011 محاولة ضرورية لإصلاح الدولة قبل فوات الأوان، بل مؤامرة لإسقاطها من جذورها. وبعد مرور بضع سنوات، شجع اندحار الثورة – "المؤامرة" – الدولة على الإعراض عن فهمها ودراستها حق الفهم والدراسة، ولسان حالها في ذلك يقول: لم تكن سوى مؤامرة وأحبطت في مهدها، فلم الاكتراث؟

غُض البصر على نفس النحو عن مسارات التنمية الوعرة التي فشلت عبر عقود متتالية في كبح انتشار الفقر والبطالة وأفضت بالبلاد إلى أبواب صندوق النقد الدولي، زبوناً دائماً ومقترضاً مثقلاً بالديون. مرت انتفاضة الخبز التي اندلعت في يناير 1977 (أي تزامناً مع اليوبيل الفضي لثورة يوليو) وأسفرت عن سقوط ثمانين قتيلاً ومئات الجرحي، مرور الكرام. فقد أنست الدولة إلى نفسير ناحل المنطق يصورها على أنها "انتفاضة حرامية" نفخ كيرها الشيوعيون والفوضويون. ومداً للخط على استقامته، أنحت الدولة باللائمة في الأزمة الاقتصادية الحالية على ظروف خارجية شتى، مثل جائحة كورونا وعدم انتظام سلاسل التوريد العالمية والغزو الروسي لأوكرانيا. ثمة ذريعة يُرتكن إليها دوماً لنفي التقصير وصرف التفكير عن موطن الداء وسبل قصه من جذوره.

كلثير من ذلك يمكن رده في المستوى الأعلى من التحليل إلى الفارق المبدأي والشاسع – بين التفكير العلمي والتفكير الغريزي. التفكير بالعلم يتخذ من العلم – بأدواته ومناهجه وخلاصاته – سبيلاً للمعرفة على اتساعها، بما فيها فهم ما جري ولماذا جرى واستشراف ما يمكن أن تحمله الأيام وكيف يمكن تجنب شروره وتعظيم الاستفادة منه. أما التفكير بالغريزة فمدفوع بالغرائز البدائية كالحب والبغض والخوف والتمني وتوسل الثناء واتقاء اللوم وإلقاء المعاذير. هو إذن تفكير تسيره الميول والانطباعات العابرة، وبذا تتجلى فيه مكامن النقص الإنساني، ويستنكف عن الوقوف عند مفارق الطرق مستذكراً ومستطلعاً. باختصار، العلم محايد ومنظم وموضوعي، أما الغريزة فمنحازة وفوضوية وذاتية. وللعلم ذاكرة طويلة وثاقبة، أما الغريزة فذاكرتها قصيرة ومثقوبة. وإذا كان الأفراد معرضين للتفكير بمشاعرهم وأهوائهم وغرائزهم، قلا يصح أن يكون ذلك مسلك الدول بكل ما تمتلك من موارد ومؤسسات وطاقات.

في حالة الدول "الحديثة"، لا يمكن أن يقوم التفكير العلمي، الموسوم بالحياد القاطع والمنهج الصارم والنتائج ذات المصداقية، إلا على أكتاف بنية تحتية مؤسساتية تسمو فوق النزعات الفردية والأهواء الشخصية. لكن هذه البنية ظلت باستمرار غائبة في مصر، ولذلك تأثرت القرارات العامة إلى حد بعيد بالانطباعات والانحيازات الشخصية لأفراد النخبة الحاكمة والممزوجة عادة بكثير من التفسيرات الشعبية ومزاج الرأي العام. مثلاً، لم تكن سياسة حافة الهاوية مع إسرائيل في أزمة مايو-يونيو 1967 قائمة على تقدير علمي محايد بل على تقديرات فردية لها بواعثها الشخصية لعبد الناصر وبعض المحيطين به من ذوي الكفاءات المحدودة والنفوس الواجفة (مثل عبد الحكيم عامر وشمس بدران). وأوجزت عبارة "رقبتي يا ريس" التي أكد بها عامر لناصر استعداد القوات المسلحة لخوض غمار الحرب المنهج المهلهل الذي ارتكز عليه القرار المصري حيال الأزمة. وبعد 2013، اعتنقت زرافات من النخب المصرية بسعادة غامرة مجموعة التلفيقات المنسوبة إلى مذكرات وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك هيلاري كلينتون رغم ما فيها من فجاجة تستحث النفي والنبذ، ناهيك أن المذكرات منشورة ومترجمة وكان من اليسير مراجعتها والتثبت من زيف الإتهامات المنسوبة إليها (وكان من المؤسف أن وزير "الثقافة" نفسه روج لبعض تلك الأحاديث المفبركة). مرة أخرى، توارى العلم واستأثر الزيف بعقل الدولة في لحظة مصيرية.

بغياب البنية المؤسساتية والعقل العلمي الاستراتيجي، لم يبق أمام الجهاز البيروقراطي للدولة سوى الانهماك في تفاصيل الإدارة اليومية والانصراف عن المقاصد العامة والصور الكلية. وفي مواجهة العلل المزمنة، ما فتئت الدولة تنظر تحت قدميها مكتفية في أعلب الأحوال بعلاج العَرَض لا المرض. فاغتيال السادات والعمليات الإرهابية التي تلته في الثمانينيات والتسعينيات أفضت إلى تكثيف الإجراءات الأمنية بل وقيام صناعة أمنية ضخمة. لكن لم يصحب ذلك محاولة جادة لفهم واستيعاب ظاهرة "الصحوة الإسلامية" التي كانت قد انفجرت في السبعينيات ثم تتابعت المواجهات الأمنية معها في متواليات سيزيفية منذئذ. بمرور الوقت، خضع أداء الدولة لقوانين القصور الذاتي، حيث تمضي الأمور كما اعتادت أن تمضي لآماد طويلة، دون مراجعة لما فات أو تخطيط لما هو آت. ولا غرو أن في الروتين، بداهة، قتل للتفكير والتخطيط. وقد اقترن هذا الروتين السائر في مصر في دوائر لانهائية بالاستسلام لقناعتين تبررانه: أن ما هو قائم سيظل قائماً للأبد؛ وأنه ليس في الإمكان حل مشاكل البلاد العويصة بشكل جذري.

ماذا تعلمت الدولة أو حرصت على تعلمه إذن؟ الإجابة بكلمات وجيزة: آليات النجاة والسيطرة التي تكفل لها ديمومة البقاء. تبرز هاهنا مفارقة غريبة، ألا وهي إحجام الدولة عن دراسة الخلل الأصيل بغية علاجه وغرامها عوضاً عن ذلك بتعلم الأدوات التي تمكنها من الحفاظ على مكتسباتها في ظل، وبالرغم من، وجود هذا الخلل! دلفت الدولة في هذا المضمار إلى محراب العلم اختلاساً لا إنهالاً، إذ لم تخلع نعليها في الواد المقدس طوى بل وطئته بأحذيتها الثقيلة وهراواتها الغليظة. حدث ذلك عبر استعمال منتجات العلم الحديث: الكمبيوتر بالأمس وبرامج التجسس والاختراق اليوم وتطبيقات الذكاء الاصطناعي – على الأرجح – في الغد. كل هذه الاستخدامات أداتية الطابع إذ تتوخي منتجات العلم لا روح مناهجه كما أنها لا تنبع من إيمان حقيقي بقيمة العلم قدر حرصها على توطيفه بغية البقاء والسيطرة. بعبارة أخرى، بدلاً من أن تخضع القوة للعلم، سخرَّت القوة العلم لمصلحتها.

باقتضاب، استمرار الأداء المتواضع لعقود طويلة مرجعه سطوة العقل الفردي للحاكم والنخبة الحاكمة ككل على العقل العلمي ذي البنية المؤسساتية وهيمنة شهوات العادة على دواعي الإصلاح. ولذلك فسريعاً ما ركدت المياه وأسَن النهر بعد 1952 وولجت البلاد في ما يسمى حيناً بعصر الفرص الضائعة وحيناً ثانياً بوضع الأزمة الدائمة وحيناً ثالثاً بهزيمة يونيو المستمرة. وعليه، أفلم يحن بعد وقت تحويل الدفة وتبديل المنهاج؟

 

د. نايل شامة

Wednesday, August 23, 2023

Egypt and Iran Could Be the Next Thaw in the Middle East

 

Quiet mediation efforts between Egypt and Iran have been going on for months, seeking to end one of the Middle East’s longest-running but often-neglected feuds. In May, credible media reports indicated that Egyptian-Iranian talks had been taking place in Baghdad since March. Later that month, Oman’s Sultan Haitham bin Tariq visited both Cairo and Tehran in what was interpreted as an attempt to broker a reconciliation.

Several Iranian officials, including Supreme Leader Ali Khamenei and President Ebrahim Raisi, have publicly endorsed these efforts. And an Iranian member of parliament said he expected the talks to culminate in the restoration of formal ties and pave the way for a meeting between the two countries’ presidents. For their part, however, Egyptian officials have maintained a cautious stance on the issue, with Foreign Minister Sameh Shoukry saying that the status quo with Iran has not changed.

Relations between Egypt and Iran have been strained for more than four decades, though tensions have been punctuated by periods of calm. The strains can be attributed in part to the dramatic events of the late 1970s and early 1980s, when Egypt gave refuge to Iranian Shah Mohammad Reza Pahlavi after his ouster by the Islamic Revolution in 1979. The Shah lived in Cairo until his death in 1980, after which he was buried there. In a sign of protest, Iran’s new rulers cut ties with Egypt. Later, when an Islamist military officer assassinated then-Egyptian President Anwar al-Sadat in 1981, authorities in Tehran named a main thoroughfare in the city after him. The bitterness engendered on both sides went on to poison bilateral relations for some time.

In addition to these symbolic slights, a number of strategic considerations sustained the rift. After a decade of revolutionary fervor in Iran created antagonistic relations with almost all its neighbors, Tehran sought to put an end to its regional isolation. But Egypt, which as a major U.S. ally in the Middle East receives some $2 billion in security and economic assistance from Washington every year, felt no urge to mend its ties with a country whose leaders made a habit of describing the U.S. as “the great Satan.” By the 1980s and 1990s, Egypt had also developed close political and economic linkages with the Arab Gulf states, particularly Saudi Arabia, which viewed Iran as a security threat.

Longtime Egyptian President Hosni Mubarak, who ruled from 1981 to 2011, calculated that cozying up to Iran could jeopardize his country’s strategic alliance with the U.S. and the West in general, as well as with the Gulf states. Moreover, facing a fierce Islamist opposition, he felt uneasy about Iran’s promotion of a transnational form of Islamist activism and suspected that Tehran aimed to cultivate relations with Egyptian Islamist groups. After Mubarak was ousted in 2011, the Muslim Brotherhood-affiliated President Mohamed Morsi sought to reset ties, visiting Tehran in 2012 and receiving Iranian President Mahmoud Ahmadinejad in Cairo the following year. But the short-lived thaw ended after the rise to power of incumbent President Abdel Fattah El-Sisi in 2013.

However, a new situation has emerged in the Middle East in recent years, due to the perception that the U.S. is gradually retreating from the region. As Washington has reduced its commitments and shifted its gaze to the Indo-Pacific, regional powers have responded by diversifying their international partnerships and bolstering their ties with Russia and China in particular. They have also become less willing to heed U.S. demands. In March, a historic normalization deal between Saudi Arabia and Iran was brokered by China. In May, Syria was readmitted to the Arab League after an 11-year suspension, despite Washington’s public criticism of the move. In this context, the Egyptian-Iranian dialogue is part of wider regional reconciliation efforts over which the U.S. has little control.

There is little doubt that Iran approaches the talks with Egypt with an eye on mitigating its relative isolation in the Arab world and undermining U.S. and Israeli efforts to form an anti-Iran Arab front. Indeed, as the Arab world’s most-populous country, Egypt is the last remaining major Arab state not to have at least begun to mend its fences with Iran. Egypt’s motivations are less evident. Surrounded by several potentially contagious hot spots in Libya, Sudan and Gaza, Cairo has a vested interest in promoting engagement and moderation across the region. After nearly a decade of animosity, for instance, Egypt recently patched up its relations with Qatar and narrowed its differences with Turkey.

The dialogue with Tehran can be seen through this prism. Cairo is aware of Iran’s influence over Hamas and other Gaza-based Palestinian factions. From its perspective, an understanding with Iran could be harnessed to moderate the behavior of these militant groups.

But there is probably more to it than that. Egypt is in the throes of a severe economic crisis that has cut the value of its currency in half and disrupted trade flows. Facing an acute foreign currency shortage, it has sought different forms of financial assistance from international financial institutions, wealthy oil-rich Gulf states and even countries like India and war-torn Libya.

Iran, which faces its own economic challenges due to the impact of U.S. sanctions, has little to offer in the form of direct aid. But thawed relations could be a boon to Egypt’s tourism sector. Home to dozens of Shiite holy sites, mosques and shrines, Egypt could attract large numbers of Iranian visitors—who have been barred from entering the country for decades—if relations are normalized. That could provide a critical contribution to its cash-strapped economy. Indeed, a step in this direction was already taken in March, when Egyptian authorities relaxed visa regulations to allow Iranians traveling in groups to southern Sinai to obtain visas on arrival. A rapprochement could also enhance economic cooperation, including in the vital oil sector.

That said, the restoration of Egyptian-Iranian ties is not a foregone conclusion, as Egypt is currently treading carefully on this path. Its influential security agencies vetoed similar moves in the past, despite the inclination of the country’s senior diplomats to consider conciliatory options. Additionally, Egypt is keen not to provoke its Gulf patrons, who have historically looked askance at an Egyptian-Iranian rapprochement, fearing it would upset the delicate balance of power in the Gulf. Now that Saudi Arabia and the United Arab Emirates are also pursuing détente with Iran, they might lift their objections to Cairo following suit.

If successful, however, the normalization of ties between Egypt and Iran would once again expose Washington’s diminishing role in influencing regional dynamics. As the Pax Americana has eroded in the Middle East over the past decade, local actors have increasingly shaped the contours of regional politics, often in cooperation with China and Russia. But by far the biggest loser of such an outcome would be Israel, which feels threatened by Iran’s nuclear programand considers Tehran and its proxies to be evil forces with which there can be no compromise. The reintegration of Iran and Syria into the regional community would only exacerbate Israel’s security concerns.

The recent wave of reconciliation deals in the Middle East could help deescalate tensions in the region. But for how long? Conflict is endemic among its states, and periods of peace often turn out to be transient. But if Egypt and Iran do manage to normalize their relations, it would at least be a step toward finding out the answer to that question.

 

* This article appeared first on World Politics Review on July 5, 2023. 

Monday, June 19, 2023

عن الجمهورية "العجوز" في عيدها السبعين

 

.

في الثامن عشر من يونيو 1953، تم الإعلان عن قيام الجمهورية في مصر بعد قرن ونصف من الحكم الملكي الراسخ. لا يمكن بأي حال فصل الجمهورية المصرية عن السياق التاريخي المحدد الذي نشأت فيه لاسيما كونها إحدى الثمار المباشرة للتحرك الذي قامت به ثلة من ضباط الجيش في صبيحة الثالث والعشرين من يوليو لعام 1952. ففي ذلك اليوم الفارق، استولى تنظيم "الضباط الأحرار" بقيادة البكباشي جمال عبد الناصر على السلطة، مدشناً مرحلة جديدة، وممتدة، في تاريخ البلاد. الانقلاب الأبيض الذي تحول لثورة مجازية - من أعلى - تحرك من بدئه بخطى متسارعة، فأقصى الملك فاروق في يومه الثالث، ثم أطلق مشروع الإصلاح الزراعي وحلَّ الأحزاب السياسية وأعلن قيام الجمهورية قبل أن يتم عامه الأول. 

تتابعت العقود وتبدلت الوجوه وتغير وجه الحياة، لكن الجمهورية الوليدة عمَّرت طويلاً. يُنظر على نطاق واسع للمنظومة السياسية والبيروقراطية القائمة في مصر اليوم على أنها الوريث الشرعي لعمليتي الهدم والبناء اللتان نفذتهما حركة يوليو بهمة عالية. الجمهورية القائمة منذ 1953 حتى اليوم – والتي يطلق عليها في الأدبيات السياسية اسم دولة أو جمهورية يوليو – هي الأولى إذن، إذ لم تفضي إلى قيام جمهورية ثانية، مختلفة عنها ومفارقة لها. تطل هذا الشهر الذكرى السبعون لقيام هذه الجمهورية حاملة معها عدة مفارقات عن المسافة بين البدايات والمآلات.

تتعلق أولى المفارقات بتحول الجمهورية المصرية من "ثورة" تبغي التغيير إلى سلطة تتوسل الاستقرار. كانت جمهورية يوليو في نشأتها مشروعاً كبيراً للتحديث الاقتصادي والتغيير السياسي والاجتماعي. تضمن هذا المشروع هندسة اجتماعية واسعة، وخطة طموحة للتنمية، ودوراً إقليمياً يستند على أفكار القومية العربية ومبادئ عدم الانحياز. بنهاية عقدها الثاني، كانت الجمهورية قد أممت قناة السويس، وشيدت السد العالي والمصانع الثقيلة، وغيرت خريطة النخب الحاكمة وتموضع الطبقات على السلم الاجتماعي. أما خارجياً، فقد هيمنت على النظام الإقليمي العربي وامتد نفوذها إلى ما تعداه، خاصة في إفريقيا. حجم هذا التغيير ومعدله هو الذي شرعن تسمية يوليو "بالثورة" بعد أن كانت توصف في شهورها الأولى "بالحركة" فحسب. وكي يكتمل استحقاقها للقب، ولأن لكل ثورة دعوة أو رسالة أخلاقية تتكئ عليها، فقد رفعت يوليو ألوية الاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية والقومية العربية في الداخل والخارج.

لكن طموحات البدايات المسربلة بالأحلام العريضة ما لبثت أن ذوت مثل ندى الصباح وحل محلها جمود لا يرى في الأفق أبعد من سماء الاستقرار. أصاب الوهن الاقتصادي مفاصل الجمهورية فور أن سكنت مدافع حرب أكتوبر 1973، وفرضت احتياجات إعادة البناء الداخلي تقارباً مع رأس المال الغربي والخليجي وتهدئة مع إسرائيل. خفَّت السرعة وتوارت الدعوة وتماهت الألوان بين الثورة والثورة المضادة مع بداية مسيرة السلام والهدوء والاستقرار. شيئاً فشيئاً، مالت الجمهورية نحو التقاعس والتحجر. في السنوات الّاخيرة من القرن المنصرم، اعتبر الكاتب الصحفي الشهير محمد حسنين هيكل أن نظام يوليو السياسي "شاخ على مقاعده". وإبان ثورة يناير 2011، أنشد الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي بيتاً من الشعر في قصيدة "الميدان" يلخص التوق العام إلى تجديد دماء الجمهورية: آن الأوان ترحلي يا دولة العواجيز.

كانت مفردة "الاستقرار" كلمة الرئيس حسني مبارك (1981-2011) الأثيرة، يرددها في أحاديثه العامة بحسبانها هدفاً أصيلاً لحكمه. كما تعددت إشارات الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي (2014-) إلى ضرورة "الحفاظ على الدولة". ومع أن الحفاظ على الدولة واستقرارها أمر محمود في العموم، إلا أن تصريحات الرئيسين أومأت من طرف خفي إلى أن الدولة ما عادت مهمومة بالأهداف الكبرى والغايات البعيدة، مثل النهضة أو العدالة أو الديمقراطية، ناهيك عن السعادة أو الرفاهية، بل انكمش سقف طموحاتها وتقلصت أهدافها إلى محض البقاء والاستمرار.

من ناحية ثانية، كانت جمهورية يوليو منذ ميعة الصبا "جمهورية بلا جماهير". رغم الخطاب الشعبوي والحديث الدائب عن "الشعب" وتحالف قواه العاملة، اعتمدت الجمهورية على عقد اجتماعي، غير معلن ولم يتم التفاوض عليه لكنه جلي للكافة، يقايض الحقوق السياسبة بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية. في ظل الثورة المجازية، نال المواطنون – مجازاً أيضاً سلعاً أساسية مدعمة وتعليماً ورعاية صحية مجانية وحق التوظيف في الجهاز الإداري للدولة بعد الحصول على شهادة دراسية، لكنهم حُرموا من حقوق الرأي والتعبير والتنظيم السياسي. لكن الجمهورية سرعان ما عجزت عن الوفاء بواجباتها وفق هذا التعاقد (بسبب عجزها المالي) بيد أنها أبت في الوقت نفسه أن تمنح الشعب حقوقه السياسية المهدرة. اختلت من ثمَ معادلة أنه "لا ضريبة بدون تمثيل"، إذ تم التوسع في فرض الضرائب واهترأت شبكة الأمان الاجتماعي فيما غاب التمثيل والمحاسبة. لم يعد ممكناً بالتالي تجسير الفجوة المتنامية بين نوازع الدولة وحقوق الناس سوى بأدوات القمع. ولذلك، حمل طوفان الخروج الجماهيري إلى الفضاء العام في يناير 2011 في طياته تساؤلاً استنكارياً مفاده: إلى متى يمكن أن تستمر جمهوريتنا بدوننا؟

ثم كان أن تلاطمت أمواج سنوات ما بعد 2011 واصطخبت لكنها لم تزعزع استئثار جمهورية يوليو الشائخة بمقود القيادة. ووري جثمان الثورة وتفرق شمل شبابها لكن صدمتها مازالت تمور في وجدان الجميع برياح الحلم والكابوس. ومع ذلك، وتلك مفارقة، بقي سؤالها الاستنكاري معلقاً على أجنحة الأفق السياسي الغائم بلا جواب شافٍ، بل ضاقت النسخة الأحدث من الجمهورية ذرعاً بالجماهير أكثر فأكثر. ومن ثم ارتدت من جمهورية تستبعد الجماهير وإن وضعت مصالحهم نصب أعينها بشكل ما إلى جمهورية تشي حركاتها وسكناتها بأنها لا تطيق الجماهير من الأساس؛ تستبعدهم من كافة أشكال المشاركة في صنع القرار، وتعتبر التجمعات خطراً ينبغي التحوط منه، سواء في ميادين المظاهرات وطوابير الانتخابات أو حتى في الملاعب الرياضية والفعاليات الثقافية. بل إنها لم تبدِ أي حماس لتعبئة جمهور مؤيديها في إطار كيان سياسي ناشط، على غرار تنظيم "الاتحاد العربي الاشتراكي" الذي هيمن كحزب أوحد على الحياة السياسية من 1962 إلى 1978 أو الحزب الوطني الديمقراطي الذي استلم منه الراية واحتكر موقع الحزب الحاكم حتى عام 2011.   



تتصل المفارقة الثالثة بالجانب الاقتصادي في مصر التي تضخم عدد سكانها وقصرت مواردها عن تلبية كافة احتياجاتهم. عبر العقود السبع الماضية، اتحد الانفجار السكاني وسوء الإدارة مع الضغوط الخارجية (خاصة بعد هبوب رياح العولمة) لينتج وضعاً مثقلاً بالأعباء. تعاظم حجم الدين الخارجي، وارتفعت معدلات التضخم والفقر، وانتشرت البطالة، وتآكلت الطبقة الوسطى. تخبطت الجمهورية كثيراً في اختيار المقاربة الأمثل لمواجهة أزماتها الاقتصادية المتعاقبة، ما بين اشتراكية الستينيات وانفتاح السبعينيات الجزئي ورأسمالية المحاسيب في نهايات عصر مبارك وصولاً إلى الصيغة الحالية العصية على التصنيف في ضوء خليطها المتنافر الجامع بين تغلغل للدولة في جنبات الاقتصاد وتسلل لأنماط النيوليبرالية الاقتصادية إليها.   

كان "القضاء على الاستعمار" أحد الأهداف الرئيسية لثورة يوليو المنصوص عليها في قائمة مبادئها الست الأساسية. ولذلك تبنت الجمهورية الناشئة نموذجاً مستقلاً للتنمية الاقتصادية يمكن للبلاد من خلاله أن تتحرر من براثن التبعية الاقتصادية وتحكم القوى الكبرى. لكن الجمهورية ما فتئت كما قلنا تكبو دون غايتها، إذ رافقتها الأزمات المالية كظلها منذ البدايات أو ما بعدها بقليل. لجأت الحكومة لخيار الاقتراض من صندوق النقد الدولي للمرة الأولى في منتصف الستينيات، ثم فعلت ذلك بشراهة أكبر في العقود التالية. ومؤخراً، في الفترة من 2016 إلى 2022، حصلت مصر على أربعة قروض من الصندوق يزيد حجم مجموعها عن عشرين مليار دولار.

كما زادت اعتمادية مصر على دول الخليج التي حصلت منها وفق تقدير حديث على 97 مليار دولار في الفترة من 2013 إلى 2020 في صورة مساعدات وقروض واستثمارات وشحنات نفط مخفضة السعر وودائع في مصرفها المركزي. طبقاً للبيانات الرسمية، يتجاوز حجم الودائع الخليجية الدولارية في البنك المركزي المصري ثمانين بالمئة من إجمالي ودائع النقد الأجنبي فيه. الاعتمادية المتزايدة على مؤسسات التمويل الدولية ودول الخليج ألقت بالاستقلال الاقتصادي المنشود في مهب الريح، ووضعت استقلال قرار السياسة الخارجية المصرية تحت رحمة الحاجة الاقتصادية.

رابعاً، ادَّعت الثورة/الجمهورية أنها قامت بغية التحرر من نير الاستبداد. لم تكن الفترة من استقلال مصر في 1922 إلى قيام انقلاب 1952 عهداً ليبرالياً، كما يتردد كثيراً، إلا مقارنة بما تلاها. في الربع الثاني من القرن العشرين، تولى رئاسة الوزراء سياسيون عُرفوا بميولهم الدكتاتورية وعِصِيهم الغليظة، مثل محمد محمود (1937-1939) واسماعيل صدقي (1930-1933 و1946)، وانتشرت ممارسات سلطوية قحة مثل فرض الأحكام العرفية ومصادرة الصحف واعتقال النشطاء السياسيين. لذلك بدا منطقياً أن يرفع عبد الناصر شعاره الأثير "ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد". على براعتها في صك الشعارات، تفوقت الجمهورية على الملكية فيما عابت عليها فيه. تحولت الإجراءات "الاستثنائية" المفروضة باسم حماية الثورة والحفاظ على استقرار الدولة إلى أسلوب عمل اعتيادي، بل وعقيدة عليا يُعض عليها بالنواجذ ويُقرض في مدحها الشِعر. التناقض بين الخطاب والممارسة ولَّد أزمة شرعية عميقة لم يعد من الممكن رأبها بالتبريرات الرسمية. فإذا اعتبر البعض أن إجراءات الخمسينيات والستينيات القمعية كانت ضرورية لحماية الثورة من القوى المتربصة بها، فما القول وقد ولى قانون الثورة وسادت شريعة السلطة والثروة؟ وإذا صدّق البعض الأخر الخطاب المباركي الذي شدد على ضرورة التوجه الديمقراطي مع التخفيف من سرعته، فما القول وقد اختلفت الوجهة برمتها وما عادت الديمقراطية مطروحة كغاية مرتجاة من الأساس؟

أخيراً، وفي نطاق سياستها الخارجية، لم تعد خطوات مصر ورؤاها ترسم ملامح المنطقة، حرباً وسلماً وتحالفاً. على عكس دوائر الحركة الثلاث – العربية والإفريقية والإسلامية – التي نظَّر لها عبد الناصر في كتابه "فلسفة الثورة" وصارت منهاجاً للدبلوماسية المصرية لفترة طويلة، انحسر دور مصر الإقليمي في العقود الأخيرة، مركزاً قواه على جوار البلاد الجغرافي في غزة وليبيا والسودان ومصالحها المائية الخاصة بنهر النيل، ومفسحاً المجال لمساعي خليجية وتركية وإيرانية لقيادة شؤون المنطقة. لكن العقد الأخير شهد حضوراً خليجياً وتركياً قوياً حتى في نطاق هذه المناطق المتاخمة لمصر. في ظل حضور مصري باهت، زاد النفوذ القطري في غزة والنفوذ التركي في ليبيا والسودان، ونجحت وساطة إماراتية في إنهاء النزاع الطويل بين دولتي حوض النيل إثيوبيا وإريتريا، ومؤخراً رعت السعودية اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين الأطراف المتصارعة في السودان. وفيما يتعلق بسد النهضة الإثيوبي، حاولت مصر كثيراً الوصول إلى اتفاق قانوني ملزم مع إثيوبيا يحفظ حقوقها في شريان حياتها الأزلي، لكن النتائج جرت بما لا تشتهي مساعيها.

***

دارت الجمهورية حول نفسها دورة كاملة. كان هيكل في تنظيره لدولة يوليو قد ميَّز بين مصر الدولة ومصر الثورة؛ الأولى تلتزم بالسلوك المتعارف عليه بين الدول أما الثانية فلها إشعاع متفرد وقانون خاص. يشير المعنى المضمر في هذا الطرح إلى أن قادة الجمهورية الأوائل رأوا أن مصر ليست مثل أي دولة أخرى في الإقليم، بل هي بوصلة ترسم الطريق ونموذج حريّ بالآخرين أن يحتذوا به. بطبيعة الحال، يقوم أي نموذج سياسي جاذب على دعامتين لا مناص منهما: الرسالة المعنوية والمقومات المادية. وقد أصاب صدأ السنين كلا الدعامتين. ولذلك يرى البعض اليوم أن الجمهورية تحولت من "نموذج" حقيقي أو محتمل إلى ما يشبه القصة الاعتبارية.

لقد اعترضت الجمهورية مجموعة من الأحداث الجسام والهزات المتتابعة عبر أعوامها السبعين. تجرعت مرارة الهزيمة العسكرية أمام إسرائيل في 1967، وباغتتها انتفاضات الطلبة في 1968 و1972 وانتفاضة الخبز في 1977، ودهمها اغتيال رئيسها الثالث أنور السادات في 1981، وجوبهت بصعوبات اقتصادية شتى من الثمانينيات فصاعدا، وزلزلت أركانها ثورة يناير التي أطاحت برئيسها الرابع مبارك في 2011. ظلت مع ذلك وتيرة تطور الجمهورية أبطأ مما أحاط بها من تغيرات سريعة وواسعة النطاق في مصر والإقليم والعالم. الأدهى أن ثمة متواليات دائرية عدة في قصة الجمهورية المصرية. فالسعي للاستقلال الوطني انتهى باحتلال إسرائيلي لسيناء دام خمس عشرة سنة. زال هذا الاحتلال بحرب ومعاهدة صلح أعقبهما سعي حثيث للتنمية، لكنه بدوره انتهي بالانكشاف أمام رؤوس الأموال والجهات المانحة. أما التخلص من استبداد الملك والإنجليز وباشوات العهد "البائد" فانتهى إلى استبداد أشد ضراوة. يطرح ذلك كله عدة أسئلة مركزية: هل كانت جمهورية يوليو قوة دافعة للتطور أم عقبة معيقة له؟ ومم انبثق الخلل بين الأهداف الكبرى والمحصلة الصغرى؟ وكيف السبيل إلى علاجه؟

في السنوات الأخيرة بدأ الرئيس السيسي في رفع شعار "الجمهورية الجديدة"، قائلاً إنها "جمهورية التنمية والبناء والتطوير" وإنها "تؤسس نسقاً فكرياً واجتماعياً وإنسانياً شاملاً". مع ذلك، ما برحت تساؤلات حيرى تطوف بذهن الناس، تتحرى مضمون ومعنى ورسالة هذه الجمهورية، وتخمن مواطن الاختلاف بينها وبين جمهورية يوليو، وترتاب في مدى استعداد عجائز سدنة المعبد لنبذ ملتهم واعتناق دين جديد.

 

د. نايل شامة