Wednesday, November 21, 2012

مرسي وأشباح مبارك المتراقصة


يرقد الرئيس المصري السابق حسني مبارك في سريره بسجن طرة ناعياً ضياع السلطة وزوال النعمة، لكن أشباحه مازالت تطارد المصريين. لقد جثم الرجل ونظامه فوق صدورهم طويلاً حتى أكلت عليهم سنواته وشربت، تاركة أثاراً غائرة لا يبدو أنها ستنمحي بسهولة. تجرعوا مرارة عهده فصاروا حتى بعد الثورة يرون خلف كل باب، ووراء كل منعطف، شبح مبارك ورجاله وسياساته وممارساته التعسة. صاروا يتوجسون خيفة من كل شيء، ويخشون أن يكون في كل توجه تكرار لما سبق، أو إعادة إنتاج للماضي الذي يبغون قطيعته، فإذا به قابع تحت جلودهم، ومستقر في أذهانهم.  

والواقع أن الإدارة الجديدة للبلاد بقيادة الرئيس محمد مرسي تصر على تذكيرهم بأن ما مضى لم يمض تماماً، وأن ذيول الماضي لها في الحاضر تواجد وتأثير، وأن حجم الاستمرارية أكبر كثيراً من حجم التغيير المنشود. ففي ثلاث مستويات على الأقل هي الرؤية الاستراتيجية، وآليات عملية صنع القرار، وبعض السمات الشخصية للرئيس، يضبط المصريون أنفسهم يتمتمون بعبارة "ما أشبه الليلة بالبارحة"، رغم أن الشعب قام بثورة، وخلع الديكتاتور، ودفع ضريبة الدم. 

***

أولاً، لم يكن مبارك قائداً أو زعيماً سياسياً بأي معنى من المعاني، ولكنه كان رئيساً بيروقراطياً بامتياز قذفت به الأقدار إلى موقع المسئولية. عرف مبارك كيف يضمن ولاء الأفراد وتبعية المؤسسات، وكيف يجعل تلك المؤسسات تدور في فلك الرئاسة ولا تتمرد على قانونها. كان بارعاً قي إذكاء المنافسة بين الأجهزة المختلفة، ليضعف كل منها الآخر، وليضمن السيطرة والإخضاع، كما أشرف على قيام شبكة من المصالح المتشابكة تنتفع منه وتؤيده. لكن مبارك افتقد الرؤية الاستراتيجية والتخطيط بعيد المدى والخيال الخلاق، فاعتمد على الحلول التقليدية، وابتعد عن المغامرة، وبمرور السنوات ساد الروتين والخوف من التغيير، واختفى كل فعل، ولم يبق سوي ردود الفعل المتهافتة في السياستين الداخلية والخارجية.

أعراض المرض القديم تعاود للأسف الشديد الظهور في العهد الجديد. فحتى الآن لم يتبين الشعب المصري تماماً ماهية المشروع الرئاسي لنهضة البلاد، ولا أولوياته، ولا منهاجه، ولا وسائله. تبدو الرؤية غائمة، والارتجال مهيمناً، والتخطيط غائباً. فالفلسفة الاقتصادية الحاكمة للعهد الجديد (وإلى أي مدى تقترب من أو تبتعد عن مبادىء الرأسمالية القح أو أهداف العدالة الاجتماعية) ليست واضحة بما يكفي. وباستثناء الخطاب الفضفاض والأهداف العامة تستمر الأطر الحاكمة للسياسة الخارجية المصرية بلا تغيير. والكثير من أفعال جماعة الإخوان المسلمين (بخاصة ما يندرج في ما يطلق عليه "مشروع التمكين") تثير القلق من قيام حزب وطني جديد يتدثر برداء الدين وقوامة الأخلاق. وإفراط الرئيس في الخطابة يقابله شح في شرح البرامج والأهداف. فهل غابت الرؤية فعلاً واستعيض عنها بالكلام الوردى كما كانت الحال في سنوات الجدب والكذب؟     

***

ثانياً، اتسمت عملية صنع القرار في أيام مبارك بالعشوائية والتخبط وغياب المؤسساتية. اعتمد مبارك على فريق صغير من المستشارين، ولم يشأ أبداً إجراء تعديلات واسعة على تشكيل هذا الفريق، فبقى بعضهم (مثل صفوت الشريف وزكريا عزمي وعمر سليمان) لسنوات وعقود في الدائرة الصغيرة المحيطة بالرئيس، والقادرة على صنع (أو إجهاض) التوجهات والسياسات. 

تغير هذا الهيكل المؤسساتي المعيب جذرياً مع مجيء مرسي، فصار للرئيس نائب، وأربعة مساعدين، وسبعة عشر مستشاراً في مختلف المجالات. لكن آفات عملية صنع القرار التقليدية ظلت عصية على التغيير. ويمثل قرارا عودة مجلس الشعب وإقالة النائب العام اللذان تراجع عنهما الرئيس نموذجاً للتسرع، وغياب الخبرة، وفقدان التنسيق بين أجهزة الدولة المختلفة. ووصلت دراما التخبط ذروتها حين تبادل وزير العدل والمستشار القانوني للرئيس الاتهامات العلنية بالمسئولية عن نشوب الأزمة، وتصاعدها على النحو الذي شهده الجميع. 

وبالمثل، فإن قرار تعديل مواعيد إغلاق المحال التجارية تم بلا دراسة، أو تمهيد، أو تخطيط، أو مناقشة مع المجتمع، وبالذات الفئات المتضررة منه. وشابه القرار إلى حد بعيد أسلوب الأنظمة السلطوية، التي تفاجيء شعوبها بما لا يستطاع، لكنها تتوقع منهم الطاعة العمياء والامتثال الكامل. حين يواصل الساسة الجدد السير على درب أسلافهم على هذا النحو في أعقاب ثورة قتلت مكامن الخوف وأحيت نوازع التمرد، يثور السؤال: ما الذي تغير حقاً بعد الثورة؟  

***

ثالثاً، في العقد الأول من عهد مبارك كتب المفكر الاقتصادي جلال أمين مقالاً بعنوان "الفلسفة الاقتصادية في خطب الرئيس". شرح أمين في مقاله بمزيج من المنطق السديد والسخرية اللاذعة قابلية مبارك المفرطة لتصديق ما يسوقه مستشاروه الاقتصاديين من حجج لتبرير تردي الأوضاع الاقتصادية وارتفاع الأسعار. كانت ثقافة مبارك السياسية والاقتصادية ضحلة بالفعل، وكانت تلك فيما يبدو نقطة ضعفه التي تسلل منها مستشارو السوء ليبرروا له كل إخفاق، وليجملوا له كل جريمة، بدءاً من التحالف الآثم مع إسرائيل لخنق الفلسطينيين، مروراً بصمت الشياطين على استشراء الفساد، ووصولاً إلى خطيئة التوريث.

وتلوح في الأفق اليوم أشباح مبارك المتراقصة، ففي خطابه في استاد القاهرة، ذهب مرسي إلى مدى بعيد ليقنع المصريين بأن سجل المئة يوم الأولى لم يكن سلبياً، وبأن نجاحات حقيقية قد أنجزت على أرض الواقع. فالمرور تحسنت أوضاعه بنسبة 60 في المئة لأن الدولة زادت من حصيلة المخالفات المرورية، وإنجازات ملف الطاقة يشهد بها تحرير المئات من قضايا تهريب البوتاجاز. وفي حديث آخر استشهد مرسي بانخفاض سعر المانجو ليدلل على تحسن الأوضاع الإقتصادية وانخفاض الأسعار.

هذا الميل إلى التبسيط المخل، والنزعة إلى انتقاء أمثلة معينة للقفز إلى استنتاجات تصب في مصلحة الرئيس وقدرته على الانجاز، هي نذير خطر، ومؤشر واضح على قابلية الرئيس لتصديق أي منظق معوج يستخدمه معاونوه، لتجميل صورته، وإبراء ذمته. وإذا كان هذا سمت الرئيس في الشهور الأولى، فكيف سيكون الحال في قادم الشهور والسنين؟    

***

مرت أشهر قليلة على دخول مرسي قصر الرئاسة. والمؤكد أن الرئيس يستحق أكثر من فرصة، والوطن يستحق أكثر من هدنة، إلا أن أشباح مبارك تأبى إلا أن تؤرق المصريين في الصحو والمنام، ربما لتذكرهم بما كان، وتحذرهم مما هو آت.    

 

د. نايل شامة

 

* نُشرت هذه المقالة بجريدة الحياة (بتاريخ 19 نوفمبر 2012).

Sunday, November 4, 2012

نهضة الإخوان الذكورية


ضجة سياسية واسعة صاحبت إعلان جماعة الإخوان المسلمين عن مشروعها للنهضة، أعقبها جدال وسجال إعلامي محموم، تخلله تصريح لنائب المرشد العام بأن المشروع ما زال في طور الأفكار والاقتراحات، ولم يتبلور شكله النهائي بعد، وإن كان التسويق له يرتكز في مجمله على أنه سيقيل البلاد من عثرتها الاقتصادية الحالية، وسيمهد الطريق إلى المستقبل المشرق المنشود.  

لكن النهضة ليست فقط كما هو شائع اقتصاداً ينمو، واستثماراُ يتدفق، وأموالاً تضخ، ووظائف تخلق، وإنما هي قبل ذلك كله اهتمام وعناية بالقاعدة الاجتماعية التي ستضطلع بهذه النهضة، وتقيم أسسها، وتدفع كلفتها. فلا تستقيم نهضة دون استقامة القائمين عليها، ودون إقامة العدل وتحقيق المساواة بينهم جميعاً.

***

وبعيداً عن تفاصيل الخطط الإقتصادية والبرامج التنموية، فإن أحد مآزق النهضة المرجاة يتمثل في غياب المساواة بين المرأة والرجل عن عقيدة وفكر وممارسة الجماعة السياسية الأكبر والأكثر تنظيماً في البلاد، والتي أخذت على عاتقها تخطيط وتسويق وتنفيذ مشروع النهضة. فبداية من "مذكرات الدعوة والداعية" للإمام حسن البنا في الأربعينات وحتى صياغة المواد الدستورية المتعلقة بالمرأة في 2012م، تشير أدبيات جماعة الإخوان المسلمين إلى موقف ملتبس من المرأة، يعترف بالمساواة بين الجنسين، لكنه يضع لتلك المساواة في الأغلب قيوداً وشروطاً وضوابط. كما أن السلوك السياسي العملي للجماعة، وهو فصل الخطاب في تحليل أداء أي جماعة سياسية، يؤكد تهميشاً واضحاً للنساء، واستبعاد لهن من سدة القيادة، والاكتفاء بوجودهن في الصفوف الخلفية، حيث يلعبن أدواراً مهمة في الحشد والتعبئة والتصويت. أما التخطيط والقيادة واتخاذ القرارات فحكر على الأعضاء الرجال، وهو ما ينبيء بطبيعة الفكر السائد، والتراتبية القائمة في هيكل الجماعة، وتوزيع العمل المبني عليها. 

فعلى الرغم من أن مشاركة كوادر جماعة الإخوان المسلمين في الانتخابات البرلمانية بدأت في عام 1984م، فإن هذه المشاركة اقتصرت على الرجال فقط حتى عام 2000م، حين ترشحت من صفوف الجماعة إمرأة واحدة فقط هي السيدة جيهان الحلفاوي، بعد جدال ونقاش محموم بين الإخوان حول الفكرة ومدى شرعيتها وإمكانية تطبيقها. وفي انتخابات 2005م، ترشحت أيضاً إمرأة واحدة فقط (هي مكارم الديري عن دائرة مدينة نصر) من مجموع 161 مرشحاً إخوانياً خاضوا الانتخابات (أي بنسبة تقل عن 1%). وفي انتخابات 2010م، خاضت نساء الإخوان غمار الانتخابات على مقاعد المرأة فقط، ولم ينافسن على بقية المقاعد. أما في انتخابات 2011م التي أعقبت ثورة الخبز والحرية التي لعبت فيها المرأة المصرية دوراً بارزاً، فاقتصر وجود النساء على قوائم حزب الحرية والعدالة (كما يفرض قانون الانتخابات)، ولم يرشح الحزب أية نساء على المقاعد الفردية. أما عدد النساء المنتخبات عن حزب الحرية والعدالة في مجلس الشعب فبلغ 4 فقط من بين 216 مقعداً حصل عليها الحزب (أي بنسبة تقل عن 2%).   

وتشكيل الهياكل الرئيسية لجماعة الإخوان المسلمين يؤكد إقصاء واضحاً للكوادر النسائية. فمنذ إنشاء الجماعة منذ نيف وثمانين عاماً، لم تصل أي إمرأة قط إلى عضوية مكتب الإرشاد، وهو المماثل في التراتبية والأهمية لمجلس الوزراء في الدولة المصرية. وهيمنة الرجال واضحة في مجلس شورى الجماعة، وهو بمثابة برلمان الجماعة، وفي مكاتب الجماعة الإدارية بالمحافظات المختلفة. وبالتأكيد لا داعي للتذكير بأن منصب المرشد العام ظل منذ إنشاء الجماعة مقصوراً على الرجال فقط.

ولئن كان لأعضاء الجماعة وقياداتها مطلق الحرية في إدارة أوضاعها الداخلية كما يحلو لهم، فإن تصاعد نفوذها السياسي عقب الثورة قد جلب معه تأثيرات واسعة إلى الفضاء العام، ما يجعل من مناقشة شئون الجماعة بالضرورة مناقشة لشئون الوطن برمته. فعلى سبيل المثال، بلغت نسبة النساء في التشكيل الأول للجمعية التأسيسية للدستور 6% فقط، زادت قليلاً إلى 7% في التشكيل الثاني، أما تمثيل النساء في أول مجلس للوزراء في عهد الرئيس محمد مرسي قيقتصر على وزيرتين فقط (بنسبة 5% من مجموع عدد الوزراء). وتثير المواد المتعلقة بالمرأة في مسودة الدستور الجديد القلق والأسى والغضب في آن واحد، ما حدا بإحدى الناشطات في مجال حقوق المرأة إلى اعتباره "دستوراً للرجال فقط". 

***

لا يزال البون شاسعاً بيننا وبين دول العالم كما كان دائماً فيما يتعلق بحقوق المرأة. فبحلول العقد الأخير من القرن التاسع عشر، زاد عدد النساء العاملات في المصانع اليابانية على عدد الرجال، في الوقت الذي كانت فيه المرأة المصرية لا نزال تكافح من أجل منحها حق العمل والتعليم. واليوم لا يزال الجدل محتدماً حول جواز تولي المرأة رئاسة الجمهورية، بعد أن وصلت المرأة بالفعل إلى موقع القيادة في عشرات الدول، بما فيها دول إسلامية كباكستان وبنجلاديش. وفي ظل تصاعد تأثير جماعات الإسلام السياسي، فإن تهميش المرأة مرشح مستقبلاً لمزيد من التكريس، بل وربما تتم مأسسة ودسترة هذا التهميش.

لقد فطنت ثورة يوليو منذ ستين عاماً إلى أهمية قيام التنمية على أكتاف الرجال والنساء معاً، فتوسعت في بناء مدارس البنات، وفي تعيين النساء في المصانع والمصالح الحكومية، ومنحتهن حق التصويت، وتولت المرأة للمرة الأولى منصب الوزارة. بينما يظل مستقبل المرأة بعد ثورة يناير غير واضح، فسفينتها تتأرجح بين تعنت بعض أهل الدين وتجاهل أكثر أهل السياسة، والتشريعات الخاصة بها تبقى رهناً للمواءمات السياسية والمصالح الانتخابية الضيقة، ومستقبلها صار فريسة لأفكار وموروثات عفا عليها الزمن، ولكنها تنمو وتزدهر باتساع الوطن وعلى ضفاف النيل الحزين.   

***

لقد تجرعت مصر مرارة كؤوس التجارب الفاشلة مراراً، ولم يعد بها طاقة لتحمل المزيد من الانكسار والإحباط وخيبة الأمل. وأي مشروع نهضوي لا يرتكز على عموديه الاقتصادي والاجتماعي سيفشل قبل أن يبدأ. وعليه، فإن أرادت جماعة الإخوان المسلمين حقاً أن تقنع المتشككين، وتشجع المترددين، وتستنفر طاقات الجميع حول مشروعها، فعليها أن تضرب المثل، وتقدم القدوة، وتلهم الباقين بالسلوك والعمل.
 

د. نايل شامة
* نُشرت هذه المقالة بجريدة الشروق (بتاريخ 3 نوفمبر 2012).