يحار المرء كثيراً حين يتذكر المقولة الشهيرة التي راجت من أن المصريين- من فرط صلابة ثقافتهم وكونها ضاربة في أعماق التاريخ- يؤثرون فيمن احتلوهم، بدلاً من أن يتأثروا بهم على عكس ما حدث في أقطار شرقية أخرى عديدة . فالمصريون – كما تقول النكتة – علموا البريطانيين اللغة العربية، بدلاً من أن يتعلموا منهم الإنجليزية، ويبدو هذا في تناقض صارخ مع الحالة الجزائرية مثلاً التي بذل قادة ثورتها جهوداً مضنية من أجل التعريب في أعقاب الاستقلال. وبرغم التسليم الكامل باختلاف الاحتلال البريطاني عن نظيره الفرنسي في كون الأول سياسياً وإدارياً بالأساس، بينما الثاني يسخر جزءاً غير يسير من طاقته لبسط الهيمنة الثقافية، إلا أن المؤكد أن أبناء هذا الوطن – رغم تأثرهم بثقافات وحضارات شتى حطت على أرضهم واستقرت (وهذا أمر طبيعي) – كانت مناعتهم الثقافية أقوى من غيرهم بمراحل. مبعث تلك الحيرة إذن أن تلك المناعة كما يبدو قد ضعفت كثيراً في العقود الماضية، وبدا وكأن المصري على استعداد لتقبل، بل واعتناق أي ثقافة وافدة، مهما بلغ حد شططها، أو شذوذها عما استقر عليه العرف في مصر لسنوات وقرون.
المثال البارز على تلك الظاهرة في السنوات الأخيرة، هو حالة الانبهار الشديد بنمط الحياة اللبناني ومن ثم تقليده والسير على منواله. يظهر ذلك في الشعبية الكبيرة للفن اللبناني، وللقنوات الفضائية اللبنانية، وفي الاستعانة الواسعة بالخبرات اللبنانية في مجالات عدة، كالأزياء، والتجميل، وصناعة الترفيه. يتجلى ذلك أيضاً في العدد الكبير من المطاعم المتخصصة في المطبخ اللبناني، أو المقاهي التي تحمل أسماء لبنانية (يوجد على الأقل خمسة منهم في حي واحد فقط من أحياء القاهرة). لم يكن غريباً إذن ما سمعت من أن أحد مندوبي المبيعات أتقن اللهجة اللبنانية، وصار يستخدمها دوماً في أحاديثه مع زبائنه، اعتقاداً منه لا شك بأن ذلك "يحلي" البضاعة التي يروجها ويساعد على بيعها. لاحظ أن بعض الإعلانات التليفزيونية تستخدم الأسلوب ذاته.
السؤال هنا هو: لماذا كل هذا الهوس بالأسلوب اللبناني في الحياة؟ وكيف تؤثر دولة صغيرة الحجم والسكان في أكبر الدول العربية مكانة ووزناً بهذا الشكل؟ لا يمكن إنكار أن الوجود الثقافي المصري حاضر بقوة في سائر الدول العربية، ربما بتأثير من فترات سابقة كان للسياسة والثقافة المصرية فيها تأثير قوي في المحيط الإقليمي. ثم إن هذا منطقي بحكم وزن مصر الحضاري وتراثها الثقافي الضخم، أما العكس فيحتاج إلى تفسير وإيضاح.
ربما كان الأنسب للإحاطة بهذه الظاهرة، وضعها في إطار عملية التغريب الكبيرة التي تتعرض لها الحياة والثقافة المصرية منذ قرون، والتي زادت وتيرتها في ظل الإيقاع المتسارع للعولمة، لتشمل كافة مناحي الحياة حتى بات منطقياً أن نضيف عموداً ثامناً إلى الأعمدة السبعة المكونة للشخصية المصرية - بحسب دراسة المفكر المستنير د/ميلاد حنا – والتي تضم انتماءات تاريخية أربع (الفرعونية، اليونانية/الرومانية، القبطية والإسلامية) وانتماءات جغرافية ثلاث (عربية ومتوسطية وإفريقية) تشكل في مجموعها شخصية المصري المعاصر. لا بأس من إضافة العمود الثامن إذن، خاصة وأن حنا قد أشار في دراسته القيمة إلى أنه لا يرى الأعمدة السبعة "كانتماءات أبدية"، بل لعلها تتراكم مع الزمن، ويضاف إليها انتماءات جديدة". العمود الثامن هو العمود الغربي وهو مختلف عن المتوسطي وإن تقاطع معه. فالمتوسطية كانت محصورة في نفر قليل من النخبة المثقفة في النصف الأول من القرن الفائت ممن احتكوا بالغرب وتأثروا به، ثم راحوا يبشروا به في كتاباتهم مثل طه حسين في "مستقبل الثقافة في مصر" (إصدار 1938) وتوفيق الحكيم وحسين فوزي. العمود الغربي مختلف فتأثيره أعمق، كما أنه يشمل قطاعات أوسع بعيداً عن أبراج المثقفين العاجية وقصور الأغنياء المنيفة. الغرب الآن صار بحق – كما يقول الأكاديمي البارز فؤاد عجمي – تحت جلود المصريين.
في ظل عملية التغريب الكبيرة هذه يوفر النموذج اللبناني ميزة واضحة هي المزج بين النموذج الغربي بكل مكوناته ومفرداته مع وضع كل هذا في قالب عربي، فلبنان بلد عربي ينطق أهله بلغة الضاد وتحتفظ ألحانه ببعض شرقيتها، كما يقترب طعامه مما ألفه المصريون. ففي ظل الانتقال من ثقافة عربية إسلامية سادت لقرون يبدو التقبل أو الامتثال الكاملين للتركيبة الغربية الصرف أمر جد صعب. في ظل هذه السيولة الثقافية يبدو النموذج اللبناني بمزيجه الفريد بين المكونات العربية والغربية شديد الجاذبية.
التفسير الآخر هو تطلع معظم فئات الشعب المصري - وهو شعب شديد الوعي بوضعه الطبقي- إلى تقليد ما يعتبرونه نمط سلوك وحياة الصفوة، بدءاً من اقتناء السلع الاستهلاكية للتباهي بها إلى إقامة الحفلات الصاخبة (بكل ما فيها من حرية وانفتاح غريبتين عن أسلوب الشعب المصري في عمومه) وحتى إلى نمط العلاقات الاجتماعية السائدة. ولأن القشرة الظاهرة من المجتمع اللبناني والتي تعكسها القنوات الفضائية والأغاني المصورة توحي بأن ذلك هو نمط حياة كل أفراده، فإن المصري ترسخ في عقله الباطن اعتقاد بأن الرقي ولبنان مترادفان. لذلك صار مفهوماً أن يتفاخر البعض يأن لهم أصولاً لبنانية أو شامية. أما الحقيقة التي يغفلها الكثيرون ممن انساقوا وراء بريق الحياة اللبنانية فهي انتشار الفقر في لبنان، حيث تبلغ نسبة من يرزحون تحت خط الفقر 28% وهي من أعلى النسب في منطقة غرب آسيا. طبقاً لهذه النسبة فإن حوالي مليون لبناني يعيشون تحت خط الفقر، بينما يعيش زهاء النصف مليون في فقر مدقع. يجهل هؤلاء أيضاً انتشار مظاهر التعصب الديني المقيت في أوساط بعض قطاعات الشعب اللبناني في السنوات الأخيرة.
كذلك يبدو الجنس حاضراً وبقوة في تحليل ظاهرة الإعجاب بالحياة على الطريقة اللبنانية. فالعقلية المصرية التقليدية ترى الأمور عادة من خلال عدسة "الجنس". وفي ظل انفتاح "فضائي" فاق الحدود في السنوات الأخيرة وفي ظل كبت جنسي يقارب حد الانفجار، يصبح نموذج الفتاة اللبنانية كما يعكسه الواقع الإعلامي مغرياً للغاية، خاصة إذا ما تمت مقارنته بالفتاة المصرية المتحفظة والتي يكبح جموحها قيود أسرية ومجتمعية شتى.
يبقى أخيراً أن نشير إلى أن الفئة "المتلبننة" هي في معظمها من أفراد الطبقة العليا والمتوسطة العليا، إضافة بالطبع إلى الطامحين في الانتساب إليهما، أما الطبقات الدنيا - حيث تنتشر الأصولية والحجاب - فيحدث فيها استقطاب معاكس حيث تجد نموذجها المفضل في مجتمعات محافظة كالسعودية وإيران، وما انتشار التدين على الطريقة السعودية الوهابية في أوساط الطبقات الشعبية وبين العائدين من إقامة طويلة بدول الخليج إلا دليل على ذلك، وهذا مثال آخر على أي حال على القابلية المفرطة للتماثل مع نسق قيمي "أجنبي".
وما بين "اللبننة" و"السعودة" وغيرهما تبقى الهوية المصرية لدى قطاعات واسعة ضائعة ومشتتة ويبقى السؤال حول ماهية تلك الهوية وما تفرضه من قيم وسلوكيات وما تنبذه، ما هو أصيل فيها وما هو وافد محيراً وربما مربكاً أيضاً.
نايل محمد شامة
نُشرت هذه المقالة في جريدة صوت الأمة (بتاريخ 1 أغسطس 2005).
Friday, August 24, 2007
المصريون والحياة على الطريقة اللبنانية
Thursday, August 23, 2007
Defeated at the Stadium of the City Victorious
Since its first encounter with modern civilization embodied by the French expedition’s unique combination of weaponry and science, Egypt’s history has been replete with false hopes and crushed promises. For example, in the first half of the nineteenth century, Mohamed Ali Pasha envisaged an Egyptian empire of might and wealth. To bring this wild dream into effect, schools were instituted, deserts reclaimed, factories built and a modern army assembled. In short, Egypt took off the worn out gown of the medieval ages for a scientific and modern outlook. Nonetheless, the shrewd leader overstretched his power, triggering a defiant union of heterogeneous European powers. Moreover, the imprudent fiscal management of his grandson, Ismail, led to Egypt’s bankruptcy and, eventually, its occupation. Egypt was pushed back to point zero.
After independence, came the romantic days of Nasser. The charismatic young officer sowed hope in Egyptian barren soil after seventy years of occupation and underdevelopment. He pledged the rise of an egalitarian society, the establishment of a viable economy, the creation of a formidable army and independence from the plots of superpowers. And much was, in fact, delivered in the course of fifteen years: the British were smoothly expelled, icons of foreign exploitation nationalized, an ambitious industrialization plan embarked on and regional leadership pushed to its limits. But as Machiavelli explained, great men do not know when to stop. Nasser’s national project was mercilessly shattered at the zenith of his success. To Egyptians, the humiliating defeat in 1967 was a painful eye-opener; they were shocked by the apprehension that Nasser’s political system was defective, for democracy was missing, and the ‘strongest army in the Middle East’ was nothing but a giant paper tiger. Inevitably, disappointment ran as high as expectations had initially reached.
Under Sadat, closing down prisons, introducing democracy, making regional peace and parting poverty became the official state slogans. Weary of conflicts and economic destitution, the country was ready to give the new leader a chance. But it soon turned out that Sadat’s version of democracy had fangs and claws, his peace with Israel gave the latter a free hand in subjugating more Arab land, and, perhaps more importantly, economic liberalization bred poverty instead of eliminating it. “1980 will be the year of prosperity”, Sadat had assertively promised, but affluence never came on a silver plate. A year later, Sadat was assassinated by his loyal boys on the October glory day.
Sadat was succeeded by Hosni Mubarak. A shadowy figure compared to his predecessors, the modest air force officer who had no political vision of his own, and little appreciation of historical processes opted for a less flamboyant leadership style. Grand plans were forsaken for less remote objectives, such as national reconciliation, amelioration of economic conditions and balance in foreign policy. But after twenty-five years in office, none of this materialized; the country’s social fabric is, day after day, more divided along class and religious lines, the economy is ailing and dependence on the United States is firmly rooted than ever.
In all these cases, a clear pattern could be effortlessly pinpointed, that of hopes abruptly vanishing and aspirations cruelly betrayed, leaving behind feelings of frustration, a shaken self-confidence and little faith in the future. Little wonder that the idiom ‘mafeesh fayda’ (no hope) is frequently heard in Cairo’s social gatherings and cafes’ chitchats, that dreaming of immigration has become so prevalent among youth and that people exhibit feelings of superiority and inferiority in unison. So, unsurprisingly, Egypt’s center, Cairo – ‘the city victorious’ in Arabic – was depicted by a Western journalist as “the city defeated”.
However, the analogy of the Cairo stadium debacle is not merely based on the remarkable resemblance of process, for substance is also relevant here. For hundreds of years, Egypt lost almost every competition with the developed world—in science, research, economy, diplomacy and war. Hence, there is no reason to anticipate a different outcome in sports. In effect, defeat in sports is a natural consequence of the county’s shortcomings on other arenas. That Egypt earned only one golden medal in the Olympic Games (the globe’s ultimate sports competition) since the 1950s should come, thus, as no real surprise. It is a drastic failure concomitant with deficiencies experienced on every other front.
These unrelenting and harsh defeats left deep scars on the nation’s psyche which, to tell the truth, explain the zeal displayed before the match against Barcelona and before any encounter with the omnipotent ‘First World’, with its supermen, hi-tech machines and invincible weapons. At stake, more than anything else, are the entrenched feelings of inadequacy and incompetence and the distant yet probable lure of breaking even with the triumphant West.
But what fans overlooked is that winning in sports follows development, not precedes it. Pity the Egyptian players who shouldered the failures of the nation, and were expected to fix the reverses of two centuries in 90 minutes. Suffice it to remind that today the GDP of Spain (a country once ruled by Arabs) exceeds that of all Arab countries combined, and that the income of Barcelona Club approximated 300 million euros last year (i.e. more than 2 billion Egyptian pounds), a figure that is - ironically – ten times the budget of the National Council of Sports.
At a local coffee shop, none of the comments made after the match were of any originality. Reflecting a mediocre sense of worth, lamenting our backwardness and the hundreds of solar years separating ‘us’ from ‘them’ dominated the low-spirited talks. Such commentary was reiterated after each and every military defeat, economic breakdown and scientific vulnerability the country had faced over the past two centuries.
The resilience of Egyptian people made them, occasionally, resist hopelessness, but the incessant recurrence of these defeats will continue to inject the society with an aura of bleakness, distress and indifference. And if no renaissance of any sort occurs, the next decades will, sadly, witness more defeats in Cairo Stadium and in more vital battlefields.
Nael M. Shama
جمهورية الأمن......والخوف
إذا هيأ الشطط في الإدراك والتفكير لأحد الأشخاص أن يجرب المشي فوق الماء ثم فشل فلابد أنه سيفكر ملياً قبل إعادة الكرة. وإذا كان هذا الشخص من الخبل بحيث يحاول إعادة المحاولة مرات أخرى فالمؤكد أنه سيدرك – ولو بعد حين – أن ما يرمي إليه غير قابل للتحقيق بقوانين الطبيعة ومنطق الأمور. الخلاصة أن الإنسان – ولو كان محدود الذكاء والتجربة – يتعلم من أخطائه، خاصة إن تكررت بشكل لا يدع مجالاً للشك في فشل التطبيق. ويعرف هذا الأمر كما هو معلوم بمفهوم "التجربة والخطأ". مناسبة هذا الحديث هو تفجيرات طابا الأخيرة – الثالثة في شبه جزيرة سيناء في غضون عام ونصف - والتي أظهرت فشلاً أمنياً ذريعاً في التعامل مع جماعات العنف السياسي، على الرغم - وهنا تكمن المفارقة - من أن الدولة قد اصرت على اعتماد سلاح الأمن في كل معاركها وتحدياتها تقريباً دون غيره من وسائل القوة المتاحة لديها.
فالفشل الأمني يأتي في وقت ازدهر فيه دور الأمن في السياسة المصرية، حيث صار عنصراً هاماً في معادلة كل القضايا السياسية، إن لم يكن الأهم. فالملاحظ أن النظام المصري يتحسب لأي قرار أو إجراء قد يؤدي إلى تعبئة الجماهير، أو إثارة القلاقل والاضطرابات، فرفع أسعار السلع الأساسية مثلاً يتم بالتدريج، وبشكل غير مباشر (كخفض حجم وجودة رغيف الخبز دون رفع سعره)، وفي توقيتات مختارة بدقة (كالأعياد الرسمية إذ تقل فرصة خروج مظاهرات مناوئة). يتجلى أيضاً الاهتمام بالأمن العام إلى درجة الهوس في الموازنة العامة، وأسلوب تخصيصها للموارد العامة، فقد أظهرت دراسة سامر سليمان المتميزة عن إدارة الأزمة المالية في النصف الثاني من عهد الرئيس مبارك زيادة نصيب وزارة الداخلية في الموازنة العامة على حساب قطاعات أخرى شديدة الأهمية للوطن والمجتمع كالتعليم والصحة، واللذان أهملهما النظام ليس لشح الموارد فقط، بل نتيجة لأولويات القيادة السياسية، وهي الأمن أولاً وثانياً وثالثاً، ثم تأتي بقية الأهداف والخطط في أسفل القائمة. كما أن الأمن يتدخل في الانتخابات بكافة أنواعها لدفع مرشحي النظام وإعاقة خصومه. والأمن متواجد بأكثر مما هو لازم في الحياة الثقافية والجامعية، حتى مباريات الكرة لا تقام قبل الحصول على موافقة الجهات الأمنية. أدى ذلك الوضع بالطبع إلى زيادة نفوذ الأجهزة الأمنية في الدولة وتعاظم تأثيرها في عملية صنع القرار السياسي حتى أن رئيس الوزراء الأسبق د.عزيز صدقي حذر من أن "وضع كهذا لا يمكن إلا أن يقود البلاد لكارثة مروعة، حيث لا صوت يسمع ويصل للقيادة السياسية سوي صوت الأجهزة الأمنية".
ووضع عنصر الأمن في الحسبان هو أيضاً القاسم المشترك بين تحرك الدولة المصرية في جميع مسائل السياسة الخارجية، وما إشارات الرئيس مبارك المتكررة إلى أهمية عامل "الاستقرار"، سواء أكان الحديث يتعلق بالقضية الفلسطينية، أو بالوضع في العراق، أو جنوب السودان إلا دليل واضح على المدى الذي وصل إليه الهوس الرئاسي بالأمن.
ومن المفارقات أنه في مقابل ازدياد دور الأمن في الحياة العامة، ازداد إحساس المواطن بعدم الأمان، إذ جاءته الضربات الإرهابية في كل مكان، فمن القاهرة، وهي العاصمة المركزية، وموطن أكثر الاستحكامات الأمنية تشدداً إلى أكثر المنتجعات السياحية انعزالاً في أقصى الشرق (طابا وشرم الشيخ ودهب) وأقصى الجنوب (الأقصر). ولم يقتصر الإحساس بعدم الأمان على من قصد منتجعاً سياحياً، بل امتد إلى من قاده حظه العاثر للإدلاء بصوته في يوم انتخابي عصيب، ومن فكر في التعبيرعن رأيه بالمشاركة في مظاهرة، أو اعتصام سلمي (وقد رأينا كيف هُتكت أعراض االناشطات في وضح النهار)، بل ولم يسلم المصلون في دور العبادة من الاعتداءات. وقد وصل هذا الإحساس للمواطن في كل مكان، فأصبح لا يحبذ دخول قسم الشرطة لأداء معاملة من أي نوع، بل ولا حتى المرور من أمام القسم، تجنباً لأي مضايقات "أمنية". وفي ظل وضع كهذا أصبح الإلحاح على ترديد تعبير "مصر بلد الأمن والأمان" يثير الغثيان عوضاً عن الفخر.
كيف يستقيم إذن هذا التناقض الصارخ بين إعطاء الأولوية القصوى للأمن في كافة مناحي السياسة المصرية، وبين انعدام الأمن العام كما أوضحت تفجيرات سيناء الثلاث؟ الإجابة تنبع في واقع الأمر من ذات السؤال. فالمنطق الأمني راح يفرض نفسه - عن عمد وجهل - بلا داعي في كل شئون المجتمع، وهو بالضبط ما ينبغي فهم أحداث سيناء من خلاله. فتناول ظاهرة الإرهاب من خلال عدسة "أمن النظام" فقط لن يجدي أبداً، والاستمرار في تجاهل الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية سيؤدي لا محالة إلى تفاقم الأزمة، تماماً كما أدى نفس المنطق - بشكل مباشر وغير مباشر – إلى استفحال كافة مشكلات المجتمع المصري، من تعثر عملية الإصلاح الديمقراطي، وغياب الحريات، إلى تدهور مستوى التعليم، وانحسار الدور الإقليمي المصري. مرد ذلك أنه في الأنظمة غير الديمقراطية لا يتطابق بالضرورة أمن النظام السياسي مع أمن المواطن، وفي كثير من هذه الحالات تنحاز الفئة الحاكمة لمصلحتها الشخصية على حساب مصلحة المجتمع والوطن ككل.
إلا أن الأمر هنا غير مرتبط فقط بالتفرقة بين مفهومي "أمن النظام" و"أمن الوطن" رغم صحته التامة، بل بحقيقة أن الإفراط في حماية النظام قد يؤدي في النهاية إلى الإضرار بأمن النظام ذاته، وما تجربة المواجهات العنيفة بين الدولة والجماعات المسلحة في التسعينات ببعيد. فقد أُعطي الضوء الأخضر للأمن، كي يستأصل شأفة الإرهاب، واستخدمت في ذلك كافة الأساليب الوحشية. لا شك أن ذلك صب في مصلحة النظام الحاكم مرحلياً، إلا أن الأثر الذي تركته تلك الممارسات على المدى البعيد كان في غير صالحه، فطال أمد الصراع، وتهاوت شرعية النظام، وازداد بالتالي إحساسه بالخوف وعدم الأمان، ليلجأ إلى الخيار الأمني مجدداً، وتستمر دائرة الخوف في الدوران.
بات واضحاً أن سيادة التفكير النمطي وغياب الخيال السياسي عن صناع القرار – وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية – يديم الصراعات الاجتماعية عوضاً عن حلها (وأزمات القضاة والصحفيين والأقباط خير نموذج). هذا المسلك لا يضر فقط بأمن الوطن والمواطن، بل وبأمن النظام السياسي أيضاً. وتعاطي الدولة مع انفجار طابا في أواخر 2004 دليل واضح، فالاعتماد على أجهزة الأمن فقط، وترك العنان لهم ليعيثوا في الأرض فساداً دون حساب، ولد احتقاناً شديداً انبثق من رَحِمِه انفجارات شرم الشيخ ودهب، وكلاهما لم يضر بالمجتمع والاقتصاد فقط، بل وبالنظام وهيبته وشرعيته واستقراره أيضاً.
للأنظمة السياسية في أيامها الأخيرة سمات مميزة، كالإصرار على تجاهل المنطق، والعناد، وقصر النظر، فتصبح كالدبة التي قتلت صاحبها وهي تحاول إنقاذه، أو كالمخبول الذي يصمم على الغرق في هوة سحيقة.
نايل محمد شامة
نُشرت هذه المقالة في جريدة العربي (بتاريخ 28 مايو 2006).
Tuesday, August 21, 2007
Superpowers? Or Dinosaurs in Politicians’ Minds?
So whatever the convictions American strategists and policy-makers may entertain about their country’s invincibility, empirical facts uncover the fallacy of their contentions. In fact, many factors considerably limit what scientific advancement, military superiority and economic expansion can actually attain on the ground. International norms and organizations, for instance, place limits on the ability to project military power, no matter how preponderant. The apparent inability of the United States vis-à-vis Iran – despite the unmistaken willingness to fulfill its well-defined, well-articulated objectives – is a clear case in point. The efforts of President Bush’s administration were partially hampered by the reluctance of veto powers in the UN Security Council to condone a resolution permitting the use of force against the Iranian regime. Before that, the US had failed militarily in Vietnam and politically in Iraq — both dramatically.
It is within this context that the interpretation of the recent events in the Middle East should take place. The kidnapping of three Israeli soldiers by the less-equipped less –potent militants of Hamas and Hezbollah revealed the grave vulnerability of the hitherto overconfident, even arrogant, Israeli army. Moreover, the failure of overwhelming force to compel the captives to release the valuable hostages and the huge losses it incurred on the battlefield added to the vulnerability an element of “humiliation”. Undoubtedly, vulnerability and humiliation can hardly be associated with invincibility.
Unfortunately, many Arab statesmen and intellectuals have surrendered to the ‘superpower’ logic that is the ability of the powerful to always make others, via coercion, inducement or co-optation, behave according to his wishes. As a matter of fact, so pervasive was this mentality in some policy-making circles that grand strategic planning and specific policy-formulation were in these states seriously plagued with this destructive mindset. The consequences were often fatal. But why is it the case?
The beacon is derived from political psychology. Political leaders, just like all people, do not always think and act in a flawlessly rational manner. Moreover, their most fundamental beliefs and opinions are, generally speaking, resistant to alteration and hardly adaptable to changes in the environment. In fact, politicians often make sense of the world by depending on a set of beliefs and images and continue to aim at maintaining consistency among the different facets of that predetermined paradigm. And since this mental construct is used for interpreting new situations, any information that is incompatible with the existing beliefs tends to be avoided. At the height of the Cold War, a cognitive approach to studying former US Secretary of State John Foster Dulles’s negative image of the Soviet Union showed his tendency to resist new information conflicting with his well-entrenched image of the Soviets by engaging in a wide range of psychological processes such as questioning the new information, searching for other contradictory information, reinterpreting the information, engaging in wishful thinking and even avoiding to think about it. So fixed and rigid was Dulles’s negative image of the Soviets that it resisted crystal-clear changes in Soviet behavior.
To many Arab politicians, likewise, the implications of incidents such as the humiliation and defeat of US forces in the quagmire of Vietnam, their embarrassing runaway from the dusty streets of Mogadishu, the absolute vulnerability the attacks of September 11 had demonstrated as well as the current debacle in Iraq are not thoroughly processed, for they contradict the established set of existing beliefs they held for decades, chief of them is their profound conviction in the invincibility of the omnipotent US empire. But on the other hand, events like winning the Cold War, the swift military successes in Afghanistan and Iraq and the overall superior political, economic and military capabilities of the United States are used to reinforce their initial assumptions and maintain the coherence of their mental paradigm. In other words, overlooking the first set while emphasizing the second is predominantly driven by their minds’ eagerness for sustaining coherence and consistency. Waves of similar psychological processes repeatedly take place with regards to what these same politicians perceive as the regional ‘superpower’ —Israel.
In the game of nations, infinite power is an illusion, so is the assumption of the inescapability of rational decision-makers. The peculiar way the mind functions; construing information, erecting illusionary castles out of oblivion and reducing unshakable facts to nothingness, makes it probably the only true “superpower” on the international chessboard.
Nael M. Shama
This article was published in The Egyptian Gazette on August 17, 2006.