ظهر مصطلح "الحرب
الباردة" في نهاية الأربعينات حين بدأت الإشارات تترى منذرة بتحول حلفاء
الحرب العالمية الثانية إلى فرقاء ألداء يتنازعون السيطرة على العالم، ويتقاسمون
النفوذ حول مناطقه المختلفة، دون الدخول في مواجهات "ساخنة" مباشرة. وفي
الستينات استخدم الأكاديمي الأمريكي مالكولم كير مصطلح "الحرب الباردة
العربية" لوصف الانقسام في النظام الإفليمي العربي بين ما اصطلح على تسميته
حينئذ بمعسكري "التقدمية" و"الرجعية". واليوم يدمى قلب المرء
حين لا يجد أفضل من تعبير "الحرب الباردة المصرية" لوصف ما يجري على أرض
الوطن من انقسام وفرقة، ونكوص عن مبادىء التوافق وأولويات الحوار إلى ساحات الحشد،
وميادين الصراع، وأبجديات التنابذ.
والواقع أن خصائص
وآليات الحرب الكونية الباردة التي شكلت جوهر تفاعلات العلاقات الدولية عير نصف
قرن تقريباً تتماثل مع نظيرتها المُطْبِقة حالياً على جسد وروح الوطن، والمكبلة
لطاقاته، والمهددة بفصم عرى العلاقة بين أبنائه. ويظهر ذلك في أربع سمات رئيسية
على الأقل.
أولاً: الاستقطاب
النفسي الحاد. فالاستقطاب السياسي الحالي يحاذيه (سواء كان سببه أو
نتيجة له) استقطاب نفسي عميق، يغذيه الشك، والارتياب، وسوء الظن، وعدم القدرة على
تجاوز حساسيات أيديولوجية وخلافات تاريخية. في ظل هذا الاستقطاب النفسي يشيطن كل طرف
الطرف الآخر، بينما لا يرى في نفسه سوى الحق والنزاهة وابتغاء مصلحة الوطن (فيما
يعرف في علم النفس السياسي بنظرية المرايا العاكسة (Mirror
Images) التي حكمت إدراك كثير من
ساسة الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي لبعضهما البعض أثناء سنوات الحرب
الباردة).
فالتيار المدني
يتهم الرئيس مرسي بالدكتاتورية (بينما يتهم أنصار الرئيس ذلك التيار بالانقلاب على
الديمقراطية وشرعية الصندوق)، كما يتهم التيار الديني بالفاشية (فيما يتهم بعض
أبناء ذلك التيار مخالفيهم بالكفر والإلحاد وما إلى ذلك من نقائص). والطرفان يصفان
بعضهما البعض "بالفلولية"، إذ يتهم التيار المدني جماعة الإخوان بعقد
الصفقات مع النظام السابق، وبالقفز من قطار الثورة مبكراً سعياً وراء مصالح سياسية
ضيقة، بينما يرى الإخوان أن التيار المدني تحالف مع فلول نظام مبارك في مواجهة
مرسي. كما يتبادل الطرفان اتهامات حمل واستخدام السلاح، والسعي لوأد الثورة وخيانة
اهدافها، والتملص من التزاماتها (كالعدالة الاجتماعية).
ثانياً: قيام
التحالفات على أساس أيديولوجي. فالملاحظ أن التيارات
الإسلامية من اليمين إلى اليسار اصطفت كلها تقريباً في معسكر واحد يدعم الرئيس،
ويوافق على الإعلان الدستوري، ويؤيد الدستور الجديد وخطة الطريق التي ستتبعه.
ويشترك في ذلك الأحزاب السلفية (مثل حزب النور وحزب البناء والتنمية) وحزب الحرية
والعدالة (الحزب الرئيس في التيار الإسلامي) وحزب الوسط. وذلك برغم أن هذه الأحزاب
لم يربطها من قبل تحالفات انتخابية، أو تحالفات سياسية ذات جدوى، وبرغم أن
الاستقطاب الحالي حول الدستور ليست له في العموم جذور أيديولوجية واضحة.
وعلى الجانب
الآخر من الصدع الوطني الكبير، اندرجت الأحزاب الليبرالية واليسارية والقومية
(إضافة إلى بعض فلول النظام السابق) في تيار واحد واسع، ليس هناك ما يجمع أطرافه
فكرياً سوى الإيمان العام ببعض مبادىء الديمقراطية، ومناصرة مفهوم "الدولة
المدنية"، ومناهضة استئثار تيار الإسلام السياسي برسم مستفبل البلاد.
ثالثاً: هيمنة
سلاح الإعلام. تتسم الحرب الباردة المصرية باستخدام الطرفين لسلاح الإعلام
والبروباجاندا السياسية، لأغراض الإقناع والتعبئة والحشد. وفي الحرب النفسية التي
يتم الاعتماد عليها لبث الثقة في الأنصار، وترهيب الخصوم، تستخدم وسائل الإعلام
بشكل كثيف لبث الشائعات، أو تسريب الأخبار، أو إطلاق قنابل الدخان لتشتيت الانتباه.
ويبدو الأمر أحياناً وكأن القوى السياسية المتنازعة قد استبدلت العمل السياسي على
الأرض بالتواجد الإعلامي عبر الأثير وعلى شبكة الإنترنت.
وتتضح بجلاء
محورية سلاح الإعلام في الصراع السياسي الحالي في كثرة الإشارة إلى دوره وتأثيره
من جانب الفرقاء، وخاصة التيار الديني، الذي ينحي باللائمة في الأزمة الحالية على التغطية
الإعلامية، ويصمها بالانحياز وغياب المهنية. ومشهد حصار مدينة الإنتاج الإعلامي (بل
والتهديد باقتحامها) من جانب بعض أنصار التيار الديني دال على اعتبارهم إياها
طرفاً أصيلاً في النزاع، وليس مجرد متابع محايد لها.
رابعاً: التلويح
باستخدام القوة. فكثير من تصريحات قادة التيار الديني تعبر - إن تلميحاً
وتصريحاً – عن الاستعداد للجوء للقوة إن لزم الأمر. فالملايين "تنتظر ساعة
الصفر" للتحرك كما قال أحدهم، و"بحور من الدم" ستتدفق "للدفاع
عن شرعية الرئيس" إن تم اقتحام قصر الاتحادية من جانب قوى المعارضة. أما على
الجانب الآخر، فحصار المتظاهرين لقصر الرئاسة والشعارات المرفوعة والمكتوبة غلى
الجدران تستعرض القوة والجسارة، وتعبرعن الرغبة في إزاحة الرئيس عن سدة الحكم، أو
تقويض سلطته، بوسائل الضغط والقسر المعنوي، حتى وإن ظلت سلمية في العموم. كما
يندرج تهديد المخالفين في الرأي والتوجه الأيديولوجي بالانتقام، وإعداد قوائم
"العار" التي سيطولها "العقاب"، في إطار سياسة التلويح
باستخدام القوة للتخويف والابتزاز.
وفي الحرب
الباردة يتم أحياناً استخدام مستويات محدودة من العنف ضد الخصوم السياسيين، وذلك إما
بشكل واع، أو بشكل لاإرادي منعدم الرشد، ناتج عن تأجج المشاعر وعدم القدرة على
التحكم في ردود الأفعال. مثال ذلك حرق العديد من مقار جماعة الإخوان المسلمين وحزب
الحربة والعدالة، والهجوم على مقر جريدة الوفد، والاعتداء الجسدي على رموز سياسية
من تيارات مختلفة (مثل أبو العز الحريري وصبحي صالح ومحمد أبو حامد)، وغلق مجمع
التحرير، ومحاولة تعويق سير مترو الأنفاق في محطة التحرير. هذه الأمثلة تبرهن على
غلبة منطق الصراع على منطق التعاون، ومركزية فكرة القوة المادية في أذهان أطراف
الصراع، واحتمالية الانزلاق مستقبلاً نحو مواجهات أكثر عنفاً وضراوة. وما اشتباكات
الأربعاء الدامي أمام قصر الاتحادية إلا نموذجاً حياً لما يمكن أن تصل إليه الأمور
إن لم يتم رأب الصدع، ونزع فتيل الحرب.
قد تتحول الحرب
الباردة إلى أخرى ساخنة إن استمر منطقها وآلياتها في صياغة المشهد السياسي المصري.
لذلك فإن كل الأطراف (وأولها الرئيس) معنية ومطالبة بتفادي سيناريو البارود والدم
الذي إن ساد فلن يبقي ولن يذر. فهل من مجيب لنداء العقل وصيحة حقن الدماء؟ أم أنه
لا حياة ولا خلاق لمن ننادي؟
د. نايل شامة
* نُشرت هذه المقالة بجريدة الشروق (بتاريخ 25 ديسمبر
2012).