ما كاد الصراع السياسي في مصر يصل إلى ذروته بعزل الرئيس السابق محمد مرسي
وفض اعتصامات مؤيديه حتى سادت في البلاد ملامح نسق فكري جديد، لا يرقى لمرتبة
الأيديولوجية، لكن دعائمه الفكرية والنفسية المختلفة ليست جزراً منفصلة بمكن غض
الطرف عن أهميتها وتداعياتها.
هذا النسق من التفكير والسلوك (الذي تدعمه توجهات النظام الجديد ويجد أرضية
واسعة في الشارع والإعلام ومؤسسات الدولة) يتبنى خطاباً وطنياً شعبوياً زاعقاً،
تتكاثر فيه الإشارات إلى الأمن ويقل الحديث عن السياسة، ويتغلب فيه منطق الصراع
وحتمية المعادلات الصفرية على إمكانيات التعاون والإدماج، كما أنه يميل إلى
استبعاد المخالفين، واصطناع الأعداء في الداخل والخارج. ويركز النسق الجديد على
دور الدولة لا المجتمع، إذ يحتفي بجهود الأجهزة الأمنية (وخصوصاً المؤسسة العسكرية)
في حماية الوطن من التهديدات، وينقب عن الزعامات المحتملة في صفوف العسكريين
دافعاً إياها إلى صفوف القيادة. لكن رياح "الوطنية الجديدة" في مصر تنذر
بعواصف وتقلبات عدة ينبغي التحوط من تداعياتها.
فأولاً، تحيط الغيوم بماهية غايات ذلك النسق، وما إذا كانت أدواته تصب في
خدمة أهداف (وطنية) عليا، أم في خدمة مصالح "نخبة حاكمة" تدافع عن
مكتسباتها الخاصة. فالخطاب الحالي يمثل في جوهره آلية للانتصار في معركة سياسية آنية
أكثر منه خطة واضحة المعالم لإدارة البلاد أو التخطيط للمستقبل. ومن أجل حسم
الانتصار في تلك المعركة المصيرية، تستخدم المشاعر الوطنية الجياشة كوقود لماكينة
سياسية وإعلامية تشرعن بلا هوادة إقصاء الآخر المنافس، تحت دعاوى التخوين
والعمالة. فمثلاً شيوع تعبير "هم ليسوا مصريين" في وسائل الإعلام
للإشارة إلى الإسلاميين هو المقابل الموضوعي لخطاب التكفير الذي ارتفعت وتيرته على
منصة رابعة العدوية عقب عزل مرسي. كلاهما خطاب يشيطن الآخر، وينزع عنه أهلية الرأي،
ومشروعية المشاركة في صوغ مستقبل البلاد، وبالتالي يوفر المبرر الأخلاقي للإقصاء
على أقل تقدير، أو حتى يسوغ توظيف العنف في الصراع السياسي.
وتتماهي وسائل الإعلام الرسمية والخاصة، ومعظمها يمينى الهوى، مع توجهات وأفكار
تعيد إلى الأذهان في شكل ما البروباجاندا
الفاشية التي ازدهرت في ألمانيا وإيطاليا في الثلاثينيات من القرن الماضي، من حيث
تعبيرها عن الرأي الواحد، وعدم اتساعها للتيارات الفكرية والسياسية كافة التي يموج
بها المجتمع، وترويجها لسيل من قصص المؤامرات والخطط السرية التي تؤكد أنها تحاك
لمصر، ومن حيث ادعائها أيضاً، الظاهر أو المستتر، احتكار الحقيقة، اضافة إلى احتفائها
بعسكرة الوطنية المصرية.
والمفارقة هنا أن ذلك الإقصاء الذي يتم باسم الوطنية وتحت رايتها ونشيدها
يقوض أسس الوطنية الحقة التي يبشر بها، والتي تؤمن بداهة بأن جميع المواطنين سواء
في وطن واحد يحتضن الجميع، ويرحب بمشاركتهم في العمل والبناء. وهو لذلك نموذج مشوه
للوطنية يفرق ولا يجمع، يكرس الشقاق ولا يخدم الوفاق.
ويلاحظ أن هذا النمط من الوطنية هش وسريع الزوال، فالمشاعر المهتاجة لا
تلبث أن تهدأ، واحتياجات المواطنين الأساسية لا يمكن تلبيتها لوقت طويل بالأغاني
الوطنية والخطب الرنانة وأحاديث المؤامرات الخارجية. فالوطنية الجديدة التي تعتمد على
تعبيرات هائمة عن الأمن القومي وتروج لمعركة ضد الإرهاب غير معروفة الحدود تختلف
عن الوطنية المصرية التي نشأت لمناهضة الاحتلال البريطاني في النصف الأول من القرن
العشرين، أو عن تلك التي ازدهرت أيام جمال عبد الناصر، الذي قدم مشروعاً قومياً
جامعاً، تمحورت خطوطه العريضة حول تحقيق الاستقلال الوطني والتنمية الاقتصادية
والعدالة الاجتماعية.
ومن ثم فعلى الجميع إدراك حقيقة أن اكتساب ثقة وتأييد الجماهير لا يمر عبر
بوابة الانتصار في معركة الإرهاب واستئصال شأفة الإخوان المسلمين، بقدر ما يتحقق
بالقدرة على إحداث تغيير حقيقي في حياة المواطنين، المثقل كاهلهم بأعباء اقتصاد
يترنح وخدمات متدهورة وأمن غائب. إضافة إلى ذلك، فإن تناقض بعض التوجهات الحالية
مع مباديء ثورة يناير يوميء إلى حتمية اندلاع صراع جديد بين النظام وشباب الثورة، ربما
يجيء أوانه حين تهدأ حدة المشاعر المعادية للإخوان، وتتضح فداحة ممارسات الأجهزة
الأمنية. وقد بدأت مظاهر ذلك الصدام مع ثوار يناير بالفعل في الظهور على السطح، متمثلة
في التوتر المتصاعد بين حركة 6 أبريل والنظام الحالي.
ولا يمكن إغفال العواقب الوخيمة لذلك النسق الفكري على التماسك والسلم
الاجتماعيين على المدى البعيد. إذ أن الإقصاء السياسي يوفر بيئة خصبة لإعادة إنتاج
الدولة الاستبدادية، ولازدهار ثقافة مجتمعية لا تتسامح مع المختلفين، سياسياً ودينياً
وطائفياً. وإن وجهت سهام الإقصاء اليوم للإسلاميين ومنتقدي الممارسات الحالية
فحسب، فإن آثاره ستمتد لا ريب في المستقبل إلى كل الأقليات، خاصة أن المجتمع يعاني
أصلاً من استشراء ثقافة متعصبة، تناهض الاختلاف، وتدين كل من شذ عن التيار العام،
أو عرض أفكاراً وتصورات مغايرة. وما تعرضت له المرأة والمسيحيون والشيعة
والبهائيون المصريون في الماضي القريب ليس بحاجة لتذكير، وأوجاع تلك الفئات تبدو مرشحة
للتفاقم في ظل هيمنة المناخ الحالي.
كما ينبغي الانتباه إلى كلفة الممارسات السلطوية التي تنبثق من هذا النسق
الفكري. فالوطنية الزاعقة تركز على "العدو" وأولوية محاربته، وتجعل من
الحديث عن الحقوق والحريات ترفاً يمكن إهماله، أو على الأقل تأجيله. والشاهد أن
أشد التجاوزات الماسة بحقوق الإنسان في مصر حدثت أثناء صراع الدولة مع الجماعات
الإرهابية في تسعينات القرن المنصرم. وفي شكل ما، تستدعى الموجة الوطنية الحالية
إلى الذاكرة مكارثية الخمسينات، وأجواء الحرب الأمريكية على الإرهاب في بدايات هذا
القرن. ويلاحظ تشابه المنطق ولغة الخطاب بين قادة النظام الجديد والمحافظين الجدد
في أمريكا، بخاصة الشعار الأثير "من ليس معنا قهو ضدنا"، الذي جاء
مضموناً لا نصاً على لسان أكثر من مسئول حالي.
يعلم الجميع أن الفاشية هي النموذج الفج لتمازج الوطنية والشوفينية
والعسكرة والسلطوية. ولئن لم يتم وقف الانزلاق الحاصل في مصر باتجاه تلك النزعات
الأربع، فقد نفاجأ يوماً بتحول الوطنية الجديدة إلى فاشية جديدة.
د. نايل شامة
* نُشرت هذه المقالة بجريدة
الحياة (بتاريخ 20 سبتمبر 2013).