حرص وزير التعليم ومحافظ الجيزة ومدير الأمن بالمحافظة في أول يوم دراسي
على اصطحاب نجلي اللواء نبيل فراج الذي استشهد في العملية الأمنية الموسعة التي
جرت مؤخراً في كرداسة من منزلهما إلى مدرستهما، وقاموا بمرافقتهما حتى باب فصلهما،
وذلك "للاطمئنان عليهما" بحسب وصف جريدة الأهرام. وأثناء الزيارة بكى
الوزير من فرط التأثر على والد الطفلين، شهيد الوطن الذي سقط في معركة الدولة ضد
الإرهاب. بالتوازي مع ذلك، سقط مئات المصريين في الصراع السياسي الدائرة رحاه منذ
منتصف أغسطس الماضي، لم يستمع ذووهم إلى كلمة مواساة أو عزاء واحدة.
تحظى الدولة المصرية التي أنشأها محمد علي وعمقها جمال عبد الناصر بطبيعة أخطبوطية
وميتافيزيقية في آن، ففضلاً عن أن مؤسسات الدولة ومظاهرها موجودة في كل مكان، فإن حضورها
النفسي بالغ التأثير. إذ تحيط بالدولة هالة من الاحترام والتقديس، تمتد بالتبعية
إلى قادتها وموظفيها وممثليها. وفي اللغة الدارجة يشار إلى الدولة ومسئوليها
باعتبارهم "الحكومة"، سواء كانت الإشارة إلى رجال الشرطة أو مهندسي الري
أو موظفي الأجهزة المحلية أو حتى عمدة أي قرية وخفرائها.
وتاريخياً مزجت نظرة غالبية المصريين للدولة بين الخوف والخضوع والنقمة
والإعجاب المستتر (فيما يشبه متلازمة ستوكهولم الشهيرة). وطغي لعقود طويلة شعور
بأن الدولة هي الراعي (أو هي الأم والأب كما يتندرون)، وبأن غضبها لا سبيل
لمقاومته، ولذا فمن الأفضل تجنبه أو السير في ركابه. وقد ذكر قاسم أمين أن
المصريون يهابون السلطات أكثر مما يهابون المرض، كما عبر جمال الدين الأفغاني عن
دهشته من الفلاح المصري الذي يشق الأرض بفأسه باحثأً عن رزقه, لكنه لا يشق به صدور
ظالميه. وتحرص الدولة بدورها على تغذية هذا الشعور الراسخ بالمهابة، والتأكيد على
أنه بدون الدولة سقط الوطن ذاته، وبدون الحماية والرعاية، صار المواطنون عرايا في
مهب الريح.
سادت هيمنة الدولة الفعلية والنفسية حتى سقط كلاهما أو كاد في لحظة يناير
الفارقة في 2011. أجبر المتظاهرون الآلة الأمنية الباطشة على الانسحاب بعد أربعة
أيام فقط من المواجهات، ثم أسقطوا رئيس الدولة العنيد المتشبث بكرسيه بعدها
بأسبوعين. سقط حاجز الخوف العتيد، وصارت الهيبة القديمة هباء منثوراً، وبدا لوهلة
أن البلاد بصدد تغيير جذري في دينامية علاقة الدولة بالمجتمع، يزول بمقتضاه ذلك
الخضوع لإرادة الدولة، ويبشر ببزوغ قوى مجتمعية طال تعرضها للإقصاء والتهميش.
لكن ذلك الوعد ذهب سريعاً أدراج الرياح. فحتى في ذروة توهج يناير فرضت
الدولة وجودها، إذ عجز الثوار عن تقديم بديل لمبارك، وارتضوا بتولي المجلس الأعلى
للقوات المسلحة مقاليد الحكم. ثم فشل مرسي في عامه الكئيب في ترويض مؤسسات الدولة،
التي بدت وكأنها تتمنى فشل مشروعه، ولذا جاءت مشاركتها في 30 يونيو أمراً طبيعياً.
وبعد سقوط الإخوان، عادت الدولة سيرتها الأولى، تعيد بعث الروح في هيبتها، وتصمم
نظاماً ديمقراطياً على مقاسها (ديمقراطية لها أنياب كما قال السادات يوماً)، وتفرض
التغيير من أعلى فيما تكبحه من أسفل، ثم تستخدم القبضة الأمنية والآلة الإعلامية لتأديب
مخالفيها.
ويلاحظ أن هناك تشابهاً كبيراً في أفكار ومعتقدات الفئات الاجتماعية المنضوية
تحت لواء الدولة، إذ يتعاطفون مع الدولة، ويبررون تجاوزاتها، ويلعنون ثورة يناير
وثوارها، ويسمونها بالنكسة تارة وبالمؤامرة تارة أخرى، فيما يعتبرون أن 30 يونيو
هي الثورة الحق التي أعادت الأمور إلى نصابها الصحيح.
ومع عودة الدولة، ستظل الفئات المكونة للقاعدة الاجتماعية للدولة تحظى
بالدعم والمحاباة. فالمؤسسة القضائية ستحافظ فيما يبدو على مكتسباتها في الدستور
الجديد (خاصة وقد تبوأ أحد أبنائها موقع رئيس الجمهورية)، والمؤسسة العسكرية التي
ساهمت في إقصاء رئيسين للجمهورية في أقل من ثلاث سنوات صارت اللاعب الأهم في مضمار
السياسة المصرية، بل والعمود الأهم في هيكلها المقدس. وأغلب الظن أنه لن يجرؤ أحد
على الاقتراب من امتيازاتها، ولا حتى رئيس الجمهورية القادم. وأجهزة الأمن الداخلي
استعادت نفوذها، ولم تعد تشعر بالحرج من إعلان ذلك، حتى أن وزير الداخلية صرح في مؤتمر
صحفي بأن قطاعات مراقبة النشاط الديني والسياسي في جهاز الأمن الوطني التي توقفت
إبان ثورة يناير قد عادت مجدداً للعمل.
ورئيس الجمهورية الجديد سيأتي غالباً من صفوف المعسكر الدائر في فلك الدولة
وشبكات المصالح المرنبطة بها. وحتى إن امتنع الفريق السيسي عن الترشح، فهناك قائمة
من العسكريين السابقين أعلنت جهوزيتها لخوض السباق، وستنال على الأرجح دعم مؤسسات
الدولة الظاهر، أو على الأقل رضاها المستتر. يمكن في هذا السياق فهم تصريح ياسر
برهامي نائب رئيس الدعوة السلفية حين عبر عن اقتناعه بأن المرشح الرئاسي "يجب
أن يحظى بقبول مؤسسات الدولة".
هؤلاء هم أبناء الدولة، بهم تستمر رغم الإخفاقات، وعليهم تعتمد في الأزمات،
وبجهودهم تعود بعد النكسات. أما أيتام المجتمع الذين لا ظهير لهم بين جنبات الدولة
فهم خارج المعادلة، إما مهمشون وإما مضطهدون. فالحقوقيون مثلاً ينظر إليهم بشك
وارتياب، خاصة أن جوهر عملهم هو كشف تجاوزات الدولة. والإعلاميون المستقلون المغردون
خارج سرب الدولة (أحمد أبو دراع نموذجاً) فليس لهم مكان تحت سمائها. كذلك حال الفلاحين
والعمال رغم تدهور أحوالهم، واتساع كتلتهم العددية نسبة إلى حجم السكان. أما قضية
شهداء يناير والقصاص من قاتليهم فقد كادت أن تكون نسياً منسياً، خاصة مع الحط
الممنهج لقيمة الثورة التي سقطوا من أجلها.
للشعارات السياسية دوماً ظل من الواقع. ولئن عبر شعار "الشعب يريد
إسقاط النظام" عن روح ثورة يناير الحالمة بالتغيير، فإن أغنية "تسلم الأيادي"
الي تبثها الشاشات، ويغنيها طلاب كثير من المدارس في الصباح بديلاً للنشيد الوطني،
هي عنوان المرحلة الحالية وشعارها. الثانية نقيض الأولى، فالأيادي التي تسلم هي
أيادى الدولة، وبمعنى ما، فإن الأغنية ضمنياً تقول: فلتنقطع الأيادي التي تعادي
الدولة، وتتصور أنها قادرة على إزاحتها. وما بين صرخة يناير وأغنية يونيو تكمن قصة
الثورة المصرية، انتصاراتها وعثراتها ومآلاتها.
د. نايل شامة
* نُشرت هذه المقالة
بجريدة الشروق (بتاريخ 19 أكتوبر 2013).