وجد مسرح العبث السياسي في مصر فضاءاً واسعاً وموطناً وثيراً، يسري بها عن
متابعيه، ويضف البهجة الممزوجة بالحيرة والارتباك على أوقاتهم. يجتمع فوق خشبة هذا
المسرح الشىء ونقيضه، وتُلبس الألفاظ عكس معانيها، وتتبدل المواقف في طرفة عين، وترتسم
مساحة واسعة بين الخطاب والتطبيق، وتختفي أو تكاد رجاحة العقل وحصافة الإدراك. يتضاؤل
بؤس عالم روايات جورح أوريل العبثي قياساً إلى لامعقولية الواقع، وتناقضاته
الصارخة، ومآسيه المضحكة، ودعاباته المبكية.
تراجع المنطق في الفضاء العام خطوات، وتقدمت للأمام كل العلل النفسية
المناوئة للتفكير السليم، كحمى الخوف، وهيستريا المؤامرات، وداء التعصب، وسرطان
الكراهية. وحين تستشري كل هذه الأوبئة النفسية في مجتمع إنساني فلا غرابة في أن
تتبدل أولوياته، ومعاييره، ومفاهيمه. فتصبح السياسة مرادفة للأمن، ويتقزم الإعلام
متحولاً إلى مجرد أداة للدعاية، وتُجبر المعارضة الوطنية غلى التواري (فالمعارضة
خيانة)، وتصير "المصالحة الوطنية" مصطلحاً سيئ السمعة، ويضحى الاستئصال
هدفاً قومياً.
بداية، فإن معسكر السلطة زاخر بالتناقضات، والأمثلة أكثر من أن تحصى،
يتصدرها قانون للتظاهر أصدرته حكومة أتت إلى مواقعها بفضل التظاهر، وبينما يقبع
بسببه جمع من ثوار يناير خلف الأسوار يتمتع مبارك وبعض مساعديه الذين قامت الثورة
ضدهم بالحرية. ثم أن وزير الداخلية الحالي صار لا يشير إلى جماعة الإخوان المسلمين
إلا ناعتاً إياها "بالإرهابية"، على رغم أنها هي التي أتت به إلى منصبه.
أما المؤسسات الدينية الرسمية فتورطت حتى أذنيها في مستنقع السياسة، على رغم سابق
تأكيدها عدم جواز خلط الدين بالسياسة.
ثمة تناقض أيضاً بين الخطاب الرسمي المفرط في التفاؤل وبين الواقع الطافح بالأوجاع.
فبينما يعرب الفريق السيسي مثلاً عن تفاؤله بأن مصر ستصير "قد الدنيا" فإن
أوضاع البلاد صارت في بعض المناحي أقرب إلى كوريا الشمالية (التي يُحاسب فيها
المواطنون إن لم يصفقوا للقائد بالحماسة اللازمة أو لم يبكوا على رحيله بالحرارة
الكافية) من أي بلد آخر. لا أدل على ذلك من أن في مصر – بلد التنوير والعقل وإنتاج
الفكر - انبرى البعض مطالباً بمحاكمة دمى وطيوراً مهاجرة بتهمة التجسس، واعتقل
طلبة مدارس من فصولهم لحيازتهم أدوات مدرسية عليها شعارات فصيل سياسي معارض، وحُكم
بالسجن لأحد عشر عاماً على طالبات قاصرات تظاهرن بالبالونات واللافتات (فيما أفلت
السواد الأعظم من قاتلي المتظاهرين السلميين من القصاص)، وشُغل الرأي العام بقضية دور
"الكفتة" في علاج مرض الإيدز. أما حديث المسئولين المستمر عن
"العرس الديمقراطي" و"الاستقرار" و"هيبة الدولة"
المستعادة فهي أقاويل معلقة في السماء بلا وتد، لا سند لها في الواقع، ولا برهان
إلا على غيابها.
والواقع أن باكورة عمل السلطة الانتقالية كان وعداً لم يتم الوفاء به. فالبيان
الذي ألقاه الفريق عبد الفتاح السيسي في الثالث من يوليو الماضي مدشناً فيه خارطة
الطريق تضمن من بين نقاطه العشر "وضع ميثاق شرف إعلامي يكفل حرية الإعلام
ويحقق القواعد المهنية والمصداقية والحيدة وإعلاء المصلحة العليا للوطن"
بالإضافة إلى "تشكيل لجنة عليا للمصالحة الوطنية". إلا أن هذين الوعدين
اللذين التزم بهما جميع من وقفوا على المنبر يومها لم يتم تحقيقهما، ولا حتى
الشروع في ذلك، بل صارا نسياً منسياً. ويشبه الأمر كثيراً التزام ثورة يوليو في
بيان النقاط الست الشهير بإقامة "حياة ديمقراطية سليمة" الذي أعقبه في السنوات
الأولى للثورة انكباب محموم على العصف بالديمقراطية، وإلغاء الأحزاب، وإقامة بنية
نظام سياسي سلطوى عاش وأكل على ضفاف النهر وفي واديه لعشرات السنين.
وفي حين سوغ الفريق السيسي تدخل الجيش على قاعدة أن إزاحة مرسي "أنقذت
البلاد من حرب أهلية كانت مقبلة في غضون شهرين"، فإن هذين الشهرين تحديداً
شهدا سقوط أكبر عدد من الضحايا المدنيين في يوم واحد في تاريخ مصر المعاصر (يوم فض
اعتصامات أنصار مرسي)، فيما بلغ إجمالي عدد القتلى من الأطراف كافة في الأحداث السياسية
التي جرت في الفترة من 3 يوليو وحتى 11 نوفمبر فقط أكثر من 2200 قتيل (وفق إحصاء
ويكي ثورة)، وزاد عدد المصابين حتى 3 ديسمبر على خمسة عشر ألف مصاب. ومعروف أن
"الحرب الأهلية" وفق أغلب التعريفات العلمية هي تلك التي يسقط فيها أكثر
من ألف قتيل في صراع سياسي داخلي.
وعلى الجانب الآخر، فإن جماعة الإخوان المسلمين التي تتباكى منذ يوليو
الماضي على "الديمقراطية" و"الشرعية الدستورية" لم يُعرف عنها
في أدبياتها وسلوكياتها أي ولع خاص بتلك المفاهيم السياسية. فقد كان لمؤسسها
الإمام حسن البنا موقف بالغ السلبية من الأحزاب السياسية، ولا يزال موقف الجماعة
من الديمقراطية ملتبساً على رغم خوضها غمار الانتخابات النيابية منذ ثمانينات
القرن الماضي. كما أن الرئيس محمد مرسي قدم في عامه الكئيب نموذجاً فريداً في مزج الديكتاتورية
واحتكار السلطة بالخطاب الديني والمسوح الأخلاقية. أما ادعاء الجماعة
"المثالية" الثورية والسعي لتحقيق أهداف الثورة والتصدي لهيمنة العسكر في
السياسة فوعود كانوا هم أول من نقضوها إبان تولي المجلس العسكري حكم البلاد، حين
أدت مواقفهم "البراجماتية" إلى شقاق مع الثوار، وهجران لميدان الثورة، وانغماس
في بحر السياسة وتفاهماته ومواءماته.
أحوال الإخوان المسلمين تنطبق على غيرهم، إذ يعلم المتابعون للسياسة
المصرية بعد ثلاث سنوات من الممارسة العملية أن اللافتات والانتماءات الأيديولوجية
شيء والممارسة شيء مغاير (أو حتى متناقض)، فالليبراليون صاروا أقرب حلفاء المؤسسة
العسكرية، يؤيدون مطالبها في الدستور، ويطالبون قائدها علانية بتولي قيادة البلاد –
في ما يشبه الإعلان الرسمي للإفلاس، والتنازل عن الحكم المدني – ولا يحتجون كثيراً
على خنق الديمقراطية وانتهاك الحريات. وفلول نظام مبارك وجماعات المصالح المرتبطة
به صارت تتشدق الآن بالثورة وأهدافها، وتحتفل بها في ميدانها، وكأنهم صناع الثورة
لا أهدافها. وأغلب المثقفين اقترب من السلطة أكثر من اللازم، وانغمس في العمل
الإعلامي أكثر مما ينبغي، وانصرف عن الثقافة أكثر مما يحتمل.
***
ثمة عفن واهتراء شديد في فضاء مصر السياسي، فكل الأطراف مشاركة بكل نشاط في
سيمفونية العبث الرديئة، إما بالصناعة، أو التبرير، أو التواطؤ. وإذ تُنسب إلى الكاتب
محمد حسنين هيكل عبارة "بحر السياسة جف في مصر"، فإن بحر المنطق جف أيضاً،
وبحر الأخلاق صار أرضاً يابسة، إلا من بضع شجيرات تقاوم طوفان التصحر والهلاك. وبينما
تجف البحور كافة، يبقى جريان النيل الخالد رمزاً لديمومة الوطن، وشاهداً على تغير
أحواله، وباعثاً على الرجاء في مستقبل أفضل.
د. نايل شامة
* نُشرت هذه المقالة بجريدة الحياة (بتاريخ 2 ابريل 2014).