في المرحلة
المضطربة التي أعقبت الإطاحة بالرئيس الأسبق حسني مبارك، صك شباب الثورة المصرية
عبارة "الثورة مستمرة"، ورفعوها شعاراً في الساحات ومنابر التواصل
الإجتماعي، بعد أن بلغ بهم السيل الزبى وبلغ الأمل الحلقوم. واجه الشباب حينئذ
عواصفاً تنوء به تجربتهم الغضة: أحلاماً تتبخر، وأوهاماً تستعر، ودماءً تنهمر
بغزارة، وقتلة رفاقهم يفلتون بسلاسة ودعة من سلطان القصاص. فبعد ليل فبراير/شباط
2011م الذي لمعت نجومه "كدرر نثرت على بساط أزرق" جاء ليل آخر
"تهاوت كواكبه" بغتة فوق رؤوسهم. مثَّل استمرار فعل الثورة للشباب
ملاذاً آمناً، وعداً مكتوماً بأن في الإمكان استعادة الزمام، وامتلاك المبادرة من
جديد، ومواصلة السير نحو المقاصد التي دفعتهم للثورة ابتداءاً.
في مقابل هذا، جاء
رجال السلطة والسياسة ممن احتكروا لأنفسهم الحكمة والرؤية الثاقبة بقضهم وقضيضهم
على الشعار الوليد وفلسفته ومدلوله، رافعين في مقابله مقولة الشيخ الشعراوي
الشهيرة: "الثائر الحق يثور ليهدم الفساد ثم يهدأ ليبني الأمجاد". كانت
رؤية هذا المعسكر أن الاستبسال في رفع شعارات الثورة والنضال ما هو إلا نزق طفولي
يخلو من المسئولية، وغلو يفت في عضد الدولة في أحرج اللحظات. اعتبروا أن هؤلاء
الشباب وصل حبهم لفعل الاحتجاج حد الوله، ومن ثم باتوا يلهون بلعبة الثورة - ومن
ثم مستقبل الوطن - كما اعتادوا اللهو بألعابهم الصغيرة. أما الثورة في نظر الحكماء
فضرورة لا تلجأ إليها الشعوب إلا مكرهة، وحين تفعل فينبغي أن تكون لمرحلة مؤقتة قصيرة
يعقبها على جناح السرعة عودة إلى ميادين السياسة وتفاهماتها.
بيد أن تعمقاً
يسيراً في جوهر الأمور يثبت أن فطرة الشباب حديثي العهد بالسياسة تفوقت على "حكمة"
من أمضوا دهوراً في دروبها ودهاليزها. فالثورة ما هي إلا الإبنة اليقظة للهزيمة. والاعتقاد
السائد بين كثيرين بأن الهزيمة الأخيرة في عمر الوطن وقعت على أديم سيناء وفي سمائها
في صباح الخامس من يونيو لعام 1967م ليس إلا وهم كبير. إذ من ذا الذي يهيئه قصور
تفكيره ليتصور أن الهزائم تقع في ساحات الوغى وفي خضم مقارعة الجيوش والأسلحة
فحسب؟ الشاهد أن الهزيمة الحضارية – في المدارس والجامعات والمعامل والمصانع
والحقول – هي الأصل الذي تنبثق منه بقية الفروع. الهزيمة العسكرية فقط أكثر لفتاً
للأنظار وعصفاً بالقلوب، فيما تفلت الهزائم الأقل دراماتيكية عادة من الفحص، لكنها
تتوغل تحت الجلود وداخل الألباب إن امتد بها الزمان لتصير شيئاً من طبائع الأمور.
الهزيمة الحضارية
في مصر تبسط وجودها على كافة الأصعدة وفي كل الميادين. مثلاً كل مؤشرات التنمية في
السنوات الأخيرة تقذف بمصر في آخر القوائم، بداية بالمؤشرات السياسية كالديمقراطية
والشفافية وحرية الصحافة، ومروراً بمؤشرات التنمية البشرية والخدمات العامة
والسعادة ونمط الحياة، وانتهاءاً بمؤشر التعليم الذي يضعها في المرتبة قبل الأخيرة
بين دول العالم. ولئن لم تفلح الأرقام في بيان حجم الطامة ونذر الكارثة، فتكفي
الصور. ثمة مثلاً صور لآلاف في عمر الشباب يلقون بأنفسهم بكل استماتة في اليم
الأسود بحثاً عن فرصة للحياة على الشاطئ الآخر، وهناك صور الذين ضحوا يوماً بنور
أعينهم بحثاً عن الحرية، فسلبتهم السلطات حريتهم وكافأتهم بزنازين عطنة يرزحون
فيها كالموتى الأحياء. إضافة إلى صورة بانورامية واسعة لشعوب طحنتها المعايش،
ورافقتها خيبة الأمل كظلها، فصارت في أوطانها غريبة الوجه واليد واللسان، بينها
وبين السعادة آماد وآماد، لا تجد موئلاً من نوائب الدهر سوى الصبر الجميل.
بديهي أنه ليس من
مفر في مواجهة هذه الردة الحضارية الهائلة سوى تغيير سياسي واجتماعي ضخم وشامل
وسريع. أما سياسات التغيير التدريجي والحلول الوسط والتعويل على انتصارات صغيرة
هنا أو هناك فلن تسمن أو تغني عن جوع. بيد أن العقبة الكؤؤد في سبيل تحقيق ذلك هي
أن كل الأطراف الفاعلة في السياسة والمجتمع، كالدولة والجيش والأحزاب والإخوان
المسلمين والأزهر والكنيسة، قوى أبوية وصائية، مفرطة في المحافظة، تفضل الأسفار
بطيئة المسير، وتكره التغيير الواسع إذ ترى فيه شراً مستطيراً وتهديداً مباشراً لمصالحها
ونفوذها. ولذلك كانت انحيازاتها حتى في مفارق الطرق العظيمة لا ترتفع لحجم الخطر،
معبرة عن نفسها في شكل اختيارات باهتة وشعارات خجولة، من نوع "الإصلاح من
الداخل" و"مبدأ الخطوة خطوة" (اللذين ذاعا أيام مبارك)، أو مقولة
"البلد تحتاج رجلاً عسكرياً"، أي من داخل الأطر التقليدية للحكم (والذي
انتشر عقب الثورة لا سيما بعد عزل محمد مرسي).
الهزيمة إذن
هزيمتان: هزيمة فعلية تحاصر المرء أينما ولى وجهه على امتداد القطر وعلى مدى قرون
خلت، وهزيمة فكرية، إما لا تعترف بالواقع البائس هاربة من آلامه، أو متحايلة عليه
بشعارات الوطنية الزاعقة ومشاعر التفاؤل الساذج، أو أنها تعترف بالداء لكنها لا
ترى مداه وعمقه، ولذلك لا تعتقد أن الدواء يتحتم أن يكون جذرياً وعميقاً. فقط حزمة
من المسكنات مدعومة بتمتمات الدعاء والأماني الطيبة تفي بالغرض، وكفى الله السفن
في مراسيها شر الريح العاصف.
الثورة مستمرة
(بكافة أشكالها حتى الصمت البليغ) لأن الهزيمة مستمرة. فالثورة في جوهرها رد فعل
مباشر على الهزيمة، وعلى إنكار الهزيمة، وعلى تطبيع الهزيمة في الوجدان الشعبي،
والإعلان – قسراً أو تلميحاً – بأنه ليس في الإمكان أفضل مما كان وما هو كائن.
حين يتأمل المرء
كلمات موال "عدى النهار" المخضبة بالشجن والأمل معاً، قد يتصور أنه وُلد
من كنف الواقع الحالي. المفارقة أن الموال الذى غناه عبد الحليم حافظ (من كلمات
عبد الرحمن الأبنودي وتلحين بليغ حمدي) ولد من رحم هزيمة 1967م، وصار أغنيته
الرئيسية ورمزاً لعنفوان الإرادة في مواجهة نير الهزيمة المريرة. لكن
ليس ثمة أغاني اليوم تعترف بالهزيمة وترفضها بإباء وشمم، ولا نخب تنعي الواقع
وتصدح بكلمة الحق، ولا مؤسسات تعي أن الإصلاح الشامل ضرورة ملحة وإلا جرفنا
الطوفان. ليس ثمة سوى مهرجانات من التهريج الفج، وسيمفونيات مغشية بالابتذال
والنفاق السياسي، وفي جانب المشهد صرخة الشباب الناضحة بالحنق والرجاء: الثورة
مستمرة.
د. نايل شامة
* نُشرت هذه المقالة بموقع المنصة (بتاريخ
13 نوفمبر 2016).