ثمة قطاع كبير في النخبة المصرية بتعريفها
الواسع يدعو للإعجاب والحسرة في آن. أفرادها - رجالاً ونساءً - أناس أفاضل، حسنو
الخلق طيبو النفس، مسالمون ومهذبون، بعيدون عن الدنايا والصغائر، يعاملون الجميع
بالحسنى، ولا يعتدون على أحد. أكفاء في تخصصاتهم حقاً، منهم الأطباء والمهندسون
والصحفيون وأساتذة الجامعات وسائر تخصصات التكنوقراط. هم مواطنون مثاليون فيما
يبدو.
تراهم بالإضافة إلى ذلك يهرعون باستمرار لفعل
الخير وبذل الصدقات. تجدهم بنوايا صادقة وضمائر متقدة في مقدمة الصفوف إن احتاجت
إلى مجهوداتهم وحافظاتهم مستشفيات الأطفال أو مدارس ذوي الاحتياجات الخاصة أو القرى
الأكثر فقراً. ينفقون عن إيمان عميق بأهمية العمل الخيري في التنمية ورفع البلاء
عن المكلومين. كما أن حبهم للوطن يبلغ حد العشق. يرتبطون به ارتباطاً عضوياً لا
تنفصم عراه. تنخلع قلوبهم إن ألمت بالبلاد الملمات، وترقص قلوبهم طرباً لانتصاراته
وأفراحه.
لكن هل يكفي هذا؟
الواقع أن كل هذا يبقى مع بالغ الأسف هباءاً
منثوراً لا يغني ولا يسمن من جوع، ليس فقط لإنه غير مجدٍ في وطن أكل الدهر على مقدراته
وشرب، وتداعت عليه الأمم استخفافاً وطمعاً، بل لأن إسهاماتهم على سخائها ومشاعرهم
الطيبة على عمقها تعد جزءاً من مشكلة الوطن الأزلية لا حلاً لها.
الأزمة متعددة الأوجه. أولها - وأهمها - أن
جل مجهوداتهم غير مسيس، وتلك مشكلة كبرى. فما خرج عن نطاق السياسة - بإطارها
القانوني والحضاري والإنساني - خرج من الحياة برمتها، وبالتالي لن يودي أبداً إلى
تقدم، أو يفضي إلى نهضة. السياسة في واقع الأمر تشمل كل شئ في حياتنا، هي كسرة
الخبز وصحفة الطعام وكوب الماء وحبة الدواء ولفافة التبغ وضمادة العلاج وتذكرة الترام،
وهي السكن ومستوى الخدمات والأسعار والفساد والشفافية وكرامة المواطن، هي الماضي والحاضر
والمستقبل. ولذلك قال أرسطو منذ ألفي وأربعمائة عام أن الإنسان "حيوان
سياسي"، لأنه بعكس كل الكائنات الأخرى يتفاعل باستمرار مع غيره في إطار واقع
اجتماعي وسياسي، معتبراً أن الكائن الذي لا موقف وانتماء سياسي واضح له لم يسمُ
بعد لمستوى الإنسان الحق.
ولذلك فإن عملية تنحية السياسة عن أفكار
الناس وعن المجال العام الجارية على قدم وساق إنما هي عملية تحايل بامتياز (مهما
تمأسست بالوعد والوعيد، مستعينة بأدوات القوة ورأس المال وأفانين الكلام)، إذ هي تنحي
عن الحياة أهم ما فيها وتختصرها في مجرد شكليات وممارسات اجتماعية بروتوكولية كهز
الرؤوس وتنهدات الحسرة وتمتمات الأمنيات الطيبة. وعليه، فإن فعل الخير مثلاً ليس
منفصلاً أبداً عن جوهر السياسة، مهما بدا غير ذلك. فالعطاء ليس جنيهات تعطى للمريض
والفقير والمحتاج دون التطرق للأسباب التي أودت بهم ابتداءً لدائرة العوز والمرض.
لكن عالبية أفراد تلك النخبة لا يطرحون
تساؤلات أو يزنوا مسلمات أو يدعون لمساءلة، وبذلك فإن ما يفعله هؤلاء من
"خير" - وهو قطعاً مؤثر في أوساط واسعة من المجتمع - يديم أوضاعاً قائمة،
تظلم الإنسان وتنشر الزيف وتؤجل المستقبل. غاية ما يمكن أن تفعله هو تخفيف جزئي لألم
كاسح. كمن يعطي مريض الداء العضال دواءاً مخففاً للصداع، أو من ينعم على إنسان
مصلوب على سارية التعذيب بقطعة حلوى، يمضغها لهنيهة قبل أن يعاود الجلاد مهمته
السرمدية.
المعضلة الثانية هي أن هؤلاء لا يدركون هول
الموقف وفداحة الكارثة في هذا الزمن البائس الهشيم. مما يسهل من استغلال مشاعرهم
الطيبة من قبل السلطة، أي سلطة، اعتماداً على تشوش الرؤية واختلال المفاهيم. على
سبيل المثال، إن عدم القدرة على التمييز بين مفاهيم الوطن والدولة والنظام
والحكومة، وإلقائهم بالجملة في سلة واحدة، يمكن أن يجعل من حب الوطن مطية لتأييد
حاكم (أو جماعة حاكمة) قد يكون هو نفسه أحد أهم عوامل التردي المهيمن على الوطن. وبذلك
فهم - على مذبح الوطنية الشماء - يطعنون الوطن في عنقه بأريحية كستنائية وهم
يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
بالمثل، فإن المشاعر الدينية الجياشة يمكن
بناءً على مصالح النخبة الحاكمة تبديلها، أو توجيهها في إطار دون آخر، أو حتى
قلبها رأساً على عقب. لذلك وجدنا هؤلاء الطيبين المتعلمين تارة يؤيدون الحرب (لأن
الجهاد فرض)، وتارة يدعمون مسيرة السلام (عملاً بالآية الكريمة "وإن جنحوا
للسلم فاجنح لها")، تارة يدعمون الرأسمالية (فقد أقر الإسلام الملكية
الخاصة)، وتارة يدعمون الإجراءات الاشتراكية (ألم يقل الرسول أن "الناس شركاء
في ثلاث: الماء والكلأ والنار"؟). ثم هم تارة يًدفعون إلى دعم الديمقراطية
والتعددية السياسية، وتارة أخرى إلى الاعتقاد بأن الديكتاتورية هو أنسب نظام سياسي
لشعوبنا.
المشكلة أن هذه النخبة، وإن كانت صغيرة حجماً
قياساً إلى مجموع سكان الوطن، لكنها عظيمة تأثيراً بحكم أن أعضائها أفضل تعليماً،
وأكثر امتلاكاً للثروة، وأكثر ظهوراً في وسائل الإعلام وفي دوائر التأثير السياسية
والمالية. ليتهم أدركوا أن الوجود الإنساني في حد ذاته عبء، وأن التأثير مسئولية،
وأن التقاعس عن المسئولية جرم كبير، وأنهم يضرون من حيث أرادوا النفع. ألم نسمع
منذ الصغر عن الدبة التي قتلت صاحبها من قرط الوفاء منزوع العقل؟ فالتفكير والوعي
وإعمال العقل جزء من كينونة الإنسان وعلاقته بمحيطه، فلا قيمة لحب بلا وعي، ولا لإخلاص
بلا حصافة.
باستمرار الأطراف كلها في أداء أدوارها المرسومة
بلا تغيير، تستمر المسيرة الجنائزية الحزينة المهيمنة على حيواتنا منذ مئات
السنين: أوضاع مزرية تنوء بها القلوب، ونوايا طيبة لا مردود لها، وعجلة شرسة لا
تتوقف عن الدهس والهرس، وجوقة ترقص وتقرع الدفوف على لحن الإنجازات البالي، وتبشر
في قاع العتمة بنصر قريب، ووطن أحوج للتغيير يغلق بابه ويوصد مزلاجه وكأنه ليس في
الإمكان أفضل مما هو كائن، وسلطة تمتطي هودجاً أعرجاً في عصر الصواريخ والإنترنت فائق
السرعة. هل أخطأ ادوارد سعيد، ولو قليلاً، حين اتهم المستشرقين - مثل جيرار دي
نرفال وادوارد لين وجوزيف كونراد وسائر كتاب الخطاب الكولونيالي - برؤية الشرق من
زاوية استاتيكية تغفل حركة التاريخ فيه؟ على هذه الأرض ثمة أشياء لا تتحرك كثيراً.
لكن هذا المصير الذي تساهم هذه النخبة
الساكنة في استدامته ليس بالطبع قدراً محتوماً. ففي مقابل الجمود المهلك، يوجد
التغيير البهيج الذي هو جوهر الوجود الإنساني وسر تطوره. ذلك التغيير الذي شغل
كثير من الفلاسفة، من فلاسفة اليونان والصين منذ آلاف السنين، وحتى هيجل وماركس في
القرن التاسع عشر، وأنطونيو جرامشي وميشيل فوكو في القرن العشرين. يشمل هذا تغييراً
في علاقة الفرد بالدولة، وتغييراً في دور وكفاءة مؤسسات المجتمع، وفي القيم
الحاكمة للمجتمع، وفي العلاقات الإقتصادية بين طبقات المجتمع وعلاقتهم ببعضهم
البعض. هو باختصار تغيير مبتغاه مجتمع أكثر عدلاً وإنسانية ورحمة وسعادة ورفاهية.
ترى ما هو موقف هذه النخبة من تغيير كهذا؟ وإن هلت
بشائره، فما عسى يكون موقفهم من الصراع الذي سيتولد بالضرورة بين قوى التغيير
والقوى المستفيدة من بقاء الوضع الراهن؟ هل سيقفون في صف الماضي على حساب المستقبل؟
تلك أسئلة مثقلة بالهواجس والقلق، فعلى أرفف التاريخ المصري الحديث، نماذج عدة من كوارث
مريعة ساهمت بها النخبة المتعلمة، صمتاً وغفلة. ألم يرقص بعضهم إبان تنحي عبد
الناصر في خضم كارثة الهزيمة المريرة؟ ألم يساندوا قرارات السادات العنترية في
سبتمبر الغضب؟ ألم يلبثوا على أريكة الكسل لثلاثين عاماً وهم يتصورون أن صولات
وجولات مبارك في الفساد والاستبداد والتوريث هي "العبور الثاني لمصر"؟
***
شبه الفيلسوف اليوناني هيراقليطس التغيير
بالنهر. فكما يستمر النهر في التدفق والعطاء، وهي مسألة حتمية وأبدية، يجب أن يظل
التغيير عملية مستمرة. وإذا كان هذا حال كل نهر وكل حضارة، فما البال بنهرنا الآسن
الذي انطفأت فراديسه، وجفت غدرانه، وهرب اليمام من شاطئيه واستوطنت رياح السموم الوبيل
ضفتيه؟ وما البال بوادينا المنهمر بالحياة الميتة والليال الدوامس، أرض الثكالى
والمرضى، حيث الدماء مستباحة، والأرواح مهدرة، والعقل في سبات عميق، والناس تسقط
أعمارهم في مسيرة السعي وراء البقاء، أرواحهم معلقة في ذؤابة الألم، ومن شرفات
عيونهم يطل القهر والكمد .
لا وقت لدفن الرؤوس في رمال الخيلاء الكاذب، فلنبادر بالتغيير قبل أن تأتي نار سقر فلا تبقي
ولا تذر.
د. نايل شامة
* نُشرت هذه المقالة بموقع المنصة (بتاريخ 24 فبراير 2018م).