حين سئل الفيلسوف الصيني
الكبير كونفوشيوس قبل ألفي وخمسمائة عام عما كان سيفعل لو كان حاكماً للبلاد، أجاب
بوضوح وحسم: سأصلح اللغة. واستطرد موضحاً: إذا كانت اللغة غير سليمة، فإن ما يقال
ليس ما هو مقصود، وإذا كان ما يقال ليس ما هو مقصود، فإن ما يجب أن يُفعل لا
يُفعل، وإذا حدث ذلك، تتدهور الأخلاق والآداب، وتضل العدالة السبيل، ويصيب الناس
حالة من الارتباك العاجز. والحق أن المرء يحار حين يتأمل تدهور أحوال اللغة العربية المعاصرة ما بين
ميل إلى الاعتقاد بأن فساد الواقع هو الذي عاث في اللغة فساداً وميل مضاد يرى أن
فساد اللغة هو الذي ألحق ضرراً بالواقع، وهي حيرة يعقبها غالباً استدراك بأن
المسألة برمتها ما هي إلا جدلية دائرية الحركة: واقع أفسد تهتكه اللغة، ولغة
مبتذلة تعيد إنتاج تهتك الواقع.
غني
عن البيان أن أهمية اللغة لا تكمن فقط في أنها اداة للتعبير ووسيلة للتواصل بين
الناس، بل أيضاً في كونها - قبل أي شيء - وسيلة للتفكير والفهم والتأمل في أمر
الذات والمجتمع والكون. وبالتالي، فحين تكون اللغة فقيرة وخاملة أو آلية وارتجاعية،
وحين تكون مترعة بالعبارات الجاهزة والقوالب المعتادة والتعبيرات النمطية، فإنها تُفقد العقل
وظائف التأمل والتفكير والإبداع وتدفع به نحو فخاخ الإلقاء والمحاكاة والتكرار. بعبارة
أخرى، هنا لا يفكر العقل تماماً، بل يستدعي من مخزونه القائم ألفاظاً وأفكاراً
ويعيد ويزيد ويكرر في استعمالها، كالحمار يحمل أسفاراً. أيضاً، حين تفقد اللغة
وضوحها وصفاءها، يسهل استخدامها كأداة للتلاعب بالعقول وتضليل الوعي واستبدال ما
هو واقعي وحقيقي بما هو متصور ووهمي. ومن البديهي، كذلك، أنه في حين أن واقعنا
العربي - السياسي والاجتماعي والثقافي - يتغير بسرعة هائلة في عصر العولمة وثورات
الاتصالات ونظم المعلومات، فإن تحجر اللغة وغموضها يبقي العقل متأخراً ومنفصلاً
عما يدور في العالم وعاجزاً عن اللحاق بركبه. وبالطبع، فإن لكل ذلك تأثيراً ملموساً
على الهوية. ألم يكتب محمود درويش: من أنا؟ أنا لغتي أنا.
فساد
اللغة في الفضاءين السياسي والثقافي العربي واضح لكل عينين مدققتين. على المنابر
والقنوات وصفحات القرطاس، ثمة كلمات وتعبيرات لا تعكس معانيها، بل يقصد بها معان
أخرى، وكلمات أخرى مائعة لا تعني شيئاً محدداً أو لا تعني شيئاً على الإطلاق،
وأخرى تحتفي بالنظم والنغم على حساب المعنى. مغبة كل ذلك هي نزع المعرفة عن اللغة
وتحويلها إلى محض أداة استعمالية لتحقيق أهداف وحصد مغانم. الأمثلة في تاريخنا
المعاصر لا تحصى كثرة. مثلاً، إلحاح الأنظمة العربية التقدمية في خمسينات وستينات
القرن العشرين في الحديث عن "الحرية" ترافق مع مغيب الحريات واستشراء
القمع. كان المقصود بالحرية شيئاً آخر هو "الاستقلال"، أي الاستقلال عن
الاستعمار والقوى الدولية، وليس الحرية بأي معنى سياسي أو اجتماعي. في نفس المرحلة
المترعة بالهزائم العسكرية، انتشرت كلمة "نصر" في كل مكان، شعاراً في
خطب الزعيم وبرامج الأثير ومناهج التعليم واسماً معلقاً على
واجهات المتاجر والشركات الحكومية ومناسبة لاحتفالات سنوية صاخبة. وعلى نفس النحو، وبعدما انقلبت الموازين
وتبدلت الشخوص، ذاعت كلمة "السلام" من السبعينات فصاعدا، على خلفية
استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وضم الجولان وغزو لبنان وقصف
العراق وتونس. مفارقة هي إذن لا يضاهيها سوى الكلام المتكرر عن
"الجماهير" فيما سمي تندراً "جمهوريات بلا جماهير". هذه تناقضات
تثير التساؤل: هل حقاً تنبع كل المشاكل، كما كتب ألبير كامو في رواية
"الطاعون"، من الفشل في استخدام لغة جلية وواضحة؟
بأية حال، نزفت اللغة على مذبح السياسة
ومصالحها وأيديولوجيتها، فالهزيمة النكراء نكسة، والثورة البيضاء مؤامرة،
والاستبداد الفج وطنية، وفداء الأوطان خيانة؛ باختصار، المحاسن نقائص والنقائص محاسن، عتمة الليل
نور وديجور الظلام ضياء. ويلاحظ أنه ما يلبث أن يعمد مسئول عربي رفيع أو أحد كتبته
المحظيين إلى صك وتكرار مقولة أو شعار ما حتى تتلقفها بسرعة البرق جيوش جرارة من المسئولين
والإعلاميين متواضعي الفكر فيلوكونه ويترنمون به أطراف الليل وآناء النهار حتى
يصبح جزءاً من الخطاب العام للدولة (وحتى المجتمع) مهما غمض معناه أو فسد مضمونه.
من أمثلة ذلك في التاريخ العربي الحديث تعبيرات مثل "الاشتراكية العربية"
و"اليمن السعيد" و"الثورة الخضراء" و"أخلاق
القرية" و"خادم الحرمين" و"أم
المعارك" و"أهل الشر" و"الأسد إلى الأبد". وكما أبان الروائي
والناقد الإنجليزي جورج أورويل (1903-1950م) في مقاله الشهير عن تداعي
اللغة الإنجليزية الصادر في عام 1946م، فإن استخدام التعبيرات الجاهزة يوفر الكثير
من الجهد الذهني لكنه يزيغ عن المعنى جاعلاً إياه غامضًا أو غير دقيق.
هنا يتجلى كيف يمكن أن تكون "اللغة فيروساً"، بحسب الكاتب الأمريكي ما بعد الحداثي ويليام بوروز (1914-1997م)، حيث تنتقل كالعدوى من شخص للآخر وتتغذى على العقل كالطفيليات ثم تعيش وتكبر وتتوسع بشكل يبدو مستقلاً عن البشر. بإمكان الوعي أن يداوي فيروسية اللغة، لكن السلطوية تغذيها وتعظمها، وذلك بميلها إلى شح المفردات وتماثلها وتوحدها ورفض التنوع والاختلاف. ألم تر كيف تعشق كلمات مثل "إجماع" و"اصطفاف"؟ ولذلك، فإن أولى خطوات التصدي للسلطوية بكافة أشكالها يكمن في تحديها باللغة: بالإفلات من لغتها الروتينية الجوفاء، وبالإصرار على تحرير المعجم وتوسيعه. عندئذ فقط، يهلك الإنسان الدمية ويزدهر الإنسان المفكر.
ثم هناك
الخواء الذي يُملأ بالكلمات. ففي بلاد العرب كلمات تقال وتعاد على سبيل العادة
والمواظبة أو التمثل والاحتذاء، لكنها لم تعد "تعني" شيئاً سوى التظاهر
بوجود شيء غير موجود أو فعال. ماذا يعني، مثلاً، الإيغال في الحديث عن
"الشعب" ودوره في "المسيرة الوطنية الكبرى" في حين يغيب الشعب
فعلياً عن كل شيء بما فيه المشاركة في صنع القرارات التي تحدد مصيره وترسم
مستقبله؟ الواقع أنه في أقطار عربية كثيرة، لم يعد هناك شعب بالمعنى السوسيولوجي
للكلمة، بل مجرد أفراد، نويات منفصلة منغلقة على ذواتها الصغيرة ومحتجبة عن أي
نشاط اجتماعي. وفي حين كان يتم استدعاء "الشعب" في زمن الجماهير الغفيرة
لأداء دور ما في الساحات العامة - تماماً كإكسسوار المسرحيات - صار ذلك غير ضروري
في عصر الإنترنت والقنوات الفضائية. إذ يكفي أن يحضر ممثلون عن الشعب على الشاشات
- في صورة مقدمي البرامج والضيوف الدائمين وكلاهما منتقى بعناية - ليعبروا عن رأي
الشعب ويتحدثوا باسمه. كذلك، ما معنى الحديث المكرر عن "تكريم المرأة"
في مجتمعات أبوية وصائية تحرم فيه المرأة من بعض حقوقها، وتحصل على البعض الآخر
بشق الأنفس؟ يفترض باللغة التعبير الصادق عن الواقع، لكن حين يحدث العكس، يشيع
الاغتراب ويكتشف الناس، بوعي أو بلا وعي، أن الحقيقة لا تقبع في اللغة، بل في مكان
آخر. ولذلك تزدهر اللغة العامية، أو حتى العامية السوقية، كإطار يمكن من خلاله
تعويض تقاعس اللغة الرسمية، مصداقاً لقول الشاعر: أنا المنفي في لغتي .. باللغة
انتقمت من الغياب.
في
مقابل التكرار المخل، ثمة فقر لغوي صارخ، ومفردات وعبارات تكاد أن تكون ممنوعة من
التداول، وبيئة سياسية وثقافية لا تحض على الخيال والابتكار في مجال اللغة
والخطاب. مسترجعاً ذكرياته أثناء الحكم الفاشي لإيطاليا، يحكي الفيلسوف والروائي أومبرتو إيكو
(1932-2016م) أنه تصفح جرائد الصباح عشية سقوط موسوليني في عام 1943م، ففوجيء -
ببراءة الأطفال - بقراءة مفردات لم يسبق له أن سمعها من قبل، مثل
"الحرية" و"الديكتاتورية". بالمثل، وبعد مرور سبع عقود ونيف
على سقوط الفاشية في أوروبا، توجد دول عربية لا تتداول فيها تقريباً كلمات مثل
"الديمقراطية" و"المجتمع المدني" و"حقوق الإنسان"،
وإن ذكرت، فإن ذلك يدور في إطار من الاستقباح والاستهزاء، لا المدح والاستحسان.
وتجديد الفكر واللغة، بالمثل، إما ممنوع أو محدود في علوم الدين، اتكاءاً على قواعد
فقهية راسخة تقدس اللفظ القديم بحذافيره مثل "لا اجتهاد مع النص"
و"العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب".
ولا يقتصر الإملاق اللغوي على متون اللغة السياسية أو الدينية، بل انبسطت أجنحته على اللغة الاجتماعية أيضاً. فالمتابع للبرامج الفنية والرياضية العربية، لا يرى لغة حية نابضة، بل كلمات وجمل مستهلكة وصور مقولبة تكررت على ألسنة المضيفين والضيوف آلاف المرات، عقوداً وراء عقود، ولا تعبر عن المقصود بأفضل طريقة أو حتى لا تعني في حقيقة الأمر أي شيء على الإطلاق. لقد تقلص بلا شك حجم معجم اللغة الاجتماعية الفصيحة ونقص عدد المضطلعين بها والمتمكنين منها. خذ/ي كمثال كلمة "مكتبة" التي باتت تستعمل للإشارة إلى ثلاثة أشياء مختلفة: المكتبة العامة أو الجامعية؛ ومتجر بيع الكتب؛ وحانوت الأدوات الدراسية (حيث تباع الأقلام والكراريس)، في حين أن في الإنجليزية كلمة مختلفة لكل منها (library-bookstore-stationary). كذلك تستعمل كلمة "مطعم" ككلمة جامعة، أو وعاء عام يشمل أشياءاً مختلفة. العلة ليست في فصاحة اللغة العربية التي يوجد في دوحتها مترامية الأطراف ومرعاها الخصيب ما يفيد الغرض ويزيد (مثلاً: قرطاسية - مقصف)، ولذلك قال حافظ إبراهيم على لسانها: أنا البحر في أحشائه الدر كامن. ولكن العلة تكمن في التفكير الذي تعطل، والببغائية التي استشرت، واللغة التي ضاقت علينا بما رحبت. يتسق هذا مع ما طرحه عالم اللسانيات البريطاني بازيل بيرنشتاين (1924-2000م) من تمييز بين شفرتين لغويتين: "الكود المفصل"، حيث اللغة واسعة وخصبة ومترابطة ومعبرة؛ و"الكود المحدود" حيث المعجم مسلوب الخصب واللغة ضعيفة ومفككة وتراكيبها عاجزة عن التعبير.
ومن علامات فساد اللغة العربية، أيضاً، ذلك
الولع الشديد بالسجع، والنزعة المستمرة إلى الإفراط في استخدامه ولو جاء على حساب
المعنى. هذا نتاج إرث قديم امتدت ظلاله حتى عصرنا الحاضر. فالأمثال الشعبية وعناوين
أغلب الكتب القديمة (وحتى نصوصها) اتخذت هذا المنحى، بما فيها تلك الحديثة نسبياً،
أي الصادرة في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين (مثل "تخليص الإبريز في
تلخيص باريز" للطهطاوي و"البيان في الإنجليز والأفغان" لجمال الدين
الأفغاني و"طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" لعبد الرحمن الكواكبي). الأزمة
في التراكيب السجعية أن القائل والسامع يطربان للإيقاع والنغم دون الالتفات لفساد
المعنى. وإلا كيف يمكن أن نفسر انتشار شعار مثل "الحجاب قبل الحساب"،
والذي يفتقر لأي قوة إقناعية أو أساس معرفي سواء أكانت مرجعيتنا دينية أو قانونية
أو منطقية؟ من أمثلة ذلك أيضاً القول أن صراعنا مع إسرائيل "صراع وجود لا
حدود"، وكذلك، من عالم الأمثال الشعبية، الزعم أن "ضرب الحبيب مثل أكل
الزبيب" وأن "العلم في الراس مش في الكراس" (ومقابلها بالفصحي
"العلم في الصدور وليس في السطور"). بالتكرار، جيلاً وراء جيل، يودي
الولع بالسجع إلى منزلق التفكير بالسجع، فلكل موقف أو حدث طازج إجابة معلبة جاهزة
ذات جرس موسيقي أخاذ ونافذ، لكنها متهافتة المعنى وضعيفة الحجة وسيئة العقبى.
إلام تشير كل هذه الأنساق والأمثلة؟ تشير إلى أن لغتنا
غنية ورحبة - وقد وصفها السلف من أهل البيان باللغة الإعجازية - لكن تفكيرنا ضيق
ومهلهل، سادر في غياهب التقليد، موغل في الشكل وتائه عن المعنى. كما تشير إلى أن ثمة ميراثاً ثقافياً وواقعاً
سياسياً أسهما في إفساد اللغة عبر إحلال التكرار والمحاكاة محل
التفكير والابتكار. هكذا السلطة، بمقدورها التلاعب باللغة بغية تضليل الوعي وترويج
المغالطات وتجميل القبائح ونسيان الماضي وتبرير الأخطاء وإيجاد كباش فداء.
وبالتبعة، أدى فساد اللغة وقصور التفكير إلى إعادة إنتاج الواقع البائس. فاللغة
يمكن أن تستخدم لكل من الإظهار والإخفاء، لتحفيز التفكير ولتثبيطه، لإيقاظ الوعي ولإنامته.
والاختيار لنا: فإما لغة نتحرر بها ونعلو وإما لغة نُستَعبد بها ونهوي.
د. نايل شامة