ما إن بدأت الدبابات والمقاتلات والسفن الحربية الروسية في تصويب نيران
مدافعها نحو جارتها، وارتفع منسوب القلق من التأثيرات المحتملة للحرب على الاستقرار
والاقتصاد العالميين، حتى ارتفعت في أوساط المجتمعات العربية أصوات لا تخفي إعجابها
بالرئيس الروسي بل وتأييدها لعدوانه على أوكرانيا. على سبيل المثال، وقع العشرات من
المثقفين وقادة الرأي من مصر وعدة دول عربية على بيان أدانوا فيه الحملة الغربية
على روسيا معتبرين أن النظام الرأسمالي العالمي "لا يجد مخرجاً من أزماته إلا
بسفك الدماء ونهب ثروات الشعوب"، وعوضاً عن إدانة الغزو الروسي، أعلنوا عن
تفهمهم "الكامل" لمتطلبات روسيا الأمنية. كما انتشرت على منصات التواصل
الاجتماعي المختلفة وسوم أعرب من خلالها الكثيرون عن دعمهم أو على الأقل تعاطفهم
مع الدب الروسي وحوافره الطويلة المدببة.
الحرب حدث جلل مزلزل ينذر بأبشع المآسي
الإنسانية. فكيف طاوعتهم قلوبهم على تأييد غزو عسكري صريح عصف بسيادة دولة مستقلة
ووضع حياة الآلاف على المحك ودفع الملايين على النزوح من ديارهم بل وهدد بوضع
العالم بأسره على شفير مواجهة نووية؟ ألا تأبى الفطرة السليمة البغي والعدوان
بكافة أشكاله وتميل إلى التعاطف مع المغدورين والمستضعفين أياً كانوا وحيثما أقاموا؟
كيف يمكن أن نفسح لهم جانب العذر؟ لا محيص إزاء هذا العجب والاستنكار عن طرح
سؤالين رئيسيين: لماذا هذا المسلك؟ ولماذا انحرف هذا المسلك عن جادة الصواب وطبيعة
البشر؟ تقتضي الإجابة عن هذين السؤالين أن نعرج على علم النفس وأن نصحبه في جولة
في دروب وأزقة القوة والقانون والغرب وإسرائيل الكامنة في العقل العربي.
في دراسات علم النفس حديث
طويل عن عقدة النقص والوسائل الدفاعية التي يستعملها الأفراد (وكذلك المجتمعات) للتملص
من شدتها. يقول المتخصصون في التحليل النفسي - لاسيما عالم النفس النمساوي المرموق
ألفريد أدلر - إن من أهم هذه الوسائل التعويض؛ عقدة الفقر تعوَّض بالمال والدونية
بالتفوق والضعف بالقوة. كان نيتشه مثلاً ضعيفاً عليلاً لكنه أغرم بفلسفة القوة وبشر
بالرجل السوبرمان. ولا تفتر همة الإنسان أو تتوقف مساعيه لنيل الراحة النفسية إذا
تعذر التعويض المباشر عن النقص الموجود، بل يلجأ إلى وسائل دفاعية أخرى، مثل الاقتراب
ممن يملكون ما يفتقد إليه واستعارته منهم معنوياً من خلال هذه المخالطة؛ أو إسقاط
مشاعر النقصان الداخلية على طرف آخر، فيما يعرف بنظرية "كبش الفداء"؛ أو
الانسحاب من الحياة والاستقالة من تحدياتها بالكلية.
للضعف واليأس إذن تبعات نفسية وذهنية وسلوكية. وقد أوغلنا في بلاد العرب في
تجرع كليهما حتى الثمالة: فشلنا في معركة النهضة وتحدي العلم، ويئسنا من تحرير
وشيك لفلسطين، ورزحنا تحت وطأة التخلف والاستبداد والفقر لقرون طوال. تبلور لدى
بعضنا بالتالي إعجاب عميق بالقوة ليس فقط لأننا لا نملكها بل لأننا لا نملك حتى
الأمل في امتلاكها في يوم قريب. ولأن الأمل مفقود في أن نستعيد مجدنا التليد، يوم
كنا "سادة العالم" كما يقال في الأدبيات العربية، فقد ارتضى بعضنا البحث
عن وكيل قوي يلتحق بردائه فتمده قوته بوهم القوة وسكينة خدرها. فعلوا هذا وهم يزينون
الأمر لأنفسهم قائلين: ومن يدري؟ لعل الوكيل المرتجى نعائمه يقبل أن يحارب بدلاً
منا، ويقتص من أولئك الذين تفوقوا علينا وأذاقونا علقم الخسران مرة بعد الأخرى.
ولا ينبغي أن يخفى على
أحد أن في الإعجاب المستتر بالقوة منزوعة الحق والمنطق انعكاس لعقدة أخرى دفينة.
إنها عقدة "الرجولة" المجروحة في مجتمعات ذكورية تعلي من شأن الرجل
وتتغزل، سراً وجهراً، في فحولته وقوته. لكن خمر القوة تبخر في زوابع الواقع مرة
تلو الأخرى، وعلى رؤوس الأشهاد، حين شهد الرجال "اغتصاب" فلسطين وضياع
الأرض "البكر" وهيمنة "أنصاف الرجال" على مقادير الأمور دون
أن تحرك قوتهم المتصورة ساكناً أو تبدل واقعاً. صارت القوة شهوة عاصية، نار تندلع
وماء ينقطع.
الأمر كما هو واضح منبت الصلة بنفسية المقهورين الذين هجروا الأمل وهجرهم
وغصت نفوسهم بالمرارة فانغمسوا في معانقة أقدار بائسة يرون أنه لا فكاك منها. في
أيام الحرب العالمية الثانية، مثلاً، تطلع نفر من المستَعمَرين على يد الإنجليز
بإعجاب إلى القائد النازي هتلر، آملين في أن يربح الحرب والعالم ويدحر من ثم
الاستعمار الانجليزي الجاثم فوق صدورهم. إلى هذا الحد من السذاجة يمكن أن تدفع عُقَد
المرء أفكاره: أن يعتقد أن النازيين الذين أشعلت طموحاتهم الإمبراطورية نير حرب
عالمية يمكن أن يصبحوا من دعاة الاستقلال الوطني وتحرير الشعوب. اليوم يعيد ورثتهم
في الحنين إلى القوة الكرَّة مرة أخرى: يراهنون على روسيا متوهمين أن بوتين -
الحالم بالمجد القيصري الذي تقمص طيرانه دور طائر الموت في سوريا - قادر على التصدى
للهيمنة الغربية وراغب في منح القضايا العربية، عن طيب خاطر، زخماً أكبر في النظام
الدولي. ولو جالت بخاطرهم لهنيهة فكرة أن ثمن دعم الغزو الروسي هو التضحية بمباديء
القانون الدولي، لطردوها سريعاً. أبناء المجتمعات التي لا يُحترم في قلبها القانون
المحلي لن يكترثوا كثيراً بالقانون الدولي في ما وراء البحار.
هو نمط من التفكير - أو بالأخرى حالة من الوجدان - تملأ الثقوب كلاً من
صلاحيته ومشروعيته. حديث المصلحة متعدد العناصر، ويتضمن أن قاعدة "عدو عدوي
هو صديقي" قد تلائم نزاعات الطفولة البريئة، لكنها أبسط كثيراً من أن تصلح كبوصلة
للإبحار في خضم عالم معقد ومتشابك. كما أن بوتين ليس قائداً لحركة تحرير أو مناضلاً
يروم العدل في الأرجاء، بل ديكتاتوراً لا يتورع عن دس السم لمعارضيه والإغارة على
جيرانه. ثم أن الاستقرار العالمي وصل من الهشاشة إلى درجة لا يصبح فيها من الحكمة
دعم ما يزيد من ضعفه ورخاوته. فضلاً عن ذلك، فإن دعم القوة الغاشمة من حيث المبدأ
يفرز معضلة كؤود: إذا كنا سندعم نظاماً دولياً تكون السيادة فيه للقوة فحسب، دون
وازع من قانون أو احترام لسيادة الدول، فسنكون نحن أول من يكتوي بناره لأننا ببساطة
لا نمتلك من القوة مثلما نمتلك من الحق. ولذلك، فحتى في السعي المحض وراء المصلحة،
مثلنا يجب أن يكون رهانه على الحق لا القوة.
الأهم من صوت الواقع
هو صوت الواجب. ثمة مطب أخلاقي عميق يفرض عدة أسئلة. هل كان هؤلاء يشجبون احتلال
إسرائيل للأراضي الفلسطينية وغزوها لبنان والغزو الأمريكي للعراق فقط لأن المعتدى
عليهم جيراننا ومن بني جلدتنا، يتحدثون لغتنا ويدينون بديننا ويشبهوننا في الشكل
والملبس؟ أم كان موقفهم قائماً على قاعدة أخلاقية صلدة هي استقباح العنف والغزو
والاحتلال وشجبه دائماً وأبداً؟ بعبارة أخرى، كيف يرفض المرء العدوان الإسرائيلي
ثم يؤيد - أو يقبل أو يتعاطف مع أو يغض الطرف عن - العدوان الروسي دون أن يقع في
تناقض أخلاقي، بل ودون أن ينزع عن نفسه مشروعية كل اعتراضاته السابقة؟
غني عن البيان أن إشكالية العلاقة مع الغرب تفرض حضورها الثقيل على كل
الموضوعات، أمس واليوم وغداً وفي كل الأيام. لأسباب كثيرة، تمتد من الحملات
الصلبيبة قديماً وحتى معارك الاستعمار وإسرائيل والحداثة حديثاً، تولد تربص وتباغض.
عقداً وراء عقد وقرناً إثر قرن، استمر العداء وتواصلت الهزيمة واستحكم النقص، فانبثقت
أزمة واستحالت عقدة وباتت مركبة. ولأنها عقدة، صار البعض، بالفكر والسلوك، يعادون
بشكل ألي كل ما يفعله الغرب، فإن دلف إلى اليمين استداروا إلى اليسار، وإن انعطف
يساراً هرولوا يميناً، وإن وقف في مكانه اعتراهم الشك وضربوا أخماساً في أسداس. متحدثاً
عن المشروع الإسلامي، يقول المفكر خالد أبو الفضل: "بدلاً من أن يكون
الإسلام رؤية أخلاقية تقَدَم للبشرية، فإنه يتحول إلى نقيض للغرب"، وبالتالي
ففي هذا الإطار "لا يوجد إسلام؛ هناك فقط معارضة للغرب". ويتفق معه
الأكاديمي طارق رمضان قائلاً إنه "كلما كانت (الأمور) أقل غربية، كلما كانت
أكثر إسلامية". ولا يختلف الفكر اليساري في بلادنا كثيراً عن "شقيقه"
اليميني في مقاربة قضية العلاقة مع الغرب. ولذلك، ولأن الأزمة الحالية تحوي في أحد جوانبها مواجهة بين روسيا من جانب
والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من جانب آخر، فقد وجد هؤلاء أنفسهم لاشعورياً
في المعسكر المناوئ للغرب، يضمرون له العداء ويتمنون له الانكسار. يبدو الأمر وكأن وعيهم
بالذات لا يستمد إلا من خلال الوعي بالآخر، وكأن الرضا عن النفس لا يتحقق إلا عبر مخالفة
الآخر.
لا ينبغي السهو عن حقيقة أن الغرب ما عاد مفهوماً جغرافياً ولا اقتصرت
عضويته على العالم المسيحي، بل بات مفهوماً حضارياً واسع النطاق ومتشعب الميادين.
ولذلك شاركت دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة في حملة فرض العقوبات الاقتصادية
على روسيا. والواقع أن الشرق المسلم، وبعيداً عن ادعاء روديارد كبلينج منذ زهاء
القرن أن "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا"، جزء من الغرب تماماً كما
أن الغرب جزء من الشرق، ولو لم يشعر الطرفان بذلك. لكن التفكير القديم العائد إلى
زمن الحرب الباردة، أو ما قبل ذلك بعقود أو قرون، مازال مهيمناً ومعرقلاً. يقدم
الغرب نموذجاً حضارياً، ناجحاً، به مكتسبات وثغرات وتحديات، وأهم مكتسباته
الديمقراطية والحرية وحكم القانون وتوازن العلاقة بين الدولة والمجتمع، أما روسيا
ومن لفها من دول وأشباه دول فتقدم نموذجاً لاحضارياً يتصدره حكم الفرد المدعوم من
أخوية (brotherhood) تضم بارونات المخابرات وأباطرة الأعمال (أو السيلوفيكي والأوليجاركية
بلغة أدبيات السياسة الروسية) ويشيع فيه الاستبداد والفساد وحجب المعلومات. في
الواقع، يجمع نظام بوتين بين عناصر من الفاشية والشيزوفرينيا (schizo-fascism)، وفق وصف أستاذ التاريخ الأوروبي البارز، أو الأبرز، تيموثي
سنايدر. فأي النموذجين أجدر بالاختيار؟
وفي الخلفية، أو الصدارة، من إشكالية العلاقة مع الغرب تكمن عقدة أخرى هي
عقدة إسرائيل المزمنة. إنها لعنتنا المزدوجة: استيطان الأرض واستيطان العقل. وإذا
كانت اللعنة الأولى من صنع غيرنا، فاللعنة الثانية من صنعنا أو بالأحرى صنع بعضنا.
لعنة إسرائيل الثانية ترى العالم على اتساعه من خلال عدسة إسرائيل، فكل شيء يقاس
بمسطرتها، وكل تطور لابد أن له علاقة بها، وكل أزمة أو خطر يحدق بنا لابد أنه من
صنع أياديها الشيطانية. اللعنة الأولى هزيمة، والثانية عقدة ترتبت على الهزيمة.
على أهمية القضية الفلسطينية مادياً ووجدانياً، لا مفر من الإعلان أنها
ليست قضيتنا الوحيدة، بل وليست الأكثر مركزية لكل بلد عربي. قضيتنا المركزية هي
التخلف الحضاري وتأثيراته المختلفة على مجالات السياسة والاقتصاد والتنمية
والتعليم والبحث العلمي، وما هزيمتنا على أيدي إسرائيل إلا إحدى مظاهر هذا التخلف.
من زاوية أخرى، إذا كان حجر الزاوية في الاحتجاج على إسرائيل هو استخدامها القوة
منزوعة الشرعية لفرض إرادتها على الشعب الفلسطيني، فلدينا عشرون قضية مماثلة في
الوطن العربي. أكثر من هذا، فإن حل هذه القضايا من جذورها يعزز من قدرتنا على
مواجهة إسرائيل ونصرة الحق الفلسطيني. أما العكس، أي إبقاء جذوة القضية الفلسطينية
مشتعلة على حساب القضايا الأخرى، فيجعلنا نخسر كل القضايا من المحيط الأطلسي إلى
الخليج الفارسي مروراً بفلسطين، كما هو الحال منذ نيف وسبعين عاماً. فصل القول أن الطريق
إلى بغداد وصنعاء والرباط وغيرها لا يبدأ من القدس، بل أن الطريق إلى القدس يبدأ
من هذه العواصم.
***
ثمة هوة سحيقة في
الفضاء العربي. لا يمل القوم ليلاً ونهاراً من ترديد الحكمة العربية الشهيرة التي
تقول إن الرجال يُعرفون بالحق ولا يُعرف الحق بالرجال، ومن تكرار مقولة أن المبادئ
لا تتجزأ. كيف تناسى المؤيدون للغزو الروسي هذه العبارات المأثورة؟ أم أنها محض
كلمات؟ ما أبعد الشقة بين ما تنطقه شفاههم وما يختلج في قلوبهم، وما أقرب الصلة
بين ما يختلج في قلوبهم وما ترسب في أرواحهم.
حين تستبدل بالمنطق
الرغبة ويستعاض عن المعرفة بالإغواء، لن يبقى ماثلاً أمامنا، في الموقف من
أوكرانيا وغيرها، سوى أشباح فرويد وصحبه، يحدقون بنا ويشيرون علينا بالطريق.
د. نايل شامة