في الثامن عشر من يونيو 1953، تم الإعلان عن قيام
الجمهورية في مصر بعد قرن ونصف من الحكم الملكي الراسخ. لا يمكن بأي
حال فصل الجمهورية المصرية عن السياق التاريخي المحدد الذي نشأت فيه لاسيما كونها
إحدى الثمار المباشرة للتحرك الذي قامت به ثلة من ضباط الجيش في صبيحة الثالث
والعشرين من يوليو لعام 1952. ففي ذلك اليوم الفارق، استولى تنظيم "الضباط
الأحرار" بقيادة البكباشي جمال عبد الناصر على السلطة، مدشناً مرحلة جديدة، وممتدة،
في تاريخ البلاد. الانقلاب الأبيض الذي تحول لثورة مجازية - من أعلى - تحرك من
بدئه بخطى متسارعة، فأقصى الملك فاروق في يومه الثالث، ثم أطلق مشروع الإصلاح
الزراعي وحلَّ الأحزاب السياسية وأعلن قيام الجمهورية قبل أن يتم عامه الأول.
تتابعت العقود
وتبدلت الوجوه وتغير وجه الحياة، لكن الجمهورية الوليدة عمَّرت طويلاً. يُنظر على
نطاق واسع للمنظومة السياسية والبيروقراطية القائمة في مصر اليوم على أنها الوريث الشرعي
لعمليتي الهدم والبناء اللتان نفذتهما حركة يوليو بهمة عالية. الجمهورية القائمة
منذ 1953 حتى اليوم – والتي يطلق عليها في الأدبيات السياسية اسم دولة أو جمهورية
يوليو – هي الأولى إذن، إذ لم تفضي إلى قيام جمهورية ثانية، مختلفة عنها ومفارقة
لها. تطل هذا الشهر الذكرى
السبعون لقيام هذه الجمهورية حاملة معها عدة مفارقات عن المسافة بين البدايات والمآلات.
تتعلق أولى المفارقات بتحول الجمهورية المصرية من
"ثورة" تبغي التغيير إلى سلطة تتوسل الاستقرار. كانت جمهورية
يوليو في نشأتها مشروعاً كبيراً للتحديث الاقتصادي والتغيير السياسي والاجتماعي.
تضمن هذا المشروع هندسة اجتماعية واسعة، وخطة طموحة للتنمية، ودوراً إقليمياً يستند
على أفكار القومية العربية ومبادئ عدم الانحياز. بنهاية عقدها الثاني، كانت الجمهورية
قد أممت قناة السويس، وشيدت السد العالي والمصانع الثقيلة، وغيرت خريطة النخب
الحاكمة وتموضع الطبقات على السلم الاجتماعي. أما خارجياً، فقد هيمنت على النظام
الإقليمي العربي وامتد نفوذها إلى ما تعداه، خاصة في إفريقيا. حجم هذا التغيير ومعدله
هو الذي شرعن تسمية يوليو "بالثورة" بعد أن كانت توصف في شهورها الأولى
"بالحركة" فحسب. وكي يكتمل استحقاقها للقب، ولأن لكل ثورة دعوة أو رسالة
أخلاقية تتكئ عليها، فقد رفعت يوليو ألوية الاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية
والقومية العربية في الداخل والخارج.
لكن طموحات البدايات المسربلة بالأحلام العريضة ما لبثت
أن ذوت مثل ندى الصباح وحل محلها جمود لا يرى في الأفق أبعد من سماء الاستقرار. أصاب
الوهن الاقتصادي مفاصل الجمهورية فور أن سكنت مدافع حرب أكتوبر 1973، وفرضت
احتياجات إعادة البناء الداخلي تقارباً مع رأس المال الغربي والخليجي وتهدئة مع
إسرائيل. خفَّت السرعة وتوارت الدعوة وتماهت الألوان بين الثورة والثورة المضادة مع
بداية مسيرة السلام والهدوء والاستقرار. شيئاً فشيئاً،
مالت الجمهورية نحو التقاعس والتحجر. في السنوات الّاخيرة من القرن المنصرم، اعتبر الكاتب
الصحفي الشهير محمد حسنين هيكل أن نظام يوليو السياسي "شاخ على مقاعده".
وإبان ثورة يناير 2011، أنشد الشاعر
الكبير عبد الرحمن الأبنودي بيتاً من الشعر في قصيدة "الميدان" يلخص التوق
العام إلى تجديد دماء الجمهورية: آن الأوان ترحلي يا دولة العواجيز.
كانت مفردة "الاستقرار" كلمة الرئيس حسني
مبارك (1981-2011) الأثيرة، يرددها في أحاديثه العامة بحسبانها هدفاً أصيلاً
لحكمه. كما تعددت إشارات الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي (2014-) إلى ضرورة "الحفاظ
على الدولة". ومع أن الحفاظ على الدولة واستقرارها أمر محمود في العموم، إلا
أن تصريحات الرئيسين أومأت من طرف خفي إلى أن الدولة ما عادت مهمومة بالأهداف
الكبرى والغايات البعيدة، مثل النهضة أو العدالة أو الديمقراطية، ناهيك عن السعادة
أو الرفاهية، بل انكمش سقف طموحاتها وتقلصت أهدافها إلى محض البقاء والاستمرار.
من ناحية ثانية، كانت جمهورية يوليو منذ ميعة الصبا
"جمهورية بلا جماهير". رغم الخطاب الشعبوي والحديث الدائب عن
"الشعب" وتحالف قواه العاملة، اعتمدت الجمهورية على عقد اجتماعي، غير
معلن ولم يتم التفاوض عليه لكنه جلي للكافة، يقايض الحقوق السياسبة بالحقوق
الاجتماعية والاقتصادية. في ظل الثورة المجازية، نال المواطنون – مجازاً أيضاً – سلعاً أساسية مدعمة وتعليماً ورعاية صحية مجانية وحق
التوظيف في الجهاز الإداري للدولة بعد الحصول على شهادة دراسية، لكنهم حُرموا من
حقوق الرأي والتعبير والتنظيم السياسي. لكن الجمهورية سرعان ما عجزت عن الوفاء
بواجباتها وفق هذا التعاقد (بسبب عجزها المالي) بيد أنها أبت في الوقت نفسه أن
تمنح الشعب حقوقه السياسية المهدرة. اختلت من ثمَ معادلة أنه "لا ضريبة بدون
تمثيل"، إذ تم التوسع في فرض الضرائب واهترأت شبكة الأمان الاجتماعي فيما غاب
التمثيل والمحاسبة. لم يعد ممكناً بالتالي تجسير الفجوة المتنامية بين نوازع
الدولة وحقوق الناس سوى بأدوات القمع. ولذلك، حمل طوفان الخروج الجماهيري إلى
الفضاء العام في يناير 2011 في طياته تساؤلاً استنكارياً مفاده: إلى متى يمكن أن
تستمر جمهوريتنا بدوننا؟
ثم كان أن تلاطمت أمواج سنوات ما بعد 2011 واصطخبت لكنها
لم تزعزع استئثار جمهورية يوليو الشائخة بمقود القيادة. ووري جثمان الثورة وتفرق
شمل شبابها لكن صدمتها مازالت تمور في وجدان الجميع برياح الحلم والكابوس. ومع
ذلك، وتلك مفارقة، بقي سؤالها الاستنكاري معلقاً على أجنحة الأفق السياسي الغائم بلا
جواب شافٍ، بل ضاقت النسخة الأحدث من الجمهورية ذرعاً بالجماهير أكثر فأكثر. ومن
ثم ارتدت من جمهورية تستبعد الجماهير وإن وضعت مصالحهم نصب أعينها بشكل ما إلى
جمهورية تشي حركاتها وسكناتها بأنها لا تطيق الجماهير من الأساس؛ تستبعدهم من كافة
أشكال المشاركة في صنع القرار، وتعتبر التجمعات خطراً ينبغي التحوط منه، سواء في
ميادين المظاهرات وطوابير الانتخابات أو حتى في الملاعب الرياضية والفعاليات
الثقافية. بل إنها لم تبدِ أي حماس لتعبئة جمهور مؤيديها في إطار كيان سياسي ناشط،
على غرار تنظيم "الاتحاد العربي الاشتراكي" الذي هيمن كحزب أوحد على
الحياة السياسية من 1962 إلى 1978 أو الحزب الوطني الديمقراطي الذي استلم منه
الراية واحتكر موقع الحزب الحاكم حتى عام 2011.
تتصل المفارقة الثالثة بالجانب الاقتصادي في مصر التي
تضخم عدد سكانها وقصرت مواردها عن تلبية كافة احتياجاتهم. عبر العقود
السبع الماضية، اتحد الانفجار السكاني وسوء الإدارة مع الضغوط الخارجية (خاصة بعد
هبوب رياح العولمة) لينتج وضعاً مثقلاً بالأعباء. تعاظم حجم الدين الخارجي،
وارتفعت معدلات التضخم والفقر، وانتشرت البطالة، وتآكلت الطبقة الوسطى. تخبطت
الجمهورية كثيراً في اختيار المقاربة الأمثل لمواجهة أزماتها الاقتصادية
المتعاقبة، ما بين اشتراكية الستينيات وانفتاح السبعينيات الجزئي ورأسمالية
المحاسيب في نهايات عصر مبارك وصولاً إلى الصيغة الحالية العصية على التصنيف في
ضوء خليطها المتنافر الجامع بين تغلغل للدولة في جنبات الاقتصاد وتسلل لأنماط
النيوليبرالية الاقتصادية إليها.
كان "القضاء على الاستعمار" أحد الأهداف
الرئيسية لثورة يوليو المنصوص عليها في قائمة مبادئها الست الأساسية. ولذلك تبنت
الجمهورية الناشئة نموذجاً مستقلاً للتنمية الاقتصادية يمكن للبلاد من خلاله أن تتحرر
من براثن التبعية الاقتصادية وتحكم القوى الكبرى. لكن الجمهورية ما فتئت كما قلنا
تكبو دون غايتها، إذ رافقتها الأزمات المالية كظلها منذ البدايات أو ما بعدها
بقليل. لجأت الحكومة لخيار الاقتراض من صندوق النقد الدولي
للمرة الأولى في منتصف الستينيات، ثم فعلت ذلك بشراهة أكبر في العقود التالية. ومؤخراً،
في الفترة من 2016 إلى 2022، حصلت مصر على أربعة قروض من
الصندوق يزيد حجم مجموعها عن عشرين مليار دولار.
كما زادت
اعتمادية مصر على دول الخليج التي حصلت منها وفق تقدير حديث على 97
مليار دولار في الفترة من 2013 إلى 2020 في صورة مساعدات وقروض واستثمارات وشحنات
نفط مخفضة السعر وودائع في مصرفها المركزي. طبقاً للبيانات الرسمية، يتجاوز حجم الودائع
الخليجية الدولارية في البنك المركزي المصري ثمانين بالمئة من إجمالي ودائع النقد
الأجنبي فيه. الاعتمادية المتزايدة على مؤسسات التمويل الدولية ودول الخليج ألقت بالاستقلال
الاقتصادي المنشود في مهب الريح، ووضعت استقلال قرار السياسة الخارجية المصرية تحت
رحمة الحاجة الاقتصادية.
رابعاً، ادَّعت
الثورة/الجمهورية أنها قامت بغية التحرر من نير الاستبداد. لم تكن الفترة من
استقلال مصر في 1922 إلى قيام انقلاب 1952 عهداً ليبرالياً، كما يتردد كثيراً، إلا
مقارنة بما تلاها. في الربع الثاني من القرن العشرين، تولى رئاسة الوزراء سياسيون
عُرفوا بميولهم الدكتاتورية وعِصِيهم الغليظة، مثل محمد محمود (1937-1939)
واسماعيل صدقي (1930-1933 و1946)، وانتشرت ممارسات سلطوية قحة مثل فرض الأحكام
العرفية ومصادرة الصحف واعتقال النشطاء السياسيين. لذلك بدا منطقياً أن يرفع عبد
الناصر شعاره الأثير "ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد". على
براعتها في صك الشعارات، تفوقت الجمهورية على الملكية فيما عابت عليها فيه. تحولت
الإجراءات "الاستثنائية" المفروضة باسم حماية الثورة والحفاظ على
استقرار الدولة إلى أسلوب عمل اعتيادي، بل وعقيدة عليا يُعض عليها بالنواجذ ويُقرض
في مدحها الشِعر. التناقض بين الخطاب والممارسة ولَّد أزمة شرعية عميقة لم يعد من
الممكن رأبها بالتبريرات الرسمية. فإذا اعتبر البعض أن إجراءات الخمسينيات
والستينيات القمعية كانت ضرورية لحماية الثورة من القوى المتربصة بها، فما القول وقد
ولى قانون الثورة وسادت شريعة السلطة والثروة؟ وإذا صدّق البعض الأخر الخطاب
المباركي الذي شدد على ضرورة التوجه الديمقراطي مع التخفيف من سرعته، فما القول
وقد اختلفت الوجهة برمتها وما عادت الديمقراطية مطروحة كغاية مرتجاة من الأساس؟
أخيراً، وفي
نطاق سياستها الخارجية، لم تعد خطوات مصر ورؤاها ترسم ملامح المنطقة، حرباً وسلماً
وتحالفاً. على عكس دوائر الحركة الثلاث – العربية والإفريقية والإسلامية – التي نظَّر
لها عبد الناصر في كتابه "فلسفة الثورة" وصارت منهاجاً للدبلوماسية
المصرية لفترة طويلة، انحسر دور مصر الإقليمي في العقود الأخيرة، مركزاً قواه على
جوار البلاد الجغرافي في غزة وليبيا والسودان ومصالحها المائية الخاصة بنهر النيل،
ومفسحاً المجال لمساعي خليجية وتركية وإيرانية لقيادة شؤون المنطقة. لكن العقد
الأخير شهد حضوراً خليجياً وتركياً قوياً حتى في نطاق هذه المناطق المتاخمة لمصر. في
ظل حضور مصري باهت، زاد النفوذ القطري في غزة والنفوذ التركي في ليبيا والسودان، ونجحت
وساطة
إماراتية في إنهاء النزاع الطويل بين دولتي حوض النيل إثيوبيا
وإريتريا، ومؤخراً رعت السعودية
اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين الأطراف المتصارعة في السودان. وفيما يتعلق بسد
النهضة الإثيوبي، حاولت مصر كثيراً الوصول إلى اتفاق قانوني ملزم مع إثيوبيا يحفظ
حقوقها في شريان حياتها الأزلي، لكن النتائج جرت بما لا تشتهي مساعيها.
***
دارت
الجمهورية حول نفسها دورة كاملة. كان هيكل في تنظيره لدولة يوليو قد ميَّز بين مصر
الدولة ومصر الثورة؛ الأولى تلتزم بالسلوك المتعارف عليه بين الدول أما الثانية
فلها إشعاع متفرد وقانون خاص. يشير المعنى المضمر في هذا الطرح إلى أن قادة
الجمهورية الأوائل رأوا أن مصر ليست مثل أي دولة أخرى في الإقليم، بل هي بوصلة
ترسم الطريق ونموذج حريّ بالآخرين أن يحتذوا به. بطبيعة الحال، يقوم أي نموذج
سياسي جاذب على دعامتين لا مناص منهما: الرسالة المعنوية والمقومات المادية. وقد
أصاب صدأ السنين كلا الدعامتين. ولذلك يرى البعض اليوم أن الجمهورية تحولت من
"نموذج" حقيقي أو محتمل إلى ما يشبه القصة الاعتبارية.
لقد اعترضت
الجمهورية مجموعة من الأحداث الجسام والهزات المتتابعة عبر أعوامها السبعين. تجرعت
مرارة الهزيمة العسكرية أمام إسرائيل في 1967، وباغتتها انتفاضات الطلبة في 1968
و1972 وانتفاضة الخبز في 1977، ودهمها اغتيال رئيسها الثالث أنور السادات في 1981،
وجوبهت بصعوبات اقتصادية شتى من الثمانينيات فصاعدا، وزلزلت أركانها ثورة يناير
التي أطاحت برئيسها الرابع مبارك في 2011. ظلت مع ذلك وتيرة تطور الجمهورية أبطأ
مما أحاط بها من تغيرات سريعة وواسعة النطاق في مصر والإقليم والعالم. الأدهى أن ثمة متواليات دائرية عدة في قصة
الجمهورية المصرية. فالسعي للاستقلال
الوطني انتهى باحتلال إسرائيلي لسيناء دام خمس عشرة سنة. زال هذا الاحتلال بحرب
ومعاهدة صلح أعقبهما سعي حثيث للتنمية، لكنه بدوره انتهي بالانكشاف أمام رؤوس
الأموال والجهات المانحة. أما التخلص من استبداد الملك والإنجليز وباشوات العهد "البائد"
فانتهى إلى استبداد أشد ضراوة. يطرح ذلك كله عدة أسئلة مركزية: هل كانت جمهورية
يوليو قوة دافعة للتطور أم عقبة معيقة له؟ ومم انبثق الخلل بين الأهداف الكبرى والمحصلة
الصغرى؟ وكيف السبيل إلى علاجه؟
في السنوات الأخيرة بدأ الرئيس السيسي في رفع شعار
"الجمهورية الجديدة"، قائلاً إنها "جمهورية التنمية والبناء والتطوير" وإنها "تؤسس
نسقاً فكرياً واجتماعياً وإنسانياً شاملاً". مع ذلك، ما برحت تساؤلات حيرى
تطوف بذهن الناس، تتحرى مضمون ومعنى ورسالة هذه الجمهورية، وتخمن مواطن الاختلاف
بينها وبين جمهورية يوليو، وترتاب في مدى استعداد عجائز سدنة المعبد لنبذ ملتهم
واعتناق دين جديد.
د. نايل
شامة