إن نزعت أي قراءة للوضع السياسي والاجتماعي في مصر إلى الفكاك من
قبضة الظرف الراهن وتوسيع عدسة الزمن، ولو قليلاً، فلن يسعها إلا أن ترتد ببصرها -
دائماً وأبداً - إلى لحظة الثالث والعشرين من يوليو لعام 1952. أهيل التراب عقب
ذلك اليوم الفاصل على حقبة بأكملها ووُضع حجر أساس ركين لنظام – بل منظومة – سياسي
واجتماعي جديد. تبدلت الوجوه وتغير شكل الزمان وروح العصر كثيراً منذئذ، لكن
الخطوط العريضة لمنظومة الحكم والإدارة تلك، كما صممها وأقام بنيانها آباؤها
الأوائل، صمدت حتى اليوم. يتمثل هذا البنيان في دولة شديدة المركزية والسلطوية،
تضم جسماً بيروقراطياً مترامي الأطراف وعقلاً أمنياً ضيق الأفق ورأساً – رئاسياً –
يتحكم في كافة المفاصل، وتزيح المجتمع وقواه وتنظيماته إلى هامش الحركة والتأثير.
أثبتت هذه المنظومة متناهية الكبر قدرة فائقة على الاستمرار على
الرغم من أن اختياراتها قادتها إلى دروب غاصة بالعثرات والآلام. انغرست أقدامها في
رمال اليمن المتحركة، وترنح عودها بفعل هزيمة 1967 المروعة، واغتيل رئيسها في يوم
مجده في 1981، واعنرضت طريقها موجات من الإرهاب الأسود، ثم تراكمت عليها أزمات
الاقتصاد والخدمات والإدارة حتى اسنقرت في وضعية الأزمة الدائمة، فكان أن أنبأتها
انتفاضة يناير 2011 أنه قد حان حين طي صفحة الماضي والبدء من جديد. كان من الطبيعي
أن تؤدي كل هذه الصدمات والشدائد، وبعضها اشتمل على وقائع دراماتيكية عاصفة مثل ما
جرى في 1967 و1981 و2011، إلى ارتقاء منحنى تعلم هذه المنظومة/الدولة وتراكم
معارفها وخبراتها، إذ تولد أسئلة البحث عن الذات والمعنى والمستقبل عادة من قلب
لحظات الأسى والصدمة. لكن الشاهد في قصة دولة يوليو أنه لم يتمحض عن فيض التجارب
التي ألمت بها سوى غيض من الدروس. والعبر.
يتجلى ذلك في حالة الصدمة الأعمق، أي هزيمة 1967، التي لم ترتق
الدروس المستخلصة منها إلى قدر أهميتها وحجم الألم – والدم – المراق فيها. فقد
اعتبرت النخبة السياسية الحاكمة أن الكارثة الأسوأ في تاريخ مصر الحديث لم تكن سوى
هزيمة عسكرية عارضة. لم يكن من قبيل المصادفة لجوء رجال الدولة إلى استخدام كلمة
"نكسة" لوصف الهزيمة، وهو استخدام لم يقتصر على خطاب تنحي جمال عبد
الناصر في 9 يونيو (أول مناسبة تحدثت فيها السلطة بشكل مباشر إلى الشعب بعد قيام
الحرب)، بل تكرر حتى صار معبراً عن نظرة كلية لا ترى، أو لا تريد أن ترى، الجذور
البنيوية للهزيمة. ولأن الهزيمة محض نكسة، أي كبوة عابرة وسط مسيرة من الإنجازات،
فقد تم "محوها" بحرب أكتوبر 1973. وإذ فتحت هذه القناعة الطريق للتغاضي
عن الأسباب العميقة للهزيمة، الرابضة في قلب البنيان السياسي اليوليوي وأنماط
اتخاذ القرار فيه، فإنها قطعت الطريق أمام أي محاولة جادة للتدبر والإصلاح. ومن
زاوية ما، بدت المبالغة الإعلامية في تصوير الإنجاز العسكري لحرب 1973 وكأنها
محاولة لإقناع الشعب بأنه تم الاقتصاص ممن أحدثوا هزيمة 1967 المريرة وأنها
بالتالي انتهت إلى غير رجعة. وبعد إزالة الآثار المباشرة للعدوان بالحرب والسلم في
السبعينيات، انزوت الهزيمة إلى ركن قصي في عقل الدولة إذ طفقت تعاملها في عهد
السلام باعتبارها ذكرى سيئة من مخلفات زمن الحروب الذي ولى وينبغي نسيانها.
تعاملت النخب السياسية والعسكرية الإسرائيلية بشكل مغاير مع حرب
أكتوبر 1973 رغم اقتناعها بأن المحصلة النهائية للمواجهة لم تكن هزيمة إسرائيل. فقد
أقرت هذه النخب بأن قصوراً معلوماتياً فادحاً ثد شاب توقع الحرب، وبأن ضعف
الاستعداد أدى في الأيام الأولى للمعركة إلى ارتباك في الأداء وارتفاع في الخسائر.
لدراسة هذا القصور، شكلت الحكومة الإسرائيلية لجنة أجرانات بعد أن وضعت الحرب
أوزارها ببضعة أسابيع فقط. ظهرت نتائج عمل اللجنة تباعاً على عدة مراحل في عامي
1974 و1975، وظلت مثار نقاش استمر لعقود ثم تجدد مؤخراً إثر إماطة إسرائيل اللثام
عن وثائق سرية تخص الحرب بمناسبة مرور نصف قرن عليها. تعاملت الولايات المتحدة على نفس المنوال مع هجمات الحادي عشر من سبتمبر الدامية حيث أصدر
الكونجرس قانوتاً يقضي بتشكيل لجنة للتحقيق فيما جرى. بعد أن استجوبت أكثر من 1200
شخصاً (بما فيهم الرئيس جورج بوش والعشرات من كبار المسئولين) وأطلعت على مليوني
ونصف صفحة من الوثائق، أصدرت اللجنة تقريراً مفصلاً من مئات الصفحات يتناول أوجه
القصور وتوصيات علاجها. على النقيض، لم تشكل مصر لجاناً "جادة" لدراسة
أسباب نكسة 1967 وثغرة 1973 ولا لقطع الشك باليقين حول الدور الذي لعبه أشرف مروان
في حرب أكتوبر، ولم تنشر اللجان الخجولة التي تشكلت لتقصي الحقائق وكتابة تاريخ
الثورة نتائجها حتى الآن.
على غرار 1967، كانت 2011 حدثاً مترعاً بالمعاني والدلالات واستحق من
الدولة وقفة صادقة مع النفس تتضمن التأمل المتجرد والدراسة المتعمقة. لكن عَظُم
على الدولة أن تقر بمسئولياتها واستسلمت عوضاً عن ذلك لغرائزها الأمنية وشكوكها
المتأصلة ومن ثم وجدت في أحاديث المؤامرة بالغة الشطط تفسيراً مرضياً لثورة الناس،
إذ تعفيها من مسئولية الفشل وعبء الإصلاح. بنظر الدولة، لم تكن 2011 محاولة ضرورية
لإصلاح الدولة قبل فوات الأوان، بل مؤامرة لإسقاطها من جذورها. وبعد مرور بضع
سنوات، شجع اندحار الثورة – "المؤامرة" – الدولة على الإعراض عن فهمها
ودراستها حق الفهم والدراسة، ولسان حالها في ذلك يقول: لم تكن سوى مؤامرة وأحبطت
في مهدها، فلم الاكتراث؟
غُض البصر على نفس
النحو عن مسارات التنمية الوعرة التي فشلت عبر عقود
متتالية في كبح انتشار الفقر والبطالة وأفضت بالبلاد إلى أبواب صندوق النقد الدولي،
زبوناً دائماً ومقترضاً مثقلاً بالديون. مرت انتفاضة الخبز التي اندلعت في يناير
1977 (أي تزامناً مع اليوبيل الفضي لثورة يوليو) وأسفرت عن سقوط ثمانين قتيلاً
ومئات الجرحي، مرور الكرام. فقد أنست الدولة إلى نفسير ناحل المنطق يصورها على
أنها "انتفاضة حرامية" نفخ كيرها الشيوعيون والفوضويون. ومداً للخط على
استقامته، أنحت الدولة باللائمة في الأزمة الاقتصادية الحالية على ظروف خارجية شتى،
مثل جائحة كورونا وعدم انتظام سلاسل التوريد العالمية والغزو الروسي لأوكرانيا.
ثمة ذريعة يُرتكن إليها دوماً لنفي التقصير وصرف التفكير عن موطن الداء وسبل قصه
من جذوره.
كلثير من ذلك يمكن رده في المستوى الأعلى من التحليل إلى الفارق المبدأي – والشاسع
– بين التفكير العلمي والتفكير الغريزي. التفكير بالعلم يتخذ من العلم – بأدواته
ومناهجه وخلاصاته – سبيلاً للمعرفة على اتساعها، بما فيها فهم ما جري ولماذا جرى
واستشراف ما يمكن أن تحمله الأيام وكيف يمكن تجنب شروره وتعظيم الاستفادة منه. أما
التفكير بالغريزة فمدفوع بالغرائز البدائية كالحب والبغض والخوف والتمني وتوسل
الثناء واتقاء اللوم وإلقاء المعاذير. هو إذن تفكير تسيره الميول والانطباعات
العابرة، وبذا تتجلى فيه مكامن النقص الإنساني، ويستنكف عن الوقوف عند مفارق الطرق
مستذكراً ومستطلعاً. باختصار، العلم محايد ومنظم وموضوعي، أما الغريزة فمنحازة
وفوضوية وذاتية. وللعلم ذاكرة طويلة وثاقبة، أما الغريزة فذاكرتها قصيرة ومثقوبة.
وإذا كان الأفراد معرضين للتفكير بمشاعرهم وأهوائهم وغرائزهم، قلا يصح أن يكون ذلك مسلك الدول بكل ما تمتلك من موارد
ومؤسسات وطاقات.
في حالة الدول "الحديثة"، لا يمكن أن يقوم التفكير العلمي،
الموسوم بالحياد القاطع والمنهج الصارم والنتائج ذات المصداقية، إلا على أكتاف بنية
تحتية مؤسساتية تسمو فوق النزعات الفردية والأهواء الشخصية. لكن هذه البنية ظلت
باستمرار غائبة في مصر، ولذلك تأثرت القرارات العامة إلى حد بعيد بالانطباعات
والانحيازات الشخصية لأفراد النخبة الحاكمة والممزوجة عادة بكثير من التفسيرات
الشعبية ومزاج الرأي العام. مثلاً، لم تكن سياسة حافة الهاوية مع إسرائيل في أزمة
مايو-يونيو 1967 قائمة على تقدير علمي محايد بل على تقديرات فردية لها بواعثها الشخصية
لعبد الناصر وبعض المحيطين به من ذوي الكفاءات المحدودة والنفوس الواجفة (مثل عبد
الحكيم عامر وشمس بدران). وأوجزت عبارة "رقبتي يا ريس" التي أكد بها
عامر لناصر استعداد القوات المسلحة لخوض غمار الحرب المنهج المهلهل الذي ارتكز عليه
القرار المصري حيال الأزمة. وبعد 2013، اعتنقت زرافات من النخب المصرية بسعادة
غامرة مجموعة التلفيقات المنسوبة إلى مذكرات وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك
هيلاري كلينتون رغم ما فيها من فجاجة تستحث النفي والنبذ، ناهيك أن
المذكرات منشورة ومترجمة وكان من اليسير مراجعتها والتثبت من زيف الإتهامات
المنسوبة إليها (وكان من المؤسف أن وزير "الثقافة" نفسه روج لبعض تلك
الأحاديث المفبركة). مرة أخرى، توارى العلم واستأثر الزيف بعقل الدولة في لحظة
مصيرية.
بغياب البنية المؤسساتية والعقل العلمي الاستراتيجي، لم يبق أمام
الجهاز البيروقراطي للدولة سوى الانهماك في تفاصيل الإدارة اليومية والانصراف عن
المقاصد العامة والصور الكلية. وفي مواجهة العلل المزمنة، ما فتئت الدولة تنظر تحت
قدميها مكتفية في أعلب الأحوال بعلاج العَرَض لا المرض. فاغتيال السادات والعمليات
الإرهابية التي تلته في الثمانينيات والتسعينيات أفضت إلى تكثيف الإجراءات الأمنية
بل وقيام صناعة أمنية ضخمة. لكن لم يصحب ذلك محاولة جادة لفهم واستيعاب ظاهرة
"الصحوة الإسلامية" التي كانت قد انفجرت في السبعينيات ثم تتابعت المواجهات
الأمنية معها في متواليات سيزيفية منذئذ. بمرور الوقت، خضع أداء الدولة لقوانين
القصور الذاتي، حيث تمضي الأمور كما اعتادت أن تمضي لآماد طويلة، دون مراجعة لما
فات أو تخطيط لما هو آت. ولا غرو أن في الروتين، بداهة، قتل للتفكير والتخطيط. وقد
اقترن هذا الروتين السائر في مصر في دوائر لانهائية بالاستسلام لقناعتين تبررانه:
أن ما هو قائم سيظل قائماً للأبد؛ وأنه ليس في الإمكان حل مشاكل البلاد العويصة
بشكل جذري.
ماذا تعلمت الدولة أو حرصت على تعلمه إذن؟ الإجابة بكلمات وجيزة:
آليات النجاة والسيطرة التي تكفل لها ديمومة البقاء. تبرز هاهنا مفارقة غريبة، ألا
وهي إحجام الدولة عن دراسة الخلل الأصيل بغية علاجه وغرامها عوضاً عن ذلك بتعلم
الأدوات التي تمكنها من الحفاظ على مكتسباتها في ظل، وبالرغم من، وجود هذا الخلل! دلفت
الدولة في هذا المضمار إلى محراب العلم اختلاساً لا إنهالاً، إذ لم تخلع نعليها في
الواد المقدس طوى بل وطئته بأحذيتها الثقيلة وهراواتها الغليظة. حدث ذلك عبر استعمال
منتجات العلم الحديث: الكمبيوتر بالأمس وبرامج التجسس والاختراق اليوم وتطبيقات الذكاء
الاصطناعي – على الأرجح – في الغد. كل هذه الاستخدامات أداتية الطابع إذ تتوخي
منتجات العلم لا روح مناهجه كما أنها لا تنبع من إيمان حقيقي بقيمة العلم قدر
حرصها على توطيفه بغية البقاء والسيطرة. بعبارة أخرى، بدلاً من أن تخضع القوة
للعلم، سخرَّت القوة العلم لمصلحتها.
باقتضاب، استمرار الأداء المتواضع لعقود طويلة مرجعه سطوة العقل
الفردي للحاكم والنخبة الحاكمة ككل على العقل العلمي ذي البنية المؤسساتية وهيمنة
شهوات العادة على دواعي الإصلاح. ولذلك فسريعاً ما ركدت المياه وأسَن النهر بعد
1952 وولجت البلاد في ما يسمى حيناً بعصر الفرص الضائعة وحيناً ثانياً بوضع الأزمة
الدائمة وحيناً ثالثاً بهزيمة يونيو المستمرة. وعليه، أفلم يحن بعد وقت تحويل الدفة
وتبديل المنهاج؟
د.
نايل شامة