Friday, August 24, 2007

المصريون والحياة على الطريقة اللبنانية

يحار المرء كثيراً حين يتذكر المقولة الشهيرة التي راجت من أن المصريين- من فرط صلابة ثقافتهم وكونها ضاربة في أعماق التاريخ- يؤثرون فيمن احتلوهم، بدلاً من أن يتأثروا بهم على عكس ما حدث في أقطار شرقية أخرى عديدة . فالمصريون – كما تقول النكتة – علموا البريطانيين اللغة العربية، بدلاً من أن يتعلموا منهم الإنجليزية، ويبدو هذا في تناقض صارخ مع الحالة الجزائرية مثلاً التي بذل قادة ثورتها جهوداً مضنية من أجل التعريب في أعقاب الاستقلال. وبرغم التسليم الكامل باختلاف الاحتلال البريطاني عن نظيره الفرنسي في كون الأول سياسياً وإدارياً بالأساس، بينما الثاني يسخر جزءاً غير يسير من طاقته لبسط الهيمنة الثقافية، إلا أن المؤكد أن أبناء هذا الوطن – رغم تأثرهم بثقافات وحضارات شتى حطت على أرضهم واستقرت (وهذا أمر طبيعي) – كانت مناعتهم الثقافية أقوى من غيرهم بمراحل. مبعث تلك الحيرة إذن أن تلك المناعة كما يبدو قد ضعفت كثيراً في العقود الماضية، وبدا وكأن المصري على استعداد لتقبل، بل واعتناق أي ثقافة وافدة، مهما بلغ حد شططها، أو شذوذها عما استقر عليه العرف في مصر لسنوات وقرون.

المثال البارز على تلك الظاهرة في السنوات الأخيرة، هو حالة الانبهار الشديد بنمط الحياة اللبناني ومن ثم تقليده والسير على منواله. يظهر ذلك في الشعبية الكبيرة للفن اللبناني، وللقنوات الفضائية اللبنانية، وفي الاستعانة الواسعة بالخبرات اللبنانية في مجالات عدة، كالأزياء، والتجميل، وصناعة الترفيه. يتجلى ذلك أيضاً في العدد الكبير من المطاعم المتخصصة في المطبخ اللبناني، أو المقاهي التي تحمل أسماء لبنانية (يوجد على الأقل خمسة منهم في حي واحد فقط من أحياء القاهرة). لم يكن غريباً إذن ما سمعت من أن أحد مندوبي المبيعات أتقن اللهجة اللبنانية، وصار يستخدمها دوماً في أحاديثه مع زبائنه، اعتقاداً منه لا شك بأن ذلك "يحلي" البضاعة التي يروجها ويساعد على بيعها. لاحظ أن بعض الإعلانات التليفزيونية تستخدم الأسلوب ذاته.

السؤال هنا هو: لماذا كل هذا الهوس بالأسلوب اللبناني في الحياة؟ وكيف تؤثر دولة صغيرة الحجم والسكان في أكبر الدول العربية مكانة ووزناً بهذا الشكل؟ لا يمكن إنكار أن الوجود الثقافي المصري حاضر بقوة في سائر الدول العربية، ربما بتأثير من فترات سابقة كان للسياسة والثقافة المصرية فيها تأثير قوي في المحيط الإقليمي. ثم إن هذا منطقي بحكم وزن مصر الحضاري وتراثها الثقافي الضخم، أما العكس فيحتاج إلى تفسير وإيضاح.

ربما كان الأنسب للإحاطة بهذه الظاهرة، وضعها في إطار عملية التغريب الكبيرة التي تتعرض لها الحياة والثقافة المصرية منذ قرون، والتي زادت وتيرتها في ظل الإيقاع المتسارع للعولمة، لتشمل كافة مناحي الحياة حتى بات منطقياً أن نضيف عموداً ثامناً إلى الأعمدة السبعة المكونة للشخصية المصرية - بحسب دراسة المفكر المستنير د/ميلاد حنا – والتي تضم انتماءات تاريخية أربع (الفرعونية، اليونانية/الرومانية، القبطية والإسلامية) وانتماءات جغرافية ثلاث (عربية ومتوسطية وإفريقية) تشكل في مجموعها شخصية المصري المعاصر. لا بأس من إضافة العمود الثامن إذن، خاصة وأن حنا قد أشار في دراسته القيمة إلى أنه لا يرى الأعمدة السبعة "كانتماءات أبدية"، بل لعلها تتراكم مع الزمن، ويضاف إليها انتماءات جديدة". العمود الثامن هو العمود الغربي وهو مختلف عن المتوسطي وإن تقاطع معه. فالمتوسطية كانت محصورة في نفر قليل من النخبة المثقفة في النصف الأول من القرن الفائت ممن احتكوا بالغرب وتأثروا به، ثم راحوا يبشروا به في كتاباتهم مثل طه حسين في "مستقبل الثقافة في مصر" (إصدار 1938) وتوفيق الحكيم وحسين فوزي. العمود الغربي مختلف فتأثيره أعمق، كما أنه يشمل قطاعات أوسع بعيداً عن أبراج المثقفين العاجية وقصور الأغنياء المنيفة. الغرب الآن صار بحق – كما يقول الأكاديمي البارز فؤاد عجمي – تحت جلود المصريين.

في ظل عملية التغريب الكبيرة هذه يوفر النموذج اللبناني ميزة واضحة هي المزج بين النموذج الغربي بكل مكوناته ومفرداته مع وضع كل هذا في قالب عربي، فلبنان بلد عربي ينطق أهله بلغة الضاد وتحتفظ ألحانه ببعض شرقيتها، كما يقترب طعامه مما ألفه المصريون. ففي ظل الانتقال من ثقافة عربية إسلامية سادت لقرون يبدو التقبل أو الامتثال الكاملين للتركيبة الغربية الصرف أمر جد صعب. في ظل هذه السيولة الثقافية يبدو النموذج اللبناني بمزيجه الفريد بين المكونات العربية والغربية شديد الجاذبية.

التفسير الآخر هو تطلع معظم فئات الشعب المصري - وهو شعب شديد الوعي بوضعه الطبقي- إلى تقليد ما يعتبرونه نمط سلوك وحياة الصفوة، بدءاً من اقتناء السلع الاستهلاكية للتباهي بها إلى إقامة الحفلات الصاخبة (بكل ما فيها من حرية وانفتاح غريبتين عن أسلوب الشعب المصري في عمومه) وحتى إلى نمط العلاقات الاجتماعية السائدة. ولأن القشرة الظاهرة من المجتمع اللبناني والتي تعكسها القنوات الفضائية والأغاني المصورة توحي بأن ذلك هو نمط حياة كل أفراده، فإن المصري ترسخ في عقله الباطن اعتقاد بأن الرقي ولبنان مترادفان. لذلك صار مفهوماً أن يتفاخر البعض يأن لهم أصولاً لبنانية أو شامية. أما الحقيقة التي يغفلها الكثيرون ممن انساقوا وراء بريق الحياة اللبنانية فهي انتشار الفقر في لبنان، حيث تبلغ نسبة من يرزحون تحت خط الفقر 28% وهي من أعلى النسب في منطقة غرب آسيا. طبقاً لهذه النسبة فإن حوالي مليون لبناني يعيشون تحت خط الفقر، بينما يعيش زهاء النصف مليون في فقر مدقع. يجهل هؤلاء أيضاً انتشار مظاهر التعصب الديني المقيت في أوساط بعض قطاعات الشعب اللبناني في السنوات الأخيرة.

كذلك يبدو الجنس حاضراً وبقوة في تحليل ظاهرة الإعجاب بالحياة على الطريقة اللبنانية. فالعقلية المصرية التقليدية ترى الأمور عادة من خلال عدسة "الجنس". وفي ظل انفتاح "فضائي" فاق الحدود في السنوات الأخيرة وفي ظل كبت جنسي يقارب حد الانفجار، يصبح نموذج الفتاة اللبنانية كما يعكسه الواقع الإعلامي مغرياً للغاية، خاصة إذا ما تمت مقارنته بالفتاة المصرية المتحفظة والتي يكبح جموحها قيود أسرية ومجتمعية شتى.

يبقى أخيراً أن نشير إلى أن الفئة "المتلبننة" هي في معظمها من أفراد الطبقة العليا والمتوسطة العليا، إضافة بالطبع إلى الطامحين في الانتساب إليهما، أما الطبقات الدنيا - حيث تنتشر الأصولية والحجاب - فيحدث فيها استقطاب معاكس حيث تجد نموذجها المفضل في مجتمعات محافظة كالسعودية وإيران، وما انتشار التدين على الطريقة السعودية الوهابية في أوساط الطبقات الشعبية وبين العائدين من إقامة طويلة بدول الخليج إلا دليل على ذلك، وهذا مثال آخر على أي حال على القابلية المفرطة للتماثل مع نسق قيمي "أجنبي".

وما بين "اللبننة" و"السعودة" وغيرهما تبقى الهوية المصرية لدى قطاعات واسعة ضائعة ومشتتة ويبقى السؤال حول ماهية تلك الهوية وما تفرضه من قيم وسلوكيات وما تنبذه، ما هو أصيل فيها وما هو وافد محيراً وربما مربكاً أيضاً.

نايل محمد شامة

نُشرت هذه المقالة في جريدة صوت الأمة (بتاريخ 1 أغسطس 2005).

4 comments:

Anonymous said...

Very nice article, i share him this idea.
I think it's interesting and well organized, and i wish this blog good luck in the future.

بنوتة من وسط البلد said...

اتفق مع هذا الراى ابضا ان المصريين احتفظوا بهويتهم وثقافته و لغتهم وباءت كل محاولات الاحتلال الثقافى للاستعمار بالفشل .. وبالرغم من انها نعمة لاحتفاظ المصريين بشء من هويتهم الى حد ما .. ومع ذلك ارى ان السبب الرئيسى لم يكن دافعه وطنى الى حد كبير بقدر ما هى سلبية ولا مبالاة نتمتع بها وتحمينا مهما مرت سنوات وحتى فى عقودنا الحالية

ويمكنك مقارنة ما اخدناه من التكنولوجيا وكيف اننا مصرناها واخدنا منها ما يهوينا نحن

هذا ليس تحامل ولكنها حقيقة .. ولولا هذة السلبية لضعنا من زمان

فربنا ادمها علينا نعمه

تحيياتى

DantY ElMasrY said...

الأتراك قعدوا عندنا 300سنة وماتعلمناش تركى
وخدوا مننا اسرار الصناعة وقتها ومادوناش حاجة غير المحشى والشاورما

مصري مستفز (بفتح الفاء) said...

انا لا اتفق اننا نحاول ان نقلد اي احد بدون وعى ....فهذا يوحي بأن المصريين شعب فاقد للهوية ... بينما ان الشعب المصري من أكثر الشعوب العربية اعتزازا بنفسه وبنمط حياته وبنهجه الثقافي والاجتماعي

الشخصية اللبنانية شخصية مقربة الى الشعب المصري وهذا ليس فقط في الاونة الاخيرة ...على سبيل المثال ...الياس مؤدب كان ممثلا مصريا اتقن اللهجة اللبنانية وكان يمثل بها دائما واكثر الناس على اقتناع انه لبناني الاصل ولكنه مصري
فليس بجديد ان المصريين يعشقون النمط اللبناني ولكن ليس لانه وسيلة غير مباشرة للتغريب بل لانهم يعتبرون اللبنانيين هم الاقرب في التكوين الثقافي من بين شعوب الارض كلهم
اما ان المتدينيين يقلدون السعوديين فاعتقد ان هذا ليس صحيح بالمرة فالتيار الديني بدأ في مصر في الثلاثينات واصبح ذو شعبية جارفة في السبعينات قبل ان تبدأ دول الخليج في الظهور على الساحة الثقافية العربية كدول ذات تأثير.... التأثير ظهر في الثمانينات كتابع من توابع الطفرة البترولية... والتدين المصري ليس وهابيا بالمرة.. فالازهر موجود في مصر منذ الف سنة وهو الوقود الحقيقي للصحوة الاسلامية في مصر بشكل غير رسمي.... فجل المشاركين في الدعوة الى العودة للاصول الاسلامية كانوا من علماء وخريجين الازهر الشريف كالشيوخ الشعراوي وعبد الحليم محمود وعبد الله شحاتة
وهؤلاء ما ادعى احد انهم وهابيين!!!!