إذا كانت الثورة المصرية قد أثمرت حتى الآن العديد من الإنجازات، كإسقاط نظام مستبد وفاسد شاخ في مواقعه، وتمهيد الطريق لقيام نظام جديد تشير الشواهد إلى أنه سيكون مدنياً وديمقراطياً، وأنه سيكون أرفع خلقاً وأكثر عدالة وأقل فساداً، فإن أحد أهم ما أنجزته الثورة هو إعادة بعث قوة مصر الناعمة إقليمياً وعالمياً، ربما بشكل غير مسبوق في تاريخ مصر المعاصر.
فعندما تظهر مقالة بجريدة النيويورك تايمز تحمل عنواناً آسراً مثل "كلنا مصريون"، وحين يصف المفكر الأمريكي البارز "نعوم تشومسكي" ما يحدث في مصر بأنه "مذهل بالتأكيد" مؤكداً أن "هذه اللحظات لن تنمحي من الذاكرة"، وحين تدفع أهمية الثورة المصرية الصحفي الشهير "توماس فريدمان" إلى اعتماد تصنيف ق.م (قبل مصر) وب.م (بعد مصر) للتأكيد على ما تمثله الثورة من نقطة مفصلية في تاريخ الشرق الأوسط، وحين يشير "فريدمان" أيضاً إلى أن مكة ستظل دائماً قبلة المسلمين للتقرب من الله، بينما صار ميدان التحرير قبلة لمن يريد أن "يلمس الحرية"، فإن سمعة ومكانة مصر تكون بالفعل قد لامست من الناحية المعنوية ذراً عالية، تعوض كثيراً مما خسرته أثناء الأزمة من مقومات القوة الصلبة الاقتصادية.
نلمس نفس التأثير الإيجابي وأكثر في الوطن العربي. فحين يخرج قائد في مكانة وشعبية السيد حسن نصر الله ليخاطب الشعب المصري قائلاً: "لطالما قيل بحق إن مصر هي أم الدنيا، وأنتم في الميادين اليوم، أنتم شعبها العظيم الذي يستطيع بإرادته وصلابته وإيمانه أن يغير وجه الدنيا"، وحين تصف الأقلام العربية ميدان التحرير بكعبة الحرية ومصنع الشرفاء والأحرار، وحين يثقون في أن مصر "التي قادت العرب في الحرب ستقودهم حتماً في معركة الديمقراطية"، فإن مصر تكون قد بدأت بالفعل في استرداد عافيتها المعنوية، إيذاناً بقرب استعادتها لموقع القيادة الذي تستحقه، والتي هي بالقطع مؤهلة له.
لقد أغفل كثير من الساسة أهمية القوة الناعمة، فقد دفعت سذاجة الزعيم السوفيتي ستالين لأن يسأل مستنكراً عن "عدد الفرق العسكرية التي تتبع البابا"، متغافلاً عن القوة الروحية للبابا، وقدرته على التأثير في ملايين الكاثوليك. ويمكن مقارنة ذلك بالرئيس مبارك الذي أعلن مراراً عن عزوفه عن الزعامة ونفوره منها. وربما كان يقصد هنا الزعامة العنترية التي بصخب الكلمات وتهافت الأفعال تودي بالبلاد في أتون الحروب ومهالك الفوضى، إلا أنه نسى أن الشعبية من بين المقومات الرئيسية للزعامة. وبسبب ذلك التغافل انخفضت شعبية مبارك حتى وصلت إلى الحضيض في أيامه الأخيرة، فرأينا ملاييناً لا تقبل بغير رحيله حلاً، بل وتستميت في الساحات أياماً وليالي في سبيل خلعه وإسقاط جل نظامه.
إغفال مبارك لأهمية القوة الناعمة في العلاقات الدولية أعماه عن تحقيق أي إنجاز يكون محفزاً لطاقات الشعب المصري وملهماً للآخرين، فعبر ثلاثة عقود لم نر قصة نجاح اقتصادية على غرار التنين الصيني أو النمور الآسيوية، ولا صارت مصر منارة للعلم والتكنولوجيا في محيطها، ولا نموذجاً للانتقال إلى الديمقراطية الحقة، ولا قائدة لدور خارجي مميز. وقفزت دول أخرى في ذات الوقت لتسرق الاهتمام والأضواء، مثل دبي التي صارت واحة للإقتصاد والسياحة في الوطن العربي، وقطر التي حظيت مؤخراً بشرف تنظيم كأس العالم لكرة القدم.
هذا الزخم الثورى الذي أعاد لمصر الكثير من قوتها الناعمة المفقودة يجب استثماره فوراً ودون أي إبطاء، وذلك بالآتي:
أولاً: الحفاظ على قوة الدفع الهائلة التي أنتجتها عجلة الثورة، وخصوصاً بين الشباب، وذلك بانخراطهم في أنشطة مدنية وسياسية، تدعم انتمائهم للوطن وتكرس من الصورة الباهرة التي رسموها للوطن في ميدان التحرير بكفاءة التنظيمً وبسالة التصميم وروعة الالتزام ورقي المعاملة.
ثانياً: بعد أن نجح نموذج "الثورة السلمية" بامتياز في نشر صورة حضارية متميزة لمصر في كل أرجاء الدنيا، يجب الانتقال سريعاً إلى بناء وترسيخ نموذج "الدولة الديمقراطية" التي تثير الإعجاب، بعدلها وكفاءتها ونظامها، فالهدم دون بناء خيانة للثورة ونكوص عن تحقيق أهدافها.
ثالثاً: الاهتمام في قادم الأيام والسنين بالقوة الصلبة، فالقوتين الصلبة والناعمة لا تتحركان في مدارين مختلفين، بل الثابت أن كلاً منهما تؤثر في الأخرى وتتأثر بها. فالانهيار المادي للاتحاد السوفيتي في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات أثر سلباً على قوتها الناعمة دون شك. في المقابل، زادت القوة الناعمة لدول مثل الهند وباكستان مثلاً بعدما زادت قوتها الصلبة بالحصول على القوة النووية في أواخر التسعينات. لذلك فإن اهتمام وتركيز النظام الجديد يجب أن ينصبان في مسار إرساء نهضة اقتصادية حقيقية عمادها غزارة الإنتاج وعدالة التوزيع.
لقد عادت شمس مصر الذهبية تشع للعالم ضياء من حضارة وكرامة وإباء، وبعون رب العالمين لن تنطفىء هذه الشمس أبدا.
د. نايل شامة
* نُشرت هذه المقالة بجريدة الحياة (بتاريخ 10 مارس 2011).
* الصورة: رويترز.