تتوارى بين ثنايا القبح أحياناً ومضات العبقرية وشذرات الجمال، و تختبيء خلف
ستائر الخير والجمال أحياناً مكامن الشر وأوكار الإثم والفساد. ولذا كان من أولى
أمارات النضج العقلي الإقلاع عن النظرة الأحادية للأفكار والأحداث والأشخاص،
والقدرة على التعاطي الحيادي متعدد الزوايا مع شتى الظواهر الاجتماعية والإنسانية
المحيطة بنا، والمركبة بطبيعتها. أما الاستغراق في نصب سرادقات الإدانة ومهرجانات
التأييد التي أدمنها العقل العربي، فتمثل أسهل ردود الفعل إذ ترضي الضمير، وتريح
العقل من فريضة التفكير المرهقة.
مقاربة العقل العربي لنشوء ونمو دولة إسرائيل نموذج واضح على ذلك النهج
المعادي لحيادية العلم والمجافي لحقائق الأشياء. فما بين رقص على أنغام الرفض،
ودوران لا ينتهي في مدارات اللعن والشجب، استقرت إسرائيل في قلب الوطن العربي،
واستقر العرب في مواقع الهزيمة، يندبون حظهم تارة، وينحون باللائمة على الآخرين
تارة أخرى، دون أن يعوا تماماً لماذا أخفقوا ولماذا تفوق العدو.
***
الهولوكوست مثال آخر. فعلى الرغم من صعوبة الإتيان بالألفاظ المناسبة لوصف
بشاعة جريمة الهولوكوست - والتي قضي على أثرها ملايين الأبرياء اختناقاً بالغاز في
معسكرات الموت النازية في أربعينيات القرن الماضي -- فإن للهولوكوست وجهاً عبقرياً
يجدر بنا كعرب أن نلتفت إليه، ونتعلم من دروسه، ونمشي على خطاه. كان أدولف هتلر في
ذروة جنونه قد قرر إبادة اليهود والغجر والمختلين عقلياً، وأصدر أوامره بذلك إلى
مجموعة الحماية النازية (SS)، فبدأت عملية واسعة
لترحيلهم (وخاصة اليهود) من مختلف الأقطار الأوروبية إلى معسكرات الموت، وأكبرها
في بولندا الخاضعة للاحتلال النازي.
وبصرف النظر عن الاعتبارات الأخلاقية، فإن الهولوكوست تعد مدرسة في التفكير
العلمي، والقدرة غلى تطويع العلم لحل العقبات وتحقيق الأهداف بطرق عملية مبتكرة
ناجعة. فعلى سبيل المثال، جاءت التعليمات من القيادة النازية في برلين في أوائل
عام 1942م بضرورة القضاء على مليون شخص في معسكر (أوشفيتز) بنهاية العام. ولم تكن
قدرات المعسكر باستخدام الطرق التقليدية في قتل ودفن الضحابا تسمح بذلك. ومن هنا
طور الألمان فكرة استخدام الغازات الفتاكة للتخلص من أكبر عدد من الضحايا في أقل
وقت ممكن. أجريت في تلك السنوات أبحاث مضنية على أنواع الغازات وعلى تصميم غرف
الغاز، بغية الوصول لحلول خلاقة أكثر كفاءة وفعالية، خرج من رحمها أكبر مصنع للموت
عرفته البشرية في تاريخها الحديث. ففي معسكر (تريبلنكا) مثلاً صمم المهندسون
الألمان غرفة ضخمة تتيح القضاء على ثلاثة آلاف نفس بشرية في نفس الوقت، وفي
(أوشفيتز) وصلت طاقة المعسكر في القتل عام 1944م إلى عشرة آلاف شخص يومياً. أجريت
أيضاً في نفس المعسكرات تجارب طبية واسعة اهتمت بالجينات الوراثية، خاصة بالنسبة للتوائم
والأقزام.
حديث القتل مقبض ومنفر، لكن ما يهمنا هو حديث الكفاءة والإنجاز الدال والملهم.
التجربة الألمانية مع هتلر أو مع من تعاقبوا بعده على القيادة تبرهن على أن ثمة
أمم سرى احترام العلم في دمائها، فاعتمدوا عليه، واتخذوه طريقة حياة، وسبيلاً لحل
ما يواجهون من معضلات. فصارت كل مناحي الحياة -- العمل، والحرب، والسلم، والحب، والقتل
– تعمل وفق قانون العلم ومنهاجه وآلياته. وثمة أمم أخرى غاب عن حياتها التفكير
العلمي، وسادت العشوائية، والارتجال، والافتنان بمآثر الماضي، والإعراض عن مسالك
الحاضر، بل والنفور من انجازات العصر ومكتسباته. وكانت النتيجة أن انغمست في صغائر
الأمور وتوافه الجدالات، فتخلفت عن ركب الحضارة، وتقهقرت في كل سباقات العصر،
مسلمةً حاضرها ومستقبلها لغيرها.
الأنكى أن "الدولة" في الوطن العربي لم تفشل فقط في سباق العلم
والحضارة، بل فشلت كذلك في الظلم والقمع. فأداؤها متساو خيراً وشراً: كلاهما خال
من الكفاءة، وموغل في السذاجة، وموصل إلى التهلكة. لقد كشف الربيع العربي هشاشة
الأنظمة العربية السلطوية، وضعف بنيتها، وخواء خطابها. وحتى قبل الربيع العربي
فشلت الدولة العربية في الإقناع، ومارست القمع بسذاجة، وزورت الانتخابات بفجاجة،
وصادرت الحريات بفظاظة. ونخب ما بعد الثورات العربية لا يقل أداؤها سوءاً وتخبطاً
عن تلك المطاح بها، والأداء المزري لكل من الحكومة والمعارضة في مصر عبر العامين
الماضيين خير دليل.
عبثاً توالت الصدمات على المنطقة العربية محذرة ومنذرة من الدرك الذي سارت
إليه الأمة، ومشجعة على تصحيح المسار وضبط الاعوجاج. فقد أظهرت الحملة الفرنسية
على مصر في 1798م للمصريين حجم الهوة الحضارية بينهم وبين الفرنسيس المدججين بمنتجات
وأدوات العصر: الأسطول والسلاح والمطبعة والكتاب. وغقب هزيمة 1967م، اعتبر تيار من
مفكري ومثقفي العرب أن الجيوش العربية دحرت لأن قادتنا لم ينشئوا دول ما بعد
الاستعمار على أساس علمي، ومؤكدين أن قلب الموازين العسكرية يتطلب بالاساس قيام
نهضة علمية وتكنولوجية. فكان أن رفع نظام السادات في السبعينات شعار "دولة
العلم والإيمان"، وتباهى رجال صدام حسين في الثمانينات بما أسموه
"المعجزة العراقية"، فيما تغني أنصار القذافي بهتاف: "علم يا قايد
علمنا بيش نحقق مستقبلنا". شعارات براقة زينت الجدران وألهبت الحناجر فحسب،
وبقي الواقع على حاله البائس.
***
يكفي أن نتطلع في وجوه رواد المقاهي العربية وقت إذاعة المباريات العالمية،
وهم مشدوهون إلى براعة ومهارة لاعبي الكرة في "العالم الآخر" المتطور،
ويتمتمون بعبارات لاذعة تقارن - بوعي أو بدون وعي - بين براعة لاعبيهم وتواضع
لاعبينا حتى نكتشف حجم الطامة. وما تفوق الألمان في بطولات الأندية الأوروبية هذا
العام إلا نهل من نفس المنبع الذي قاد أجدادهم منذ نحو سبعين عاماً لابتكار طرق
جديدة للقتل. لقد ذهب الشاعر أدونيس إلى أن العرب انقرضوا، إذ لم يسهموا رغم
تكاثرهم عددياً بأي شيء ذي منفعة في مسيرة الحضارة الإنسانية عبر المائة عام
الماضية. واستمرار هذا الاقتران الكارثي للخصوبة البيولوجية بالعقم الحضاري سيفاقم
الداء ويطيل أمد الغيبوبة.
إنه العلم، فهلا تعلمنا شيئاً من مظاهره المحيطة بنا من كل حدب وصوب، كقفزات
التكنولوجيا، وثورة الاتصالات، وسباقات الفضاء، والاكتشاقات الطبية، أو حتى الهولوكوست
ومباريات الكرة؟
د. نايل شامة
* نُشرت هذه المقالة
بموقع الحوار المتمدن (بتاريخ 18 يونيو 2013).
No comments:
Post a Comment