لماذا استوطنت حمى الهستيريا ضفاف نهر النيل في مصر؟ لماذا غمر غبار الحرب
ومفرداتها وطقوسها وشعائرها حياة المصريين؟ لماذا طفقت سرديات نظرية المؤامرة تبسط
وجودها على كافة النقاشات حتى غدت طقساً وطنياً بامتياز؟ لماذا جرى على نحو محموم
(بل ومسموم) توظيف الشعارات والأغاني الوطنية سياسياً؟ إجابة كل تلك الأسئلة وثيقة
الصلة بالشرعية السياسية ومصادرها. فالشاهد أنه ثمة إفلاس سياسي اليوم يشابه إفلاس
جماعة الإخوان المسلمين حين كانت في السلطة، فاستدعت الدين لترميم السمعة وتثبيت
الشرعية. بدوره استدعى مأزق الشرعية الراهن هرولة حتمية باتجاه خطاب الوطنية
الزاعق، وذلك لانتفاء البدائل وغياب كل مصادر الشرعية الأخرى.
لا يمكن مثلاً للنظام السياسي في مصر أن يستمد مشروعيته من جدية الالتزام
بمباديء الديمقراطية والشرعية الدستورية. فقد أطاح هذا النظام في لحظته الأولى
برئيس منتخب ديمقراطياً، ولم يبادر بعدها بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة كما طالب
متظاهرو 30 يونيو. كما أن إصدار قانون التظاهر والتنكيل بالنشطاء واستمرار
انتهاكات حقوق الإنسان لا يدع أي مجال للتباهي باحترام الديمقراطية، والواقع أنه
حتى المسئولون يعلنون صراحة أن استعادة الأمن (وليس تعزيز الديمقراطية) تأتي على
رأس أولوياتهم.
أيضاً لا يملك النظام الجديد جسارة رفع لافتات مناهضة إسرائيل، أو الادعاء
بالانكباب على نصرة الشعب الفلسطيني، خاصة في ظل استمرار التنسيق الأمني مع
إسرائيل ووصول الجفوة مع حركة حماس إلى حد انقطاع التواصل. لقد بدا واضحاً خلال
الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة أن قضايا التنمية والاقتصاد لا السياسة
الخارجية هي شاغل الرئيس الجديد، وأن القضية الفلسطينية ليست على أجندة سياسته
الخارجية على المدى القصير، وأن تعبيره الأثير "مسافة السكة" موجه
أساساً لدول الخليج الغنية بالنفط والمساعدات.
كما لا يمكن الاستناد إلى شرعية الإنجاز في ملفي الاقتصاد والخدمات (حتى
الآن على الأقل) مع استمرار تفاقم مشاكل نقص الوقود وانقطاع الكهرباء وارتفاع
الأسعار. أما سياسياً فقد تصدع تحالف 30 يونيو الذي أقصى محمد مرسي في العام
الماضي. عاد محمد البرادعي إلى منفاه الاختياري، وآثر حمدين صباحي السلامة، وعاد شباب
الثورة إلى سيرتهم الأولى: غاضبون ومعارضون، ومن ثم مهمشون ومهشمون. ولأن الخواء
السياسي ينبغي ملؤه، فلم يبق للنظام الجديد سوى أن يبني معمار شرعيته على الأعمدة
الآتية:
أولاً، الشروع في إقامة شرعية جديدة، قوامها "ثورة" الشعب في 30
يونيو، والتحامه مع الجيش لتخليص الوطن من براثن الفاشية الدينية. التمكين للشرعية
الجديدة يتطلب بداهة القضاء على شرعية 25 يناير وإهالة التراب على صناعها وأهدافها،
أو على الأقل تنحيتها عن الوعي العام. من هنا بمكن فهم حملة التشويه التي تتعرض
لها ثورة يناير بلا هوادة من جانب ساسة وإعلاميي النظام الجديد. على سبيل المثال،
وُصف ثوار يناير من قبل وزير التموين في حكومة حازم الببلاوي ب "الخونة
والإرهابيين"، دون أن يبادر أي مسئول إلى الاعتذار أو النفي أو التوضيح، ما
يشير إلى رضا السلطة أو على الأقل عدم انزعاجها من مضمون هذه التصريحات.
ثانياً، تبني خطاب شعبوي عتيق يلتحف برداء الوطنية، ويشعل لهيب المشاعر
بالإلحاح على أن أخطاراً محدقة تكاد أن تنال من وحدة الوطن وسلامته، حتى لو أدى
ذلك الخطاب إلى تعزيز ثقافة الكراهية ضد الآخر في الداخل، وتلويث علاقات مصر مع
الخارج. إن أردأ هوية تلك التي يقوم فيها تعريف الأنا أساساً على كراهية الآخر. ولقد
أدى التعاطي الديماجوجي لوسائل الإعلام في الشهور الأخيرة بالفعل إلى تقسيم الوطن
نفسياً إلى فسطاطين، وهو أمر لا يقل خطورة عن التقسيم الفعلي، وإلى نشوب أزمات
دبلوماسية مع ثلاث دول على الأقل، ما استوجب اعتذاراً رسمياً من وزارة الخارجية
المصرية في حالتين منها (مع الولايات المتحدة والمملكة المغربية).
وغني عن البيان أن الوطنية الحقة رباط فكري ووجداني يجمع أبناء الوطن
جميعاً في مجتمع قادر على تحديد مرتكزاته الأساسية، وعلى إدارة تناقضاته الداخلية.
أما الوطنية السائدة الآن فهي في جوهرها وطنية رثة، إذ أنها مجرد أداة لكسب النقاط
السياسية وإقصاء المخالفين. فلأن الرموز تعكس بالضرورة واقعاً أو معنى ما، فلابد
بداهة من وجود صلة عضوية بين الأصل والرمز المشير إليه، أما إذا انتفت تلك الصلة، تصير
الرموز مجرد أوثان، تعبد لذاتها وبشكل تجريدي من دون الإله الأصلي. بعبارة أخرى، ما
الفائدة من علم يرفرف عالياً في السماء أو نشيد يصدح في الأركان فيما أبناء الوطن يهيمون
في تيه أرضه وغياهب سجونه؟
ثالثاً، استدعاء تجارب تاريخية زاخرة بالمعاني وقادرة على إثارة الشعور بالنوستالجيا
(مثل تجربة جمال عبد الناصر)، ثم الالحاح على أن الحاضر يستنسخ الماضي، رغم اختلاف
السياق والرجل والتجربة.
لقد كان جمال عبد الناصر منذ الصغر متمرداً على واقعه، عصياً على الانصهار
في بوتقة نظام فاسد، ولذلك ثار عليه وهو لم يكمل بعد الخامسة والثلاثين من العمر.
أما عبد الفتاح السيسي فاستمر يتدرج في المناصب في عهد حسني مبارك حتى صار مديراً
للمخابرات الحربية، واصفاً إياه حينئذ في حفل رسمي ب "ابن مصر البار". كما
أن انحيازات عبد الناصر الاجتماعية والاقتصادية وسياسته الخارجية تضعه حتماً على
طرف نقيض مع ما هو ظاهر حتى الآن من توجهات السيسي. لكن في الالتحاق باسم عبد
الناصر وسؤدد مجده وإنجازاته (لإضفاء المشروعية على الوضع الراهن) إغواء لا يقدر
الكثيرون على كبح جماحه.
لم يكن غريباً أن يجيء الشعار السياسي لحملة السيسي الانتخابية خالياً من
أي رسائل أو توجهات سياسية محددة، ومكتفياً بالنداء المجرد "تحيا مصر".
فمن معين الوطنية ينهل الرجل وقود شرعيته، وعلى سنام مشاعرها العنفوانية يوطد حكمه
الوليد. لكن "خطاب" الوطنية لا يغني عن فعلها ومعناها ومرادها، وحين
ينقشع الوهم وتتبدد السحب، سيجدر به أن يقدم لشعبه ما هو أكثر من حمل الراية،
وغناء النشيد، والخطابة في مهرجانات الأمن القومي.
د. نايل شامة
* نُشرت هذه المقالة
بموقع الحوار المتمدن (بتاريخ 12 سبتمبر 2014).