حديث التغيير المحتوم في مصر
يجرنا شئنا أم أبينا إلى حديث الثورة بمفهومها الضيق، أي المظاهرات والاعتصامات
وسائر الاحتجاجات الشعبية التي تؤدي إلى حدوث تغيير في قمة السلطة يمهد الطريق
لتغيير النظام برمته. هذا الاقتران الشرطي في ذهنية كثير من المصريين راجع لسببين
أساسيين. الأول هو تجربة الماضي القريب، متمثلة في 25 يناير و30 يونيو، اللتان
صارتا جزءاً لا يتجزأ من وعي الشعب ونظرته إلى وسائل التغيير. أما الثاني فهو
انسداد وسائل التغيير السلمي من داخل النظام، بل ووفاة السياسة عملياً في العهد
الحالي، ما يجعل التغيير من داخل إطار المؤسسات الحالية أمراً يكاد يكون مستحيلاً،
ولذلك تتكرر الإشارة إلى عبارة جون كينيدي الأثيرة - "هؤلاء الذين يجعلون
الثورة السلمية مستحيلة يجعلون الثورة العنيفة حتمية" - في أدبيات المنشغلين
بالشأن العام في مصر.
التوق إلى الثورة
أدى إلى اختزال التغيير في الثورة، بل وتقديس الثورة ورفعها فوق مستوى التناول والنقد.
ثمة إشكاليات عدة تنبثق من ذلك المنحى. فمن حيث المبدأ يبدو أن البعض وقع بوجدانه
أسيراً للثورة وصورها ورموزها، فنسى أن الثورة وسيلة وليست غاية في حد ذاتها، فركز
أنظاره على الوسيلة متناسياً الغاية الأخيرة التي يرتجى الوصول إليها. والواقع أن
التاريخ الإنساني يزخر بتجارب كثيرة تجاوزت فيها الوسائل الغايات وابتلعتها. مثلاً،
طور العالم الأسلحة كوسيلة لاستخدامها لغاية محددة هي الحرب، لكن تطور صناعة
السلاح وزيادة القدرة التدميرية الفتاكة لتلك الأسلحة (وخصوصاً الأسلحة النووية)
جعل الحرب نفسها مستحيلة، وإلا خسر الطرفان ودُمر العالم بأسره.
ثم أن الجنوح
للثورة أمر محفوف دوماً بالمخاطر، ولهذا لا يجب اللجوء إليها إلا اضطراراً، لا
السعي إليها هرولة بغض النظر عن السياق والتداعيات والنتائج. ولعل الجميع يدرك أن
الأوضاع في مصر - الآن وفي المستقبل القريب - أسوأ كثيراً مما كانت عليه في 2011م،
وعلى جميع المستويات. فالاقتصاد يمر اليوم بأزمة عضال لم يشهد مثلها منذ ثلاثين
عاماً على الأقل، أما السنوات السابقة لثورة يناير، فشهدت تحسناً نظرياً في بعض
المؤشرات الاقتصادية مثل معدل النمو، لكن أحداً لم يشعر بثماره بسبب سوء التوزيع
وتوحش الفساد. أيضاً تراجعت وطأة العمليات الإرهابية في مصر مبارك منذ عام 1997م،
ثم شهدت مصر هدوءاً كبيراً في السنوات الخمس السابقة على الثورة (باستثناء حادث
كنيسة القديسين في الإسكندرية)، فيما وصل الوضع الأمني اليوم إلى ما هو أخطر بكثير.
ثم أن رد فعل القوى المعادية للثورة لن يقف عند حدود التحريض الإعلامي الساذج أو
استخدام أرباب الجمال للهجوم على المتظاهرين كما حدث في يناير. لقد تعقدت بشدة
شبكات المصالح المستفيدة من الوضع القائم، وامتدت بطول البلاد وعرضها، والأرجح أن
يستميت أصحابها للدفاع عن مصالحهم بكل قوة وقسوة. سيناريوهات المستقبل إذن إما
غائمة أو كابوسية تشيب لها النواصي، لذا فالحسابات السياسية والإنسانية مطلوبة،
والبحث في الخيارات والاحتمالات فريضة، والتريث ضروري،، وليس في ذلك أي نقيصة أو
عيب.
وحتى إذا وصلنا في
مصر إلى وضع لا يتأتى تغييره بغير طريق الشارع وانتفاضته، وهو أمر محتمل، فإن دور
الشارع سيقتصر على إطلاق شرارة التغيير، لا بلورة محتواه وتحديد مآله. لقد أبدع
الشباب أيما إبداع في ثورة يناير، راسمين في جمهورية التحرير صورة بديعة، بكفاءة
التنظيمً وبسالة التصميم وروعة الالتزام ورقي المعاملة. لكنهم - ومعهم زمرة
السياسيين والمثقفين - فشلوا أيما فشل في المرحلة الانتقالية التي دُشنت بعد رحيل
مبارك. سيطر سلطان الغضب والإفراط في العفوية، وغاب التحليل السليم لما هو حاصل
ولما هو آت، واختفى التنظيم والتخطيط، وساد التشرذم القوى الثورية من بعد التوحد،
وشاع الانغماس في معارك جانبية لا طائل من ورائها. ولذلك صحت فيهم مقولة الشاعر
أحمد شوقي: "قادة الثورة مقودون بها، كالجلاميد تقدمت السيل، تحسبها تقوده
وهي به مندفعة". ولم يكن غريباً بالتبعة أن تُهزم الثورة وتُنكس راياتها في
أعين قطاعات واسعة من الشعب قبل أن تسحق على يد السلطة وهراواتها.
وفي العموم، يبقى
أن الانفجار الثوري لحظة، أما التغيير فعملية مستمرة من العمل المضني تدوم شهوراً
وسنوات، تتعرج وتنعطف فيها المسارات مراراً قبل أن تصل لمحطتها النهائية. فما
الضمان على أن مصير يناير التعس لن يتكرر إن كرر الظرف التاريخي نفسه مرة أخرى؟
***
إن الشد والجذب
في أوساط المثقفين بين مدرستي الإصلاح والثورة، وما بينهما من ظلال وأطياف وتخوم،
قديم قدم الفكر الإنساني، ولا يعكس بالضرورة الفرقان بين فسطاطي الحق والباطل، بل
هي فقط تصورات ورؤى مختلفة تبغي الوصول لعين الهدف. اختلف الفلاسفة مثلاً حول
الثورة الفرتسية، فعارضها ادموند بيرك بشدة في كتابه "تأملات حول الثورة في
فرنسا"، معرباً عن ثقته في أن التغيير الراديكالي لا يجدي نفعاً، وأن الثورة
بالضرورة ستزيد الأوضاع سوءاً. أما توماس باين فكان من أشد أنصارها وملهميها، من
خلال كتابيه "المنطق السليم" و"حقوق الإنسان". كما تفرقت
السبل بمنظري الثورة الشيوعية في نهاية القرن التاسع عشر، فكان هناك إدوارد
بيرنشتاين الداعي إلى مراجعة أفكار كارل ماركس، وكانت هناك الثورية روزا لوكسمبورج
التي انتقدت أفكار بيرنشتاين في كتابها الشهير "إصلاح اجتماعي أم ثورة؟".
أيضاً، في ظل احتدام الصراع في مصر مع السراي والإنجليز في عشرينات القرن الماضي،
قال السياسي مكرم عبيد: "دلوني على الطريق، أثورة؟ ... نحن لسنا رجال ثورة.
وأما الانتخابات فلندخلها"، فيما تحمس آخرون لاستئناف ثورة 1919م. وبالمثل،
آمن الاشتراكيون الإنجليز من أتباع الجمعية الفابية - مثل الكاتب برنارد شو
والإقتصادي سيدني ويب - بالإصلاح التدريجي الهادئ عوضاً عن التغيير بواسطة الثورة
الشاملة.
بيد أن معسكر
الثورة في مصر نزع بإسم الحفاظ على النقاء الثوري المحض إلى تقديس الثورة بشكل
مطلق، ورفض كل ما عداها. أنتج ذلك تزمتاً، وإفراطاً في التشدد مع المختلفين في
الرأي، حتى هؤلاء المنضويين تحت لواء الثورة. ولذلك انتشرت لغة التخوين وسادت
الشتائم في أوساط الثوار منذ يناير وحتى الآن. ثمة مفارقة كبيرة هنا، وهي أن
الثوار تحولوا في تعلقهم هذا بفكرة الثورة واستبسالهم في الدفاع عنها لمحافظين
متصلبي المزاج لا ثوريين حقيقيين. إذ ما الثورة سوى يقظة واعية، واستمرار أبدي في
إعمال العقل، والتعاطي مع الأفكار، وتقليب الأمور على جوانبها؟ يشبه هذا التشدد ما
ذهب إاليه فلاديمير لينين من وصف كارل كاوتسكي بالمرتد (renegade) في كتابه الشهير "الثورة
البروليتاربة والمرتد كاوتسكي". كان كاونسكي قبلها أحد منظري الماركسية
العتاة، ووُصف كثيراً "ببابا الماركسية". ثم اختلفت رؤى الرفيقين حول الثورة والحكم وطبيعة الدولة
السوفيتية الناشئة، وما لبث أن استحال الاختلاف خلافاً، ثم استعر الحلاف وتحول إلى
عداء مستطير. وكان أن قال لينين بعدها: "أنا أكره وأحتقر كاوتسكي الآن أكثر
من أي وقت مضى ، بحقارته وقذارته وزهوه بنفاقه". أما روزا لوكسمبورج فوصفت
كتابات كاوتسكي بأنها "سلسلة مقرفة من شبكات العنكبوت". وفي السنوات
الأولى للثورة الإيرانية، استفحل الخلاف بين الإمام الخميني ونائبه آية الله حسين
منتظري (وهو أحد قادة الثورة ومنظريها)، ما أدى إلى فرض الإقامة الجبرية على
الثاني، وإبعادة كلية عن حقل السياسة والفتوى.
نرى ما يشبه هذا الفُجر
في الخصومة في سجالات الثوار المصريين ومناقشاتهم، حيث التطاوس الأجوف، والنزعة
إلى نفي الغرماء ووصمهم بالخيانة ووصد الأبواب أمام آرائهم، وتبادل ذرابة الكلام وقاسي
النعوت عند أول خلاف في وجهات النظر دون أن يندى لأحدهم جبين. أنى للتغيير الحق أن
ينجح في تخليص الوطن من ربقة الاستبداد إن كان هذا النزق الطفولي هو سمت جنوده
الأوفياء؟ وأنى لنا أن نصل إلى الديمقراطية إن كانت قيم كثير من الساعين
إليها ديكتاتورية وإقصائية بامتياز؟
وبصرف النظر عن
مثالب ومناقب نهجي الإصلاح والثورة، فإن ثمة أمران رئيسيان يجب وضعهما دوماً في
الاعتبار. الأول أن الثورة في الأساس إدراك وتفكير، وليست تعصباً وبغضاً وحزبية
وعلواً في الصوت وضيقاً في الأفق. ليست هذه بالطبع دعوة إلى المهادنة مع الظلم، أو
القبول بالاستبداد وسياساته، أو حكم الأقلية ورجاله، بل هي دعوة إلى إعمال العقل،
وتعاطي السياسة، والتخلص من إسار العاطفة حين تدق ساعة العمل. الأمر الثاني أن إرادة
الفعل لا قيمة لها إن لم يسبقها حرية العقل. فالتفكير هو أساس التقدم الإنساني، أو
كما قال هيجل أساس إعادة إنتاج البشرية لذاتها (sich selbst produzieren)، ثم
جاء ماركس واستبدل قيمة التفكير بالعمل. أما الحقيقة فما هي إلا شك يؤدي لليقين
ويقين قابل للشك. لكن العقل الثوري في مصر كثيراً ما يتنحى مفسحاً المجال لطغيان
المشاعر وفيضان الغضب وتدفق شحنات الوجدان، في حالة من الانجراف لا يشكمها منطق أو
تلجمها رشادة.
حري بالثوار
النبلاء ألا يقعوا فيما وصف به الفيلسوف نافذ البصيرة اومبرتو إكو الفاشيين، حين
قال أنهم صاروا أسرى للعمل أو الحركة (action)، فالحركة في نظرهم جميلة في
حد ذاتها ولهذا يجب الاعتماد عليها بدون أن يسبقها أو يرافقها أي تدبر، فالتفكير شكل
من أشكال الخصي. فليكن العقل نبراسنا دوماً على درب الحرية، أليس العقل بعماد
الحرية في نهاية المطاف؟
وللحديث بقية في
الجزء القادم من المقال.
د. نايل شامة
* نُشرت هذه المقالة بموقع المنصة (بتاريخ 30
أغسطس 2017).