Thursday, September 7, 2017

يوم تحين لحظة التغيير في مصر (3): ماذا تعلمنا من التجربة؟

سنوات ست ونيف مضت منذ لحظة الخامس والعشرين من يناير في 2011م، مر فيها الوطن بأكثر التجارب السياسية ثراءاً في تاريخه الحديث. كانت أيام مبارك في مجملها قليلة الأحداث، ضعيفة المردود، خافتة التأثير. تتابعت الوقائع على مدار ثلاثين عاماً بإيقاع ثابت رتيب ممل، يبعث على الخمول والكسل العقلي. وبغتة جاءت يناير وما بعدها، كسيلٍ عارم عرمرم في بركة ميتة، مفسحة المجال لطبقات من التفاعلات الكثيفة بين شبكات من الفاعلين والمشاركين. توالت الأحداث في الدهاليز والثكنات والميادين واستوديوهات التليفزيون، ومع كل حدث عبرة تتجلى، ومع كل انعطافة درس يتكشف، وفي كل قرار مناسبة للتدبر واستخلاص العبر. سنوات ست من الصعود والهبوط والاضطراب والتقلب والرجرجة، لكن بعد هذا الفيض من التفاعلات يجدر السؤال: ماذا تعلمت الأطراف المختلفة حقاً من هذه التجربة الثرية التي عايشتها عن كثب؟ هل عرفنا على وجه اليقين لِمَ لم نتمكن من تجنب المصير الذي آلت إليه يناير؟ وكيف السبيل إلى تجنبه حين تحين "يناير" أخرى؟  
مثلاً، ماذا تعلمت السلطة حقاً من زلزال الثورة؟ هل تفهمت أخيراً أن مفهوم السياسة أوسع كثيراً من مفهوم الأمن؟ هل أدركت أن المشاركة السياسية أساس أي نظام مستقر وقابل للحياة؟ هل أتاها حديث المنطق، فعرفت أن الاستئثار بالسلطة لا يدوم، وأن تأليه الحاكم لعنة تعجل بالنهايات، وأن تكميم الأفواه لا يمنع العقول من التفكير؟ ثم هل - وهو أضعف الإيمان - نما وعيها السياسي، أو صحا ضميرها الإنساني، فأدركت أن الممارسات التي تنتهك كرامة المواطنين لا تقيم أود الدولة ولا تعزز هيبتها، فضلاً عن انحرافها عن جادة كل دين وقانون؟ كلها لاءات تنضح بعمق الأزمة وصعوبة الحل، بل الأدهى أن أهل السلطة ما برحوا يعتبرون أن ثورة يناير إما مؤامرة، أو في أفضل الأحوال "وعياً زائفاً" أدى إلى "تحرك" غير محسوب كاد أن يسقط الدولة وينشر الفوضى. وعوضاً عن تفعيل التغيير اكتفوا بمغازلة الحالمين بالتغيير، يعدون بالرخاء والناس جوعى، ويبشرون بالأمن والناس مذعورون، ويرقصون على نغم العصر الذهبي المرتقب والبلاد في خراب مقيم.
وغلى الجانب الآخر من الصدع الوطني الكبير، ماذا تعلم الإخوان المسلمين من مأساة صعودهم وسقوطهم السريع إبان الثورة؟ هل اقتفوا أثر تجربتي 1952-1954 و 2011-2013م بدقة وأناة، ورصدوا دلالاتها ودروسها؟ هل بلغهم خطر خلط السياسة بالدين أم مازالوا في غيهم يعمهون، يعبون من قدح المظلومية ويعيدون إنتاج سائر الأفكار العتيقة؟ هل قاموا بمراجعة شاملة لعامهم البائس في السلطة مستخلصين مواضع الخلل ومواطن الزلل؟ لم يتغير كما يبدو شئ في أفكار الجماعة المترهل عقلها الجمعي سوى انزلاق فريق منهم نحو العنف السياسي، فصاروا كالمستجيرين من الرمضاء بالنار، يداوون الداء بداء أشد منه فتكاً.   
وماذا عن الأحزاب السياسية؟ للأسف يبدو أن أغلب قادتها وكوادرها لم يدرك بعد أن الصراع الحقيقي إنما هو بين مناصري الديمقراطية وأعدائها، لا بين الليبراليين والإسلاميين أو بين الليبراليين والاشتراكيين، وأنه لا إصلاح حقيقي بدون تعديل في طبيعة العلاقات المدنية-العسكرية القائمة. كما لم يظهر أيهم برهاناً على الإلمام بشروط وعقبات عمليات الانتقال الديمقراطي، كما أظهرتها عشرات من تجارب الدول عبر العقود السبعة الماضية، ومئات من الكتب والدراسات حول تلك التجارب. ثم يبدو أن الأحزاب لم تتعلم أن مغبة الخضوع والقبول بقواعد اللعبة كما ترسمها السلطة، أوخم من مغبة الممانعة، وأن ثمن دعم الاستبداد فادح، وأنها ستكون هي أول من يدفعه. وعلى الصعيد التنظيمي، مازال العراك والتشرذم والشللية وتغليب المصالح الشخصية مهيمناً على سلوكها وتوجهاتها.   
ثم ماذا عن السواد الأعظم من الشعب؟ هل صقلتهم التجربة وأيقظتهم الأزمة؟ ألم يصيبهم الجلوس في مقاعد المتفرجين بالضجر بعد؟ هل نفضوا عن أنفسهم غبار الضعف ووثاق الاستكانة وكفوا عن مؤاخاة اللامبالاة وشرعوا في طريق الوعي ولو بخطوة ؟ هل عرفوا أن الاستبداد مهلك، وأن اليقظة فرض وأن الخلاص للمنتفضين من أجل حقوقهم وعد؟ هل أدركوا أن جدارتهم بإنسانيتهم مرهون بالفكاك من عبادة القوة والهرولة بلا كلل وراء السراب؟  
***
وكأن مصر قد كتب عليها منذ أمد بعيد أن تدور بلا توقف في فلك آليات سيزيفية سرمدية يلوح فيها الأمل مع فجر كل تجربة، ثم ينقشع الوهم، ويتبدد الأمل، وتبوء كل تجربة بالفشل في نهايتها، ثم تتكرر الكَرَّة من البداية مرة أخرى. حماس فترقب فخيبة أمل فشعور طاغ بالهزيمة، وهكذا دواليك. تحمس الشعب "للحركة المباركة" في يوليو 1952م، آملاً في أن يكون في حكم "الضباط الأحرار" بديلاً حسناً لتسلط الملك وفشل الأحزاب السياسية. ثم اتقدت المشاعر وارتفع منسوب الحماس مع جلاء الإنجليز وتأميم قناة السويس والتصدي للعدوان الثلاثي. ثم ما لبثت أن وقعت أقنعة الناصرية وبدت عيوب التجربة شيئاً فشيئاً حتى زالت ورقة التوت الأخيرة مع هزيمة 1967م. 
تكررت الديناميات نفسها مع الرئيس السادات، الذي بدأ عهده بوعود القضاء على مراكز القوى وهدم المعتقلات وتدشين دولة القانون. استبشر المصريون خيراً بتلك الإيماءات، وارتفعت حرارة الاستبشار بالمستقبل إلى عنان السماء مع حرب أكتوبر المجيدة. ثم فتر ذلك الحماس بالتدريج بعدما تعثر الاقتصاد، وساد منطق الانفتاح "سداح مداح"، وحين اتضح أن للديمقراطية مخالب وأنياب حقيقية أودت في سبتمبر الغضب بآلاف السياسيين والمثقفين في غياهب السجون في ليلة واحدة. ظهر أن الليلة تشبه البارحة بل هي امتداد لها. ثم جاء مبارك، فأخرج المعتقلين السياسيين، وبشر بشعار "صنع في مصر"، ووعد بألا يبقى في السلطة لأكثر من فترتين، ثم انتهى إلى ما انتهى إليه من فساد وعناد وتوريث وجمود وفشل محقق.
مع تتابع متواليات التاريخ الحديث، وبعدها دراما سنوات يناير، راحت السكرة وجاءت الفكرة مراراً وتكراراً، لكن الجميع لم يتوقف عن معاقرة الغفلة. يحدث هذا في ظل ثقافة تلح على فكرة أن "المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين"، وأنه "لا حكيم إلا ذو تجربة"، وأن "التجربة خير برهان". باختصار، إن كانت التجارب الماضية رغم تكرارها وثرائها قد تركت فينا من رواسب الحزن ودواعي القنوط ما يفوق ما منحته من نفحات المعرفة، فإن المنطقي أن نكون مثل أولئك الذين لا يعون ماضيهم فيكتب عليهم أن يعيدوه، فنفشل في اقتناص الفرصة حين تداهمنا في المرة القادمة، ثم نبكي على أطلالها ناعين زوال الألم وضياع الحلم.   
وبعد، هل يمكن لمن صارت الغفلة من طبائعهم أن يصنعوا التغيير المنشود؟

وللحديث بقية في الجزء القادم من المقال.     

د. نايل شامة
* نُشرت هذه المقالة بموقع المنصة (بتاريخ 7 سبتمبر 2017).       


No comments: