تباينت الطرق التي نظر القوم من خلالها إلى
الشأن السوري النابض بالأحداث والصور والمشاعر منذ عام 2011م. هناك من أطبقت عليهم
قسوة الأحداث الصواعق - جنون الموت الذي سرى، وبحور الدماء التي أريقت، والمدن
التي صارت خرائب ينعق البوم في أطلالها - فتعلقوا بأهداب العاطفة، باحثين في ثنايا
مبكاها عن السلوى والنسيان. وهناك من فروا إلى الماضي التليد، متشبثين في مواجهة
الحدث الطازج بالأفكار المعلبة؛ رافعين لواء القومية العربية، ولاعنين الاستعمار
وسنينه، ومبشرين بنصر قريب. وهناك من أووا إلى الكهف البهيم، واستعصموا بغض البصر
هرباً من ألم تنوء به القلوب وقلق يجافي الطمأنينة.
لكن هناك أيضاً اولئك الذين لا يلوون على شئ
سوى تقصي الحقيقة، الحقيقة وحدها، بغض النظر عن وعثاء السفر وآلام الرحلة. ربما
كان بالفعل المدخل الأهم للتعاطي مع ما حدث ويحدث في سوريا هو الاستئناس بالعقل
عبر مواجهة الأسئلة والإشكاليات الجوهرية التي يطرحها واقع الصراع المعقد هناك،
والتي لا مناص من مواجهتها والإجابة عليها. فقد طرح الصراع السوري على العقل
العربي مجموعة من الأسئلة الصعبة وغير المسبوقة، فإما أن يواجهها بشجاعة وتجرد،
وإما أن يغض الطرف عنها هرباً من برحاء الفكر ومشقة المواجهة، فاتحاً الطريق على
مصراعيه لمآسي أخرى وأوجاع جديدة. من هذه الأسئلة المهمة سؤال "الدولة"،
تعريفها ومسئوليتها وشروط وجودها، وسؤال الجيش الوطني، تكوينه ومهامه ودوره. فمع
عسكرة الثورة السورية وتنامي نفوذ الجماعات المتشددة المسلحة واشتداد أوار الصراع
بينها وبين الدولة، انبرى البعض دفاعاً عن "الدولة" في سوريا وعن جيشها "الوطني"
الذي يواجه عصابات مسلحة تتخذ الدين مطية والإرهاب منهجاً. الأمر في نظر هؤلاء
بسيط ومحسوم ولا يحتمل أي جدال: ثمة دولة وطنية وجيش وطني يواجهان ميليشيات مسلحة،
فمن الأولى بالمساندة؟ الدولة وجيشها بالطبع.
لكن هل الأمر حقاً كذلك؟ أم أنه ثمة لثاماً
ينبغي إماطنه؟
الدولة القومية بين الحقيقة والوهم
للولوج في نقاش شائك كهذا، لا مفر أولاً عن
فهم ماهية الدولة القومية (nation-state)
من منظور العلوم السياسية، باعتباره مفهوم سياسي من الطراز الأول. فالمجتمعات
الإنسانية وهي تحاول تنظيم نفسها منذ الأزل مرت بمراحل مختلفة وصيغ متنوعة، منها
الإمبراطوريات والممالك والإمارات والإقطاعيات والدول البابوية ودول المدينة ذاتية
الحكم (city-states) وحكم القبائل. آخر هذه الصيغ
هي صيغة الدولة القومية التي ولدت مع اتفاقية وستفاليا في القرن السابع عشر، ثم
انتشرت حول العالم في القرون التالية حتى وصلت إلى المنطقة العربية في النصف الأول
من القرن العشرين. تتمتع هذه الدولة بسيادة مركزية معترف بها على إقليم جغرافي محدد،
ولها إطار سياسي وقانوني واضح، ودستور وراية ونشيد وطني، ومواطنون متساوون في
الحقوق والواجبات، وهي الدولة التي يفترض أنها تجمع تحت مظلتها أبناء أمة واحدة،
أو (Volk)، وهو المفهوم الذي استعارته
الإنجليزية من الفلسفة واللغة الألمانية.(1)
ليست الدولة إذن هبة سماوية ولا لها طبيعة
مقدسة، بل هي كيان مصنوع. وعلاوة على ذلك، وبالنظر إلى تاريخ إنساني أستمر آلاف
السنين، تعد الدولة صيغة حديثة للغاية، فضلاً عن أن حدودها غير ثابتة أو مقدسة، بل
هي قابلة للتعديل المستمر. فقد تفككت مثلاً دول كالإتحاد السوفيتي واليوغوسلافي
والتشيكوسلوفاكي ليتشكل منها عشرات الدول المستقلة. وحتى في الوطن العربي، حيت
تنتشر هرطقة عبادة الدولة، تكرر هذا النسق غير مرة في العقود الست الأخيرة. مثلاً،
اتحدت مصر وسوريا وشكلا الجمهورية العربية المتحدة في 1958م، ثم ما لبث أن انفصم
عراها بعد ثلاث سنوات ونصف، كما انقسم اليمن واتحد ثانية (وربما ينقسم جنوبه
مجدداً)، وبزغت عدد من دول الخليج ككيانات سياسية مستقلة في السبعينات، وظهرت دولة
جنوب السودان في 2011م، وما فتئ الأكراد منذ عقود يطالبون بدولة مستقلة. إذن، شئنا
أم أبينا، فإن الدول القومية قد تتحد أو تنقسم أو تتغير حدودها تبعاً لتغير الزمن
والظرف.
الإشكالية أنه وبإستثناء دول قليلة مثل
اليابان وأيسلندا ومصر، فإن غياب التماثل بين حدود الدولة والأمة ظل هو القاعدة
الرئيسة في عالم الدول القومية، وخصوصاً في الوطن العربي وأفريقيا، حيث ولدت معظم
الدول بقرار فوقي، وبلا أي تطابق بين الدولة السياسية وبين هويات وانتماءات
مواطنيها. وكان من نتاج انتشار الهويات فوق القومية وتحت القومية في هذه الدول
اندلاع العديد من الصراعات بين الدول وفي داخل الدول. الأدهى من ذلك، وربما
بالتحديد بسبب ذلك، عمدت النخب الحاكمة في هذه الدول إلى "خلق" هوية
جديدة لهذه الكيانات السياسية الوليدة، عبر استخدام فخاخ من رموز وصور وأغاني
وكلمات نافذة تمس الأفئدة.
عمت التجارة بالأوطان فضاعت الحقيقة أدراج
الضلال المبين. غاب مفهوم الدولة كتنظيم بشري قابل للتغيير رغم بساطته عن أذهان الكثيرين
في الوطن العربي، وسادت تصورات مشوهة عن مفهوم الدولة وتاريخه، إما جهلاً بالمنطق
والتاريخ، وإما بسبب انتهازية من يروق لهم استدامة الوضع الراهن بفلسفته وأطره
ودينامياته. فمن أجل تثبيت دعائم حكمها، عملت النخب الحاكمة في الأقطار العربية
على الترويج لخرافة أن الدولة كيان مقدس ودائم أبد الآبدين، وأن الولاء لها من حسن
الفطن والخروج عليها خيانة عظمى، وأن حتى انتقادها اقتراب لا يصح من قدس الأقداس.
صارت الدولة هي الدين الجديد فيما هي محض اجتهاد إنساني قابل للصواب والخطأ، وهي
بالطبع وليد الظروف السياسية والاجتماعية السائدة. هذا التقديس - الذي يرى أن كل
شئ في المجتمع، من السياسة للإقتصاد ومن الفن للرياضة، يحب أن ينبع من الدولة ويظل
تحت سيطرتها - عبر عنه الزعيم الفاشي موسوليني حين قال في خطاب في أكتوبر 1925م:
"كل شئ داخل الدولة. لا شئ خارج الدولة، لا شئ ضد الدولة".(2) وفي كوريا
الشمالية تكاد تتحكم الدولة بكل شئ، بما فيها دقائق الحياة الخاصة لأفراد الشعب،
مثل ملابسهم وقصات شعرهم والموسيقى التي يسمعونها. أما عربياً، فقد ساد وتوغل
وتَقَدَّس دين الدولة هذا بالذات في سوريا الأسدية. ألم يرفع رجالها وجنودها إبان
أزمة بداية الثمانينات شعار "لا إله إلا الوطن ولا رسول إلا البعث"؟(3)
دولة في خدمة مجتمع أم مجتمع في خدمة
دولة؟
لكن ماذا عن الدولة السورية القابضة على جمر
السلطة منذ قرابة الخمسين عاماً؟ الواقع أن النظام الأسدي أخل بكل مقومات وواجبات
الدولة الحديثة حين جمع كل الموبقات في سلة واحدة، مثل القتل الجماعي، وزرع
الطائفية في قلب المجتمع، وانتزاع الحكم لحساب عائلة واحدة. ثم ووريت هذه الدنايا
خلف الشعار والراية والطيلسان، إذ لاذ النظام بشعارات العروبة والاشتراكية وتأليه
الدولة لتبرير وإخفاء سوءاته. بعبارة أخرى، لسنا في سوريا بصدد دولة حديثة، بل
سلطة قروسطية عصابوية الطابع، استلبت الحكم عنوة، واتخذت المجتمع رهينة، فيما هي
تنتحل مظهر الدولة وتروج لحكمها بشعارات براقة لا ظهير لها على أرض الواقع.
قائمة الأوزار طويلة، وعلى رأسها المدى الذي
وصلت إليه السلطة الأسدية في استخدام القتل العمد كأداة لإسكات أي صوت معارض. لقد
أزهقت ماكينات قتل النظام وحلفاؤه أرواح حوالي أربعمائة وأربعين ألف شخص منذ 2011م
(وهو ما يماثل حوالي 85% من مجموع ضحايا الحرب السورية)،(4) وقتلت تعذيباً في جوف
سجونها ما لا يقل عن الأحد عشر ألف مواطناً سورياً في السنوات الثلاث الأولى فقط
من الصراع.(5) وتمتلئ تقارير منظمات حقوق الإنسان والكثير من التقارير الصحفية
بتفاصيل تشيب لهولها الولدان عن الأوضاع داخل سجون النظام: عن سجانين يلتذون بكل
صنوف التعذيب، وعن مساجين قضوا نحبهم أو أصيبوا بالهلاوس من هول ما تعرضوا له.
وعليه، فليس من الحكمة ولا الدقة وصف النظام الأسدي بالديكتاتوري، فهو أسوأ من هذا
بكثير. فالديكتاتورية درجات، لكن أسوأها - حتى في الوطن العربي - يبقى أفضل حالاً
بكثير من الدرك الذي انزلقت إليه السلطة الأسدية.
أما من الناحية التقنية، فقد تضعضعت الدولة
في سوريا بشدة حين تقزمت جميع مؤسساتها بما فيها الجيش، وتهاوى مستوى أدائها،
وتضخم فقط حجم ودور أجهزة الأمن الداخلي كالمخابرات وسائر الأجهزة الأمنية
المسئولة عن حماية أمن النظام. ثم أن توريث الحكم في ظل نظام جمهوري اسماً، واستئثار
الطائفة بل والعائلة بأغلب المناصب، يمثل ردة حضارية كبرى، تعيد إلى الأذهان بشكل
ما أوضاع أوروبا في القرون الوسطى، أو أوضاع العرب إبان حكم الدولة الأموية، أي
قبل ألف وأربعمائة عام تقريباً. فأين كل هذا من سمات الدولة الحديثة؟
وبالرغم من أن الدولة الحديثة منوط بها تحقيق
الوحدة الوطنية عبر حل التناقضات الدينية والعرقية والطائفية والاجتماعية والفئوية
والحزبية بين المواطنين في إطار سلمي وقانوني، إلا أن السلطة الأسدية فعلت عكس ذلك
تماماً. صار بغض "الآخر" الطائفي قيمة يلتذ الجميع بممارستها، كما أبان
خالد خليفة في روايته "في مديح الكراهية"، والتي سلطت الضوء على هذه
الأوضاع الاجتماعية المختلة.(6) رسخت هذه السلطة وعن عمد تلك الاختلافات وعمقتها
بغية تدعيم بقاءها في الحكم. صار العبث بمكونات المجتمع لعبة يلهو بها النظام لا
هدف لها سوى الاستمرار على العرش أياً كانت التكلفة. لم يقتصر الأمر على اعتماد
النظام على أبناء الطائفة العلوية في الجيش والأجهزة الأمنية، بل إلى اتباع ما
يشبه سياسة الأبارتهايد بين الطوائف. وقد أدى ذلك حتى قبل اضطرام البلاد بنير
الحرب في 2011م بكثير إلى خروج المشاعر الطائفية عن عقالها، وإلى اهتراء النسيج
السوري، وتحويله إلى جزر منعزلة لا تنبئ أبداً عن حيوية مجتمع موحد ومتماسك.
مثلاً، أدى تصعيد العلويين (ونسبتهم لا تزيد
عن 11% من مجموع عدد السكان) الذين كان أغلبهم لأسباب تاريخية وجغرافية من سكان
المناطق الجبلية، الفقيرة والمهمشة، إلى عملية خلخلة إجتماعية شديدة، خلقت بدورها
بيئة نفسية يشوبها التربص والشك المتبادل بين الطبقات الإجتماعية من ناحية، وبين
الطوائف من ناحية ثانية، ووبين سكان المدن والريف من ناحية ثالثة.(7) ولذلك انتشر
بين سكان المدن الإشارة إلى العلويين ذوي الأصول الريفية، والمتنفذين سياسياً
ومالياً، باعتبارهم "بقر وشراشيح"،(8) فيما نظر الأخيرون إلى سكان المدن
نظرة سلبية، رافعين مثلاً قديماً يقول "كل شامي فيه علامة وفيه لآمة"
(أي لؤماً).(9) كما يشيع في كتابات الكتاب السوريين، وخصوصا المفكر السياسي عبد
الرزاق عيد، الإشارة إلى "رعاع الريف" باعتبارهم من المكونات الاجتماعية
الرئيسية التي يعتمد عليها النظام الأسدي. لذا كان طبيعياً إبان الثورة أن يحاول النظام
بشكل حثيث تصوير الثورة باعتبارها حرباً سنية على الطائفة العلوية، وفي المقابل، عمد بعض المواطنين إلى التحدث
باللهجة العلوية الريفية ابتغاء قربى النظام واتقاء لشره.
في كتابه "سأخون وطني"، عبر الكاتب
والشاعر السوري محمد الماغوط عن قناعته بأن "الأوطان نوعان، أوطان مزورة
وأوطان حقيقية. الأوطان المزورة أوطان الطغاة، والأوطان الحقيقية أوطان الناس
الأحرار."(10) الأوضاع في سوريا آنفة الذكر تثير بالفعل تساؤلاً أساسياً: من
الأولى بالرعاية؟ وجود هذه الدولة، أو بالأحرى اللادولة، أم وجود المجتمع وحريته واستقراره
وازدهاره؟ فالدولة ما قامت إلا من أجل تنظيم شئون المجتمع بشكل عادل وإنساني وكفء،
فما العمل إن انتفت كل الأغراض التي من أجلها قامت؟
الجيش والدولة
ثم ماذا عن الجيش السوري "البطل"؟
الشاهد أن منطق السلطة فرض وجوده على كافة الأصعدة في سوريا بما فيها الصعيد
العسكري، لإنه ببساطة عقيدة النظام الوحيدة، ومحور انشغاله الوحيد. صارت المحاباة
الطائفية في الجيش سياسة رسمية وأداة لبقاء النظام، وخصوصاً بعد الهجوم الإرهابي
الذي تعرضت له مدرسة المدفعية في حلب في عام 1979م ومحاولة اغتيال الرئيس حافظ
الأسد في 1980م. سُكِن أبناء الطائفة في كل المناصب وعربد رجالها في الأنحاء
وصاروا هم والنظام واحد. وتشير الإحصائيات إلى أن حوالي 80-85% من الضباط خريجي
الكليات العسكرية هم من العلويين.(11) ويروى أنه إبان وفاة الرئيس حافظ الأسد في
عام 2000م أرسل الكثيرون من الضباط العلويين زوجاتهم وأبناءهم إلى قراهم الأصلية
انتظاراً لعملية انتقال السلطة، ولم يعد هؤلاء إلى بيوتهم بالعاصمة دمشق إلا بعد
إتمام تولي بشار الأسد مقاليد الأمور.(12) والمغزى واضح: حياة ومصائر هؤلاء الضباط
هي في خدمة طائفة حاكمة، وليس دولة حديثة حقيقية.
ارتبط إذن الضباط العلويون ارتباطاً وثيقاً
بالسلطة، وأصبحوا جنودها في معركة البقاء لا ضباطاً محترفين في مؤسسة تعتمد على
مبادئ الجدارة والكفاءة المهنية. صارت العلاقة بين الطرفين تكافلية بامتياز: دعم
النظام في مقابل الصعود الاجتماعي والمزايا الوفيرة. يعيش الكثير من الضباط العلويين
في المدن الرئيسة في ما يشبه الجيتوهات السكنية (مثل "ضاحية الأسد" في
شمال شرق دمشق، وهي أكبر مشروع سكني حكومي للضباط)، بل والأنكى أن توزيع سكن
الضباط في بعض الوحدات العسكرية يتم أيضاً على أساس طائفي.(13) يحصل الضباط
العلويون إضافة إلى ذلك على السلع الأساسية وكوبونات الوقود بأسعار مخفضة،
ويتمتعون بالعلاج المجاني في مستشفيات الجيش، وتتيح لهم مدخولاتهم القدرة على
الزواج واقتناء السيارات.
وكان طبيعياً أن تنخفض بشدة الجاهزية
القتالية للجيش السوري. ليس سراً مثلاً أن الجيش انقسم تقريباً منذ السبعينات إلى
جيشين: صفوة الفرق العسكرية شديدة البأس (مثل الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري)
والتي تمركزت حول العاصمة لحماية النظام من خطر الإنقلابات العسكرية، وهو هاجس
النظام الرئيسي في ظل أن عشرة انقلابات عسكرية قد وقعت في سوريا في الفترة من عام
1949م وحتى عام 1970م. أما القوات الأقل تسليحاً وتدريباً فتمركزت قرب الحدود مع
إسرائيل أو في المناطق البعيدة عن العاصمة في شمال البلاد وشرقها.(14) حدث ذلك في
نفس الوقت التي صدحت فيه ميكروفونات النظام بقصائد الدفاع عن العروبة ومعاداة
إسرائيل. أطلق السوريون على جيشهم "الوطني" لقب "جيش أبو شحاطة"
استهزاءاً من ضعف كفاءته ونفشي الفساد والطائفية فيه. وانكشف ذلك الضعف جلياً في
سنوات الحرب الأهلية حين انهزمت غير مرة أرتال من الجيش السوري أمام ميليشات
مهلهلة ضعيفة العدد والتدريب والتسليح.
وضرب الفساد أطناب الجيش، قبل الثورة وبعدها.
ويعرف كل السوريين كيف أنه صار لزاماً على المجندين رشوة رؤساهم بالمال والهدايا
من أجل دفع شرهم واضطهادهم من ناحية، أو للحصول على منافع محددة من ناحية أخرى،
مثل التمركز في مناطق بعينها أو الحصول على أجازات أطول أو تجنب الخروج في دوريات
قتالية. وفي ذروة الحرب الأهلية السورية، وصلت مفارقات الفساد إلى ذروتها حين تورط
لفيف من ضباط الجيش في بيع السلاح والنفط للمليشيات المسلحة فيما ألوان الخراب تعم
البلاد بسبب الصراع الدموي الدائر بين الطرفين.(15) وفي بحث ميداني مميز للباحث
هشام بو ناصيف نشر بدورية (Journal of Strategic Studies)،
قال عميد بسلاح الجو السوري نصاً أن "بعض الضباط الكبار يمكن شراؤهم بعلبة
سجائر. هل تعتقد أن الجنود سيقاتلون ويموتون من أجل هؤلاء اللواءات إذا ما أرسلوهم
لساحات القتال؟ لو كنا دخلنا الحرب مع الإسرائيليين لأمكنهم دخول حمص في ساعتين.
ولكن لم ترغب إسرائيل أصلاً في محاربة نظام كالأسد؟"(16)
المسلمات المُفْتَرَيات
سد ذرائع الفساد والجهل يقتضي ثورة فكرية
شاملة تشمل حتماً إعادة النظر في كل المفاهيم والمسلمات السائدة في الواقع السياسي
العربي. يعزز الحاجة إلى ذلك أن الكثير من تلك المفاهيم لم تولد سوى من رحم أطراف
تمتلك مصلحة مباشرة في ترويجها بين الجماهير. ولعل بإمكان الوضع في سوريا، وهي
حالة حية شاخصة أمامنا، ونابضة بالصور والمعاني والدروس، أن تساعدنا على تلك
المراجعة.
فيما يخص سوريا، ثمة أسئلة عديدة جديرة
بالبحث والتفكير. على سبيل المثال، هل تستدعي المصلحة الحفاظ على الدولة والنظام
القائمين بها؟ ولو كانت الإجابة بالإيجاب، فهل يستحق الأمر كل هذا القدر من
التدمير والهلاك؟ في نفس الإطار، كيف يمكن لمن قتل مئات الآلاف وشرد الملايين أن
يدعي من الأساس أنه "يحافظ على الدولة"؟ هل في ذلك حفاظ على [1]الدولة
أم أنه محض خداع، كمن رفع المصحف فوق السيف، أو بشر بالأمن بحد الخوف؟ ثم إذا كانت
الدولة الحقيقية هي الشعب، فما الرأي في دولة الأسد وما هي إن دققنا سوى طغمة
وصولجان وهراوات وشعارات؟ ثم ما الحكم إن شب صراع بين عصابة وعصابات، لكن الأولى ترتدي
سترات رسمية موحدة وتقف تحت علم الوطن، والثانية محض ميليشيات سوداء تتدثر برايات
خضراء حتى تُثْخِنَ في الأرض؟ ما السبيل الأمثل لوصف صراع كهذا؟
لن يتغير الوضع المنكود في سوريا وغيرها من
الأقطار العربية غداً أو بعد غد، وحتى يسدل الله رحمته ويبسط قبس النور فيضه، لا
مندوحة من اتخاذ الوعي والمعرفة سلاحين في مواجهة وعثاء الظلم ودياجير الظلام. هذا
هو الدرب ومن هنا يأتي الخلاص.
د. نايل شامة
* نُشر هذا البحث قبلاً بواسطة مركز الدراسات الإستراتيجية والدبلوماسية.
الهوامش:
(1) لفهم أعمق
لمسألة الدولة القومية ونشأتها والفارق بين مفاهيم الدولة والأمة، راجع المصادر
التالية
Ernest Gellner (2009) Nations and Nationalism.
(New York: Cornell University Press).
Benedict Anderson (1983) Imagined
Communities: Reflections on the Origins and Spread of Nationalism. (New
York: Verso).
Gianfranco Poggi (1990) The State: Its
Nature, Development and Prospects. (California: Stanford University Press).
Hugh Seton-Watson (1977) Nations and
States: An Enquiry into the Origins of Nations and the Politics of Nationalism. (Boulder:
Westview Press).
(2) أنثوني كورت، Hannah Arendt’s Response to the Crisis of her
Times،
أمستردام، Rozenberg Publishers، 2008م، ص 69.
(3) أحمد زكي، آل الأسد وأسرار سقوط آخر الطغاة، القاهرة، كنوز
للنشر والتوزيع، 2013م، ص 124.
(4) "Syrian Observatory Says War has Killed More than Half
a Million"،
رويترز، 12 مارس 2018م، https://www.reuters.com/article/us-mideast-crisis-syria/syrian-observatory-says-war-has-killed-more-than-half-a-million-idUSKCN1GO13M .
(5) "Syria Accused of Torture and 11,000 Executions"، بي بي سي، 21 يناير 2014م، https://www.bbc.com/news/world-middle-east-25822571.
(6) صدرت الطبعة الأولى من رواية "في
مديح الكراهية" عن دار أميسا للنشر والتوزيع (فرع بيروت) في عام 2006م، وقد
اختار موقع "ليست ميوز" الرواية ضمن قائمة تضم أفضل مائة رواية في
العالم عبر التاريخ.
(7) للمزيد من الدراسات الرئيسية التي تلقي الضوء على الحياة
الاجتماعية والسياسية للطائفة العلوية ودورهم في الجيش السوري، راجع المصادر
التالية:
Hanna Batatu (1981) Some Observations on the
Social Roots of Syria’s Ruling, Military Group and the Causes for its
Dominance, Middle East Journal, 35(3), pp. 331-344.
Hanna Batatu (2012) Syria’s Peasantry, the
Descendants of its Lesser Rural Notables and Their Politics (Princeton:
Princeton UP).
Alasdair Drysdale (1979) Ethnicity in the
Syrian Officer Corps: A Conceptualization, Civilisations, 29(3/4), pp.
359-374.
Nikolaos van Dam (2011) The Struggle for
Power in Syria: Politics and Society under Asad and the Ba'th Party
(London: I. B. Tauris).
(8) خضر خضور، "Assad’s
Officer Ghetto: Why the Syrian Army Remains Loyal"، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، نوفمبر
2015م، ص 6، http://carnegie-mec.org/2015/11/04/assad-s-officer-ghetto-why-syrian-army-remains-loyal-pub-61449 .
(9) حنا بطاطو، "Some Observations on the Social Roots of Syria’s
Ruling, Military Group and the Causes for Its Dominance"،Middle East Journal ،
عدد 35، رقم 3، صيف 1981م، ص 336.
(10) محمد الماغوط، سأخون وطني: هذيان في
الرعب والحرية، بيروت: دار المدى للثقافة والنشر، 2004م (الطبعة الرابعة)، ص
11.
(11) هشام بو ناصيف، "Second-Class: The Grievances of Sunni Officers
in the Syrian Armed Forces"،
Journal of Strategic Studies، السنة 38، رقم 5،
2015م، ص 632.
(12) خضر خضور، "Assad’s
Officer Ghetto: Why the Syrian Army Remains Loyal"، ص 1.
(13) للمزيد من المعلومات عن مشروعات إسكان
الضباط في سوريا، وعن مشروع ضاحية الأسد بالتحديد، راجع الدراسة المتميزة التي
أجراها الباحث خضر خضور والمشار إليها تفصيلاً في الهامش رقم 6.
(14) نيكولاوس فان دام، The Struggle for Power in Syria: Politics and
Society under Asad and the Ba'th Party،
لندن، I. B. Tauris، 2011م، ص 47.
(15) دوروثي أول، هولجر ألبريخت، كيفن كولر،
"For Money or Liberty? The
Political Economy of Military Desertion and Rebel Recruitment in the Syrian
Civil War"،
مركز كارنيغي للشرق الأوسط، نوفمبر 2015م، ص 7، https://carnegieendowment.org/2015/11/24/for-money-or-liberty-political-economy-of-military-desertion-and-rebel-recruitment-in-syrian-civil-war-pub-61714.
(16) هشام بو ناصيف، "Second-Class: The Grievances of Sunni Officers
in the Syrian Armed Forces"،
ص 638.