ارتفعت الآمال إلى عنان السماء بعد ثورة الخامس والعشرين
من يناير بإمكانية حدوث تغيير جوهري في السياسة الخارجية المصرية بعد عقود من
الضعف، وذبول الطموح، وهيمنة رد الفعل على الفعل. إلا أن الآمال والطموحات تصطدم -
كما هو الحال غالباً - بمعطيات الواقع وقيوده. وكما تتيح الأوضاع الجديدة بعد
الثورة فرصاً واسعة لإعادة بعث السياسة الخارجية، وإحياء دور مصر الريادي في
المنطقة والعالم، فإنها حبلى أيضاً بقيود وتحديات شتى ينبغي على صانع السياسة
الالتفات إليها، والتعاطي معها بكفاءة، إن كان يبغي تغييراً واضحاً في الأداء، لا
مجرد تغيير طفيف في النص المصاحب لأنغام اللحن القديم الرتيب.
ثمة ارتباط أصيل بين وحدة ومنعة وسلامة الجبهة الداخلية
وبين قيام سياسة خارجية ناجعة، فذاك السبب لا غنى عنه في سبيل الوصول لتلك
النتيجة. والآن، وبينما يحلم المصريون بتغيير أداء السياسة الخارجية المصرية إلى
الأفضل، تواجه سفينة الوطن ثلاث تحديات رئيسية، ينبثق عن كل منها سؤال محوري ينبغي
التوقف عنده والإجابة عليه.
أولاً، من الصعب الحديث عن سياسة خارجية فاعلة ونشطة
بدون أن تدعم هذه السياسة قاعدة إقتصادية قوية ومرنة. فلا توجد سياسة خارجية بلا
تكلفة، تستقطع من الاقتصاد الوطني لخدمة الأمن القومي وتحقيق الأهداف العليا
للوطن. لذلك فإن الأزمة الإقتصادية الحالية تخصم بلا شك من رصيد السياسة الخارجية،
وتحد من قدرتها على الفعل والتأثير. والحلول التي تراهن عليها القيادة الحالية لا
تختلف كثيراً عما سبق الرهان عليه في عقود الانكفاء والتبعية. إذ تعتمد كما هو
واضح على القروض والاستثمارات الخارجية، مما يزيد من الاعتماد على الخارج، ويقوض استقلالية
القرار المصري وحريته في الحركة.
الازدهار الإقتصادي إذن شرط من شروط كفاءة وفاعلية أي سياسة
خارجية، وهو شرط لا يمكن الاستعاضة عنه بالخطب الرنانة، وفنون العلاقات العامة، والارتكان
إلى أمجاد الماضي. وكما هو معلوم فإن تركيا لم تطور سياستها الخارجية وترتقي
بطموحاتها في الإقليم في العقد الأخير إلا بعد بنائها أساساً اقتصادياً متيناً،
يدعم ويصون هذا التوجه الجديد.
يثور في ضوء هذه المعطيات سؤال مهم: كيف سيتمكن صانع
القرار المصري من إدارة السياسة الخارجية بأقصى كفاءة ممكنة في ظل شح الموارد، وتردي
الأوضاع الاجتماعية، وازدياد الحاجة إلى رأس المال الأجنبي؟
ثانياً، كلما اتسعت قاعدة التأييد السياسي للنظام
القائم، كلما زادت قدرة هذا النظام على تنفيذ سياسة خارجية ناجحة. ولعلنا نذكر أن
قوى العدوان الثلاثي على مصر في 1956 راهنت على أن التدخل العسكري كفيل بفض
الالتفاف الشعبي حول القيادة وإسقاط النظام، وفشل الرهان نتيجة لتوحد الشعب مع قيادته
في معركة التنمية والاستقلال الوطني. أما الوضع اليوم فجد مختلف، فالرئيس محمد
مرسي نجح في الانتخابات الرئاسية بفارق ضئيل، والاستقطاب بين المعسكرين المدني
والإسلامي على أشده، والوئام الطائفي المستقر منذ قرون يتعرض لأشد المحن. ولا يوجد
ما يشير إلى أن هناك رغبة رئاسية في وقف التناحر المدمر بين القوى السياسية
المختلفة، ولا في اتخاذ إجراءات فاعلة لتهدئة التوتر الطائفى، ولا في خلق إجماع
وطني على مشروع سياسي وتنموي تتضافر فيه كل الجهود في تناغم لخلق نهضة حقيقية.
الانقسام الداخلي معطل للصعود الخارجي، والعاصفة القادمة
ستهب على الأرجح من اتجاه الخلاف حول الدستور الجديد، الذي أجج الاستقطاب الدائر
حول بعض مواده بالفعل من نير التناحر بين القوى السياسية المختلفة، وزاد من هوة
الخلاف بين الرئاسة وقطاعات واسعة من الشعب.
الدور الخارجي النشيط يجلب معه بالضرورة مواجهات ومعارك،
ومعارك السياسة الخارجية تستلزم حداً أدنى من التوافق الداخلي، وقدراً معقولاً من
تأييد القيادة، ونصيباً أصيلاً من الشرعية
السياسية والمشروعية القانونية. والسؤال هنا: هل يمكن لدولة أن تحلق
سياستها الخارجية وأوضاعها الداخلية على هذا النحو من التشتت والانقسام؟
ثالثاً، نجاح سياستنا الخارجية في تفاعلها تعاوناً
وصراعاً مع القوى الأخرى على الساحتين الإقليمية والدولية خاضع لموازين القوى بين
مصر وهذه القوى. فقدرات أي دولة في الساحة الدولية أمر نسبي يقاس بالمقارنة بقدرات
الدول الأخرى. والبديهي في هذا المقام رفع دعائم الدولة، وتعضيد أوجه القوة، وسد
مكامن النقص، وعلاج أوجه القصور.
وتمثل الأوضاع الأمنية الغير مستقرة في سيناء أحد هذه
المواضع التي تحتاج لرأب الصدع فوراً ودون إبطاء. إذ تشكل تهديداً سياسياً وأمنياً
خطيراً في بقعة جغرافية لا تحتمل أي تهاون أو تقصير، وتغري أطرافاً خارجية إما
لاستخدام هذه الورقة لفرض أمر واقع لا يصب في المصلحة الوطنية المصرية وسيادتها
على كامل ترابها، أو لاستقطاع تنازلات من
مصر في قضايا حيوية أخرى. كما أن استعادة الأمن في سيناء اختبار لمدى قدرة النظام
الجديد على التعامل مع الأزمات المعقدة بحنكة السياسة وحزم السلاح، ومن ثم سيعزز
نجاحه من سمعته في الساحة الدولية.
لكن المؤشرات الأولى غير مشجعة، فالانفلات الأمني قائم
رغم تعزيزات الشرطة والجيش، والمعلومات عن حجم الداء ومدى النجاح في استئصاله إما
غائبة أو متضاربة، والسيناريوهات الكابوسية تملأ صفحات الجرائد وأحاديث الأثير. والسؤال
هنا: إلى أي مدى يمكن أن تؤثر الأوضاع الأمنية المضطربة في سيناء على السياسة
الخارجية المصرية باتجاه إسرائيل وحركة حماس وملف الصراع العربي-الإسرائيلي بشكل
عام؟
الأزمة الاقتصادية الطاحنة، والانقسام الداخلي، وهشاشة
الأوضاع الأمنية في سيناء أزمات تكبح جماح طموحاتنا وآمالنا التي أفرزتها ثورة
يناير العظيمة في استعادة مصر لمكانتها الفريدة بين الأمم، والتي تستحقها لا ريب.
وبقدر عظمة الثورة بقدر جسامة التحديات التي تلتها وبقدر الحاجة إلى العناية بترتيب
وبناء الداخل قبل (أو بالتوازي مع) الشروع في التمدد للخارج.
* نُشرت هذه المقالة بجريدة الشروق
(بتاريخ 13 أكتوبر 2012).
No comments:
Post a Comment