ارتجت ساحة الجامع الأزهر بصوت الهتاف المسجوع، المبطن بالوعد والوعيد في
آن، والذي ألفته جنباته التليدة في العقود الأخيرة: "خيبر خيبر يا يهود، جيش
محمد سوف يعود". في المشهد الذي تكررت وقائعه مع كل عدوان إسرائيلي وانكسار
عربي، تجمعت زرافات من الرجال والنساء وأنشأوا يرددون حرفاً بحرف عين ما ردده
أسلافهم في مناسبات شبيهة متعلقة بالصراع الطويل المرير مع إسرائيل. الهتاف الذي
صار شائعاً يشكِّل – مع غيره من العبارات والحجج والرموز – ملامح سردية أو دعوة
تشق طريقها نحو التأصيل، يتم بمقتضاها تصوير الصراع العربي-الإسرائيلي على أنه في
الجوهر والمضمون صراع ديني بين المسلمين واليهود.
لكن هل يستقيم هذا الطرح مع دواعي كل من المنطق والمصلحة؟
في الواقع، يشوب التعاطي مع إسرائيل وفق منطق الحرب الدينية اختزالاً مزدوجاً
على مستوى السطح البارز. يتمثل الوجه الأول لهذا الاختزال في القفز بخفة ظاهرة فوق
حقيقة اجتماعية ساطعة هي أن الفلسطينيين – أصحاب القضية وحَمَلة عبء الصراع –
ليسوا جميعاً مسلمين؛ فمنهم من يعتنق المسيحية. بل إن مكانة فلسطين في المسيحية
عظيمة الشأن، فهي موطن ولادة المسيح ومقر كرازته ومحل بعض أقدم وأقدس الكنائس
المسيحية الكائنة في القدس وبيت لحم وغيرها. كما أن سيرة النضال الفلسطيني مترعة
بأسماء مثقفين وسياسيين مسيحيين اضطلعوا بأنصع الأدوار في سبيل نصرة القضية والذود
عنها. وبالتالي، فإن إقصاء المكون المسيحي من معادلة الاجتماع البشري الفلسطيني
يخاصم التاريخ والعدل بل والمصلحة أيضاً.
أما الوجه الثاني للاختزال فيتضح من حقيقة أنه ليس ثمة تماثل بين اليهود
وإسرائيل رغم ارتكاز الأخيرة على فكرة الوطن القومي لليهود وإقرار الكنيست في 2018
قانوناً نصَّ على أن إسرائيل هي الوطن التاريخي
للشعب اليهودي. إذ تفصح الحقائق الديموغرافية عن أنه لا يعيش في إسرائيل سوى ما
يقرب من 46% من يهود العالم المقدر عددهم وفق إحصاء حديث بحوالي 15.7 مليون نسمة، أي نحو 0.2%
من إجمالي سكان العالم. في المقابل، يعيش 8.5 مليون يهودي خارج إسرائيل، موزعون
على تجمعات مختلفة حول العالم أكبرها في الولايات المتحدة الأمريكية. وكما أظهرت
مؤخراً المظاهرات المتوالية ليهود نيويورك، والتي نددوا فيها بأعلى الأصوات
بالعدوان الإسرائيلي على غزة، لا تتمتع إسرائيل بتأييد كل يهود العالم، بل يناصبها
بعضهم العداء المستطير، بما فيهم كوكبة من المثقفين والعلماء وأصحاب الرأي.
وعليه، فإن الرنو إلى الصراع مع إسرائيل بعين الحرب الدينية يحرم القضية من
بعض أبرز وأهم داعميها، سواء من الفلسطينيين المسيحيين أو اليهود المناهضين
لإسرائيل كفكرة وممارسات. حسبنا في هذا المقام أن نتخيل ولو لبرهة كم ستخسر القضية
الفلسطينية لو حُرمت من إسهامات مثقفين ضُلُع وذوي حجة وتأثير مثل إدوارد سعيد
ونعوم تشومسكي؟
أهذه بغيتنا؟
لو نحينا اختزالات السطح جانباً وولينا وجوهنا شطر اختلالات العمق، لوجدنا
أنفسنا أمام معضلات شتى لا مجال إلى إغفالها أو تجاوزها. لكن التفكير في النزاع
وأطره ومناهجه يستدعي قبل ذلك تأملاً عميقاً في عدة أسئلة تدور حول محور واحد:
لماذا أصبحت إسرائيل حقيقة واقعة بعد 1948؟ وكيف تمكنت من مضاعفة مساحتها عدة مرات
إبان ستة أيام فاصلة في 1967؟ كيف فرضت من أخريات السبعينيات فصاعداً على كثير من
العرب، بمن فيهم الدولة الأكثر سكاناً (مصر) والفلسطينيين أنفسهم، الاعتراف بها
وإقامة علاقات سلام معها؟ باختصار، لماذا أخفق العرب في دحر المشروع الصهيوني
ونجحت إسرائيل في ابتلاع الأرض الفلسطينية وفرض إرادتها على أمة العرب وافرة العدد
وفيرة الموارد؟ وإلام يمكن إرجاع غلبة إسرائيل: قوة مشاعرها الدينية أم عظم ما
امتلكته منذ ولادتها من أدوات السلاح والسياسة؟
كل الأسئلة السابقة تقود إلى إجابة واحدة مفادها أن المشروع الإسرائيلي
الذي علا بسواعد علمانية التوجه لم يتوكأ على عصا الدين، وإنما نما على أكتاف
امتلاك العناصر المادية للقوة: اعتراف الكتلتين الشرقية والغربية بالدولة فور لحظة
إعلانها، وحسن تنظيم ميليشياتها وجيشها الوليد في 1948، وتفوق سلاحها الجوي في
1967 وكل الحروب اللاحقة، والدعم السياسي والعسكري الأمريكي السخي، والإطار
الديمقراطي لنظامها السياسي الذي كفل لمؤسساتها قدراً غير يسير من الاستقلال
والفعالية. على الجانب الآخر، تمخض استقلال الأقطار العربية عن الاستعمار عن دول
صارت أمثولات في السلطوية والفساد وسوء الإدارة وسوء استغلال الموارد. وعليه، يصبح
السؤال الأكثر إلحاحاً في إطار تقصي أطر وسبل مساندة الحق الفلسطيني هو: كيف يمكن تحويل
هذا الضعف إلى قوة وتلك القوة إلى ضعف؟
في ظل استمرار موازين القوة المادية في ترجيح كفة إسرائيل وحلفائها، لا مناص
لإعادة الميزان المختل إلى استوائه من الاستناد إلى موازين القوة القانونية
والأخلاقية المائلة ناحية الفلسطينيين وحلفائهم. سبيل ذلك هو التركيز على أن
القضية في صميمها قضية احتلال يعتلج أوارها بين قوة عسكرية استولت على الأرض عنوة
وشعب يئن تحت نير التسلط والقهر، وأن هذا الاحتلال يجري على رؤوس الأشهاد في عالم
ولى فيه الاستعمار وسقطت شرعيته الأخلاقية، وأنه يتحكم في البلاد والعباد رغماً عن
وتحدياً لقرارات الشرعية الدولية ومباديء القانون الدولي. المراد هنا تحييد القوة
العسكرية بقوة أخلاقية تضارعها وتخلخل قواعدها. وقد ظهرت تباشير شيء من ذلك بالفعل
مع دمقرطة وسائل الإعلام بظهور الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي مما أدى إلى
تغير السردية وتبدل الصورة الذهنية وتحول موقف الرأي العام العالمي من القضية،
وتبقى مهمة ترجمة هذه التحولات إلى نتائج سياسية ملموسة.
كمن أصاب نفسه بالرصاص
من حيث أراد حمايتها، لن تأتي – على الجانب الآخر – النزعة إلى رفع رايات الحرب الدينية إلا بنتائج عكسية. إذ ستؤدي بطبائع
الأمور إلى تحويل الصراع من صراع سياسي-اقتصادي (ولو كانت له أبعاد وخلفيات
ثقافية) بين العرب وإسرائيل إلى صراع ديني-ثقافي قح بين عموم المسلمين من ناحية
وعموم اليهود من ناحية أخرى، مع انضمام طائفة من المسيحيين إلى الناحية الأخيرة
بحكم التراث اليهودي-المسيحي المشترك. مأل ذلك في جبهة الأفق هو دفع العرب والغرب إلى
مسار تصادمي، أي صراع حضارات يحقق نبوءة صامويل هنتنجتون الشهيرة. ما أسوأ هذه العاقبة.
أليس الأجدى أن نستدني الغرب (أو قطاعات منه) إلى صفنا في مواجهة إسرائيل عوضاً عن
استعدائه ودفعه إلى أحضان إسرائيل؟ في هذه المواجهة، يمثل العرب الطرف الأضعف الذي
يستورد غذاءه وكساءه ودواءه وسلاحه من الطرف الآخر الأقوى، فكيف يتحدى المتكِل
المتكَلَ عليه؟ وما تبعات هذا العراك على سلامة الأقليات غير المسلمة في بلاد
العرب والأقليات المسلمة في بلاد الغرب؟
أهذه بغيتنا؟
ثم إن لأي حرب، دينية أو غير ذلك، سردية تشرعنها وتجيِّش الأنصار خلفها.
فعلى أي شاكلة ستأتي سردية الحرب المبتغاة ضد اليهود؟ ليس من العسير تخمين الإجابة
لأنها ماثلة أمامنا بالفعل في الخطاب المعلن للدوائر التي تُلبس الصراع حلة دينية:
استعادة ذكرى حروب النبي الكريم ضد يهود الجزيرة العربية وتصويرها – خطأ –
بحسبانها دليلاً على أن قتال اليهود ركن من أركان العقيدة الإسلامية؛ وإطلاق
اللسان بكلمات لاعنة مثل أن اليهود أحفاد القردة والخنازير؛ وتأبيد الصراع، إذ كيف
يتجرأ مؤمن على نقض عهد الله والتملص من سلطان أوامره ونواهيه؟ وحينما يُعتمد قانون
الحرب الدينية كمرجعية عليا، فمن سيقدر على وقف تغلغله إلى داخل البيت الإسلامي
نفسه، أي العلاقات الشائكة بين السنة والشيعة فيقذفها هي الأخرى في أتون صراع
دموي؟ ثم، مع اختلاط الحابل بالنابل، قد يطال الطعن أتباع ديانات وثقافات أخرى
فيتسع نطاق البغضاء ويطول أمد الشقاق.
سيرسخ هذا الصور النمطية السلبية عن العرب والمسلمين كقوم مغرمين بالعنف لا
التعايش، ولا هم لهم سوى القتال وتسخير روح الجهاد (أي الحرب المقدسة) لتدمير
الحضارة الغربية، كما أرغى وأزبد تنظيم القاعدة في أدبياته وكما تجلى على أرض
الواقع في هجمات الحادي عشر من سبتمبر لعام 2001. ستجني إسرائيل من وراء هذا غاية
ما تتمناه، أي تثبيت حظوتها الباسقة لدى الغرب عبر تصوير أي مقاومة لها على أنها
تخوض حرباً مقدسة ضد إسرائيل وضد قيم الحضارة الحديثة في الوقت ذاته، كما ادعى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو
مراراً منذ السابع من أكتوبر الماضي. سيحمل أنصار إسرائيل لواء نظرية السلام الديمقراطي
لإيمانويل كانط، مدعين أن العرب والمسلمين يعرِّضون السلام المستقر بين النظم
الديمقراطية للتهديد. سيقولون: ألا ترون أن أشهر الكلمات العربية لدى غير الناطقين
بها هي "جهاد" (أي حرب)، أما أكثر الكلمات العبرية شهرة فهي "شالوم"
(أي سلام)؟
وحين يستقر في وعي العالم على
اتساعه أن ثمة حرباً دينية شعواء تدور بين متعصبين من المسلمين واليهود، فلن يبدِ
سوى شديد الأسف على اتقاد جذوة هذا الصراع العبثي، لكنه سيضيق به ذرعاً في نهاية
المطاف ويدع طرفي الصراع يقرع بعضهم بعضاً. عندها، وفي غياب الاكتراث الدولي، ستحسم
معادلات السلاح الصماء نتيجة المعركة، وهي الآن وفي المستقبل المنظور في صالح
إسرائيل.
أهذه بغيتنا؟
وماذا عن سلوك الجماهير العريضة إن وقر في قلبها أن حرباً دينية تدق أبوابها
وتستصرخ مشاعرها؟ سيبعث النداء في الناس حمية تملأ فضاء قلوبهم لكن هذه الحمية
ستكون مصحوبة على الأرجح بكثير من الانفلات والشطط. ثمة مثال قريب العهد يكشف بجلاء مغبة استمطار
غيث الدين لكسب الصراع وسط جموع لا ترى أحياناً أبعد من أخمص أقدامها. ففي داغستان
البعيدة، وهي جمهورية ذات غالبية مسلمة تنتمي إلى الاتحاد الروسي، سرت أنباء عن أن
طائرة قادمة من تل أبيب حطت في مطار العاصمة فاقتحمت أعداد غفيرة من المحتجين
الغاضبين مدرج المطار ومبنى الركاب بحثاً عن إسرائيليين (فيما يبدو بنية الفتك بهم).
ما لم يعلمه هؤلاء المحتجون هو أن هذا النوع من التصرفات يصب مباشرة في مصلحة
إسرائيل كفكرة ومشروع، إذ يعطي المشروعية لوجود وطن قومي يحتضن اليهود بعد أن صارت
سلامتهم مهددة في كثير من الأنحاء. وهكذا تطيش السهام حين
تنفلت المشاعر الدينية من عقالها، وستنفلت حتماً في مواجهة طرف مثل إسرائيل استقر على عرش الكراهية لعقود طوال.
أهذه بغيتنا؟
***
جملة القول أن الأذن
قد تطرب لدعوة أو فكرة تثير القلب وتدغدغ الوجدان لكنها تصطدم مع مقتضيات العقل
والمصلحة. والعقل أبقى وأوفى وأنفع.
د. نايل شامة
No comments:
Post a Comment