منذ أيام، صدر كتابي الأحدث "مرايا السراب: تفكيك الوعي السياسي العربي". سألني كثير من الأصدقاء والقراء وقد علقت بوجوههم خيوط دهشة باسمة: لماذا هذا الكتاب؟ ما الهدف منه؟ وما الدافع إليه؟ هذه برأيي أسئلة مشروعة، ولذلك أجد نفسي مدفوعاً إلى محاولة الإجابة عليها.
هذا بالأساس كتاب عن كل من الأفكار وتصورات الأفكار في الوعي الجمعي
العربي، ومن ثم، بالضرورة، عن الفجوة الكبيرة القائمة بينهما. هو إذن حديث عن
النظرية السياسية، لكنه بالمثل ولوج إلى تفاصيل الواقع السياسي والثقافي العربي
على امتداده من المحيط إلى الخليج. وما بين النظرية والتطبيق يتلمس الكتاب طريقاً
نحو فهم أعمق لمجموعة من معضلات السياسة والثقافة في الوطن العربي.
البذرة الأولى في فكرة الكتاب تعود إلى سنوات
خلت، حين رصدت في سائر مظاهر حياتنا الثقافية والسياسية ما أثار انتباهي وأزعجني معاً.
فقد لاحظت - وبشكل متكرر ومُلِح - وجود فجوة ملموسة بين معنى الشيء - نظرية أو مفهوماً -
كما نشأ وتطور واستقر في متون الإنتاج المعرفي عبر أجيال من المفكرين والباحثين
والمشتغلين بالعلم، وبين إدراك الناس، البسطاء منهم وحتى بعض المثقفين، لمعنى نفس
الشيء. كانت هناك باستمرار مسافة - أو فجوة - ما لبثت بمرور الوقت أن اتسعت وكبرت وتمددت حتى أعاقت الرؤية وشوشت الوعي.
بفعل هذه المسافة الماثلة كالسد المنيع، كاد
كل شيء أن يفقد معناه، ولم يعد ثمة جدوى من الحوار والنقاش والجدل. وفي ظل التشوش
والارتباك الحاصل، قفز كلُ صاحب مصلحة على ظهر المفردات والكلمات، يمتطيها ويسوقها
إلى حيث يتحقق مراده وتنتعش تجارته. لُويت بالتالي أعناق الحقائق وتقدَّست الرذائل
وعُلِّقت الفضائل على مشانق العبث. ثم عشعش الضلال بعد حين من
الدهر فصار أشبه بالعقيدة
الراسخة المستحكمة، حوله آلهة ومعابد وحراس يذودون عنه ويروجون له، فباتت مقاومته أكثر
صعوبة وأعلى كلفة.
خلاصة القول أن للمفاهيم والتعريفات أهمية
قصوى لعمليتي الفهم والوعي. ولذلك انشغل بها فلاسفة اليونان القديمة، فجعلوا
يسألون ويتفكرون: ما الخير؟ وما الجمال؟ وما العدل؟ واليوم، حري بنا كذلك أن نتساءل
عن معنى ما يحيط بنا من ظواهر سياسية تشكل حياتنا وترسم طريق مستقبلنا: ما الحداثة؟
ممَ انبثقت وكيف تطورت؟ وما عنوان الدولة الحديثة؟ وكيف يقوم بنيانها؟ وما المعنى
الحقيقي للثورة؟ وما العلمانية؟ ولماذا أحاط بها كل هذا القدر من الجدل؟
في هذا الكتاب محاولة متواضعة لكنها صادقة للفهم ولرد الاعتبار إلى المعنى
الأصيل لعدد من المفاهيم السياسية التي يتعذر بدونها فهم الواقع من حولنا، ناهيك
عن تغييره أو تطويره. يركز الكتاب على ثلاثة مواضيع رئيسية، هي الدولة والثورة
والعلمانية، وهي مواضيع يضم الحديث تحت ظلالها بطبيعة الأمور نقاشاً عن الدولة
والمجتمع والدين والسلطة والتاريخ والهوية والثبات والتغيير؛ أي قضايا تشكل في
مجموعها جزءاً كبيراً من واقع الحياة السياسية والاجتماعية للشعوب العربية. كما أن
النقاش عبر صفحات الكتاب كثيراً ما تفرع منها وتشعب متطرقاً إلى عدد آخر من
القضايا المهمة.
حين نمضي في هذا الدرب بتمعن وتؤدة، ستجلو
أمامنا شيئاً فشيئاً حقيقة الكثير مما يحيط بنا في حياتنا من تفاصيل يومية كانت
قبلاَ لا تستوقف أنظارنا، وستنكشف طبيعة العلاقات التي تربط بين أشياء كنا نظن
سابقاً أن لا رابط بينها، وسنرى العالم على اتساعه من منظور جديد. ومن يدري؟ لعلنا
ندرك بعد بعض من الوقت أن لوجودنا معنى مختلف وغاية مغايرة عما كنا نتصور.
مهما اعتراه من مشقة أو صعوبات، فإن الانشغال بهذا النوع من الكتابة إنما هو، في تقديري، واجب يجدر بالمثقفين أداءه في الممر القصير العابر بين سنوات
الإبداع ولحظة العبور إلى الضفة الأخرى. لعل هذا الكتاب - مرايا السراب: تفكيك
الوعي السياسي العربي - يمثل إضافة تسهم مع ما سبقها وما سيلحقها من كتابات في
إجلاء الوهم وكشف النقاب عن أوجه من الحقيقة طال مرقدها تحت التراب.
أشكركم جميعاً جزيل الشكر وليكن الحوار دوماً
موصولاً والرأي مسموعاً والخصام مقطوعاً.
د. نايل شامة
No comments:
Post a Comment