Wednesday, June 4, 2014

في رحاب الدولة العربية الفاشلة


لا يملك المرء إلا التأمل المشدوه إزاء انتشار من يطلقون على أنفسهم لقب "الدولجية" (نسبة إلى الدولة) في عدد من الدول العربية في الآونة الأخيرة. الدولجية هم أولئك الذين يؤمنون بمؤسسة الدولة، بدورها المهيمن وسلطاتها الواسعة، وهيبتها التي لا ينبغي أن يشوبها شائبة، وقانونها الذي يجب أن يسود على الجميع. الدولة في نظر هؤلاء كيان مرادف للوطن، يرمز له ويلتصق به، حتى لا يكاد يبين الفرق بينهما. ومن ثم فهي كيان مقدس، يسمو فوق مستوى النقد، ويتنحى بعيداً عن مساحات الاختلاف السياسية والأيديولوجية. بالنسبة إلى هؤلاء، فإن منتقدي الدولة إما جهلاء أو عملاء، أما المدافعون عنها فجنود بواسل في معركة مقدسة. تبجيل الدولة هذا ولد بالتبعية ولعاً برجل الدولة القوي الذي سيدحر الغزاة، ويعيد الأمجاد، ويفجر أنهار اللبن والعسل الدافقة.  
بيد أنه يغيب عن هؤلاء أمران أساسيان. أولهما أن مفهوم "الدولة" السياسي مختلف كلية عن معنى الوطن. قالوطن أرض وشعب وحياة وروابط وانتماء، أما الدولة فمحض مؤسسة، قوامها نظام سياسي وجهاز إداري وإطار تشريعي، تحتمل جميعها الصلاح أو السوء، ومن ثم فلا قداسة أو حصانة لها. أما الأمر الثاني والأهم فهو أن الدولة في الوطن العربي لا تستحق مثقال ذرة من تبجيل، إذ ليس في سجلها سوى صفحات متوالية من الإخفاقات والانكسارات وجر أذيال الخيبة. تغير الكثير في العالم منذ مولد الدولة العربية الحديثة في منتصف القرن العشرين. صعدت البشرية إلى الفضاء، وانكشف سر الجينوم البشري، وانتشرت الحاسوبات والهواتف المحمولة، وهرول العالم باتجاه إقامة نظم ديمقراطية تعددية، فيما ظلت الدولة العربية كما هي: كيان متصلب مهتريء، يعيش متخشباً خارج العصر وإن رفع شعاراته، ويعلق فشله على مشجب الآخر، ثم يعتمد على أدوات القهر للحفاظ على وجوده. 
فشلت الدولة بداية في معركة الاقتصاد والتنمية، فاعتمدت اقتصاداتها على الريع والمساعدات الخارجية والخدمات، عوضاً عن الانتاج والتصنيع والابتكار. ورعت تلك الاقتصادات الهشة بنياناً أفعوانياً ضخماً من شبكات الفساد واقتصاد المحاسيب ورأسماليات "تسليم المفتاح" (القائمة على خصخصة المشاريع العامة)، ما أفضى إلى التخلف الاقتصادي، وشيوع الفقر والبطالة، واستدامة الاعتمادية على الخارج. ونظرة سريعة على تقارير التنمية الإنسانية الصادرة عن الأمم المتحدة تشي بقتامة الصورة الكلية، فالناتج المحلي الإجمالي للدول العربية كافة أقل من نظيره في اسبانيا، أما إجمالي الصادرات غير النفطية لكل الدول العربية فأدنى من إجمالي صادرات فنلندا (وهي دولة تعدادها نحو خمسة ملايين نسمة). بغياب التنمية، انتشرت أحزمة الفقر على ضفاف المدن الكبرى – كالقاهرة وبيروت والجزائر – وفي مناطقها المهمشة البعيدة عن اهتمام المركز وخططه وموارده. من أحد تلك المناطق خرج بائع متجول يقاسي شظف العيش وجور السلطة، مشعلاً النار في نفسه ومفجراً انتفاضات الربيع العربي في 2011م.       
فشلت الدولة العربية أيضاً على امتداد المسافة من المحيط إلى الخليج في إفامة نظام سياسي يصون الحريات والحقوق الأساسية، ويحترم الكرامة الإنسانية وتكافؤ الفرص. فصارت إسرائيل تتشدق بأنها "واحة للديمقراطية" في صحراء متخمة بأنظمة سلطوية، لها برلمانات شكلية، وأحزاب ضعيفة، وقوانين صورية، وأبواق زاعقة، والكثير من المعتقلات وقوات مكافحة الشغب. نمت وازدهرت وتمددت في الوطن العربي الدولة السلطوية، ممارسة ومنطقاً وأسلوب حياة. ومن رحمها خرج حكام صاروا في التاريخ الإنساني نماذج في الهوس بالسلطة وجنون العظمة، كالقذافي وصدام حسين وبشار الأسد. ولذلك بزغ مفهوم "الاستثناء العربي" في الدراسات الديمقراطية، محاولاً تفسير لماذا شذت دولة الإقليم عن التيار، وتخلفت عن موجات الديمقراطية العالمية الثلاث.    
ثم فشلت الدولة العربية خارجياً بامتياز، وانكشف وهنها وهوانها أمام تفوق وتنظيم الآخر. تجرعت الدولة مرارة الهزيمة تلو الأخرى أمام إسرائيل (بإستثناء الأداء المميز للجيشين المصري والسوري في حرب أكتوبر، ولحزب الله في 2006م)، وفشلت في حماية أشقائها من الهجمات الإسرائيلية المتتابعة (العراق في 1981م، وتونس في 1985م، ولبنان في 1982م و2006م، وقطاع غزة في كل السنوات). ثم فشلت مجدداً في نصرة الدول العربية في نزاعاتها الحدودية مع الدول غير العربية (كجزر الإمارات الثلاث، ولواء الاسكندرون السورى، وسبتة ومليلية المغربية). انهار مفهوم الأمن القومي العربي على عقبيه، ولم يعد يعني الكثير في وطن عربي تبدلت خرائطه، وتشكلت عبر مسامه طرقاً نفذ منها الجيران وجيران الجيران. بل عجزت الدولة العربية حتى عن إدارة تناقضاتها الداخلية، فتفاقمت الصراعات الإثنية والمذهبية بداخلها، ومشاهد الحرب الأهلية المفزعة في سوريا (ومن قبلها في العراق والسودان ولبنان) ليست في حاجة إلى تذكير. اغتصبت فلسطين، واحتل العراق، وانشطر السودان، وتمزق الصومال، وتفجر لبنان، فيما المدافع ساكنة والميكروفونات هادرة.  
الفشل في مواجهة الآخر على الصعيد الأمني والعسكري صاحبه قصور مطبق في سد الفجوة العلمية والتكنولوجية مع الدول المتقدمة. فهوس الدولة بالسيطرة رافقه إهمال، وأحياناً ازدراء، للعلم، ما أدى لانخفاض مستوى التعليم، وشيوع نمط ثقافي متهافت بائس، يكرس للاستبداد ويكبح الابتكار. وفي عدد براءات الاختراع المسجلة في العشرين سنة الأخيرة من القرن العشرين في الولايات المتحدة خير دليل، ففي مقابل أكثر من 16000 اختراع من كوريا الجنوبية، حظيت مصر مثلاً بسبع وسبعين براءة اختراع فقط. كذلك ففي الوطن العربي ثاني أعلى معدل أمية بين أقاليم العالم الجغرافية (بعد إقليم جنوب الصحراء)، أما الكتب المترجمة إلى العربية في العام الواحد فلا تزيد عن خمس الكتب المترجمة إلى اليونانية (على رغم أن سكان اليونان يجاوزون الأحد عشر مليوناً بقليل). على أغصان شجرة الجهل السامة ولدت طامة التطرف، والتي ما برحت تقوض بنيان الأمة الفكري وسلامها الاجتماعي، وتحول بينها وبين الالتحاق بالعصر.           
فعن أي دولة يتحدث المتعبدون في محراب الدولة؟ عن ذلك الكيان السلطوي المهتريء الذي أضاع الأرض وأورث الفقر ونشر ثقافة الجهل ورسب في المعارك كافة داخلياً وخارجياً؟ أم عن دولة أخرى يتمنونها في مخيلتهم لكن لا دليل البتة على وجودها على أرض الواقع؟ 

د. نايل شامة
* نُشرت هذه المقالة بجريدة الحياة (بتاريخ 1 يونيو 2014).

 

No comments: