Thursday, June 19, 2014

الدولة الأمنية والمجتمع الأمني في مصر

  

يقال في التراث العربي إن "الناس على دين ملوكهم"، فصلاح الحاكم يصلحهم وفساده يفسدهم، ويقال أيضاً نقيض تلك العبارة: "كما تكونوا يولى عليكم"، أي أن نظام الحكم ما هو إلا مرآة عاكسة للشعب وشخصيته وخصائصه الثقافية، ومن داخل هذا الإطار طرح الفيلسوف مالك بن نبي مفهوم "القابلية للاستعمار"، والذي يفضي إن مُد على استقامته إلى فكرة "القابلية للاستبداد" عامة. أياً ما كان الأمر فإنه مما لا شك فيه أن ثمة علاقة جدلية تربط بين الحاكم والمحكوم، فكلاهما يؤثر في الآخر ويتأثر به، ليتشكل من دينامية تفاعلاتهما البيئة الحاضنة لهذا أو ذاك التوجه السياسي، والسلوك الإنساني، والمسار الحضاري.    
الوضع في مصر اليوم خير مثال على ذلك التفاعل بين السياسي والمجتمعي، فثمة إحساس طاغ بالحرب غُرس وسُقي في ردهات السلطة، فاستشرى وتوغل بين جنبات المجتمع. تحليل مضمون تصريحات المسئولين سيكشف على الأرجح أن أكثر العبارات تداولاً على ألسنتهم هي "المؤامرة" و"الخطر" و"الأمن القومي". أما وسائل الإعلام المساندة للدولة فاستعاضت عن باحثي العلوم السياسية والاجتماعية بطوفان ممن يشار إليهم بحسبانهم "محللين أمنيين"، وهم ضباط أمن سابقون يدرك أغلبهم السياسة من منظور أمني، ويتحدثون في شئونها على الهواء كما كانوا، على ما يبدو، يثرثرون عنها مع مرؤوسيهم قبل التقاعد. ثم إن الحرب التي تخوضها الدولة المصرية ليست فقط مع الجماعات الإرهابية التي ترفع السلاح وتقوض الاستقرار، بل مع الجميع: مع العالم الذي يترقب ويناقش، ومع الصحافة التي ترصد وتنتقد، ومع شباب تنعي بكائياته ضياع الحلم وانطفاء جذوة الثورة.
انهماك الدولة في قرع طبول الحرب أدى إلى قيام مجتمع ذي حس أمني عال، يرصد المخاطر، ويتحسب لكل كلمة أو هفوة لعلها تخفي ورائها خطراً أو تهديداً عظيماً. سادت لذلك أجواء التربص والارتياب، والخوف من "الآخر"، وبزغت النزعة إلى التفتيش في النيات، وممارسة العقاب الجماعي. والشاهد أن الدولة لم تكتف بحشد المواطنين في معاركها تحت رايات المصلحة القومية وحب الوطن، بل شرعت (ولو ضمنياً) في تأليبهم ضد بعضهم بعضاً. يشير إلى ذلك بوضوح تعبير "المواطنون الشرفاء" الذي ظهر في مصر في أعقاب ثورة 25 يناير. والمقصود بهم أولئك الذين يأخذون على عاتقهم مساعدة الأجهزة الأمنية في القبض على المتظاهرين وتسليمهم للشرطة، بدعوى الحفاظ على الأمن وفرض الانضباط. بعبارة أخرى، هم مواطنون مدنيون انتزعوا لأنفسهم بمباركة أجهزة الدولة حق الضبطية القضائية، والقيام بدور الشرطة في مجتمع يضطرم بنير بالتوتر والانفلات والصراع السياسي. 
بالتزامن مع ذلك، يسود بين عموم المصريين تقدير وتمجيد نادران لرجال الأمن، ما يطرح كثيراً من علامات الاستفهام والتعجب. أولها يتأمل في ما تغير منذ يناير 2011م حين بلغ غضب المصريين من الشرطة مبلغاً دفعهم للثورة عليها ومهاجمة مقارها. وثانيها يتعجب من ذلك الإجلال الذي يتزامن مع استمرار زهق الدماء والتعذيب وسائر الانتهاكات. وثالثها يدهش من عدم قدرة المجتمع على غربلة ما يساق إليه من حجج، واستجلاء القيم منها من الرث.    
لقد تفاقم التشوش في خضم الإحساس بوطأة الصراع السياسي عقب عزل الرئيس محمد مرسي، إذ اختلط المعقول باللامعقول، وامتزجت المفاهيم في شكل يتعذر استيعابه، فصارت الهرطقة ديناً والإيمان كفراً. يتداخل في الفضاء العام زحام من الصور والروايات والحجج المباركة لقبضة الأمن الحديدية، لينتج صورة غائمة مموهة تتأرجح بين فضاءات العبث وابتهاجات الوهم وغوايات الأساطير. الأمثلة كثيرة ومتنوعة، ففي أجواء المجتمع الأمني المحمومة وُصفت حكومة رئيس الوزراء السابق حازم الببلاوي مراراً وتكراراً بأنها حكومة "الأيدى المرتعشة"، على رغم قيامها بإصدار الأمر بفض اعتصامات مؤيدي مرسي الذي أسفر في أقل التقديرات عن وفاة أكثر من 600 شخص في يوم واحد، وعلى رغم قيامها أيضاً بإصدار قانون التظاهر المثير للجدل، وإعتبارها جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية استباقاً لحكم القضاء. وعلى إحدى القنوات الفضائية المصرية انبرت مذيعة لتقول بملء الفم أن "الدولة البوليسية القمعية" كانت وستظل ضرورة لمواجهة الإرهاب. فيما قال إعلامي وصحافي ملأت شهرته الأفاق أن "النفاق مطلوب من أجل الوطن"، وقال صحافي آخر أنه يتشرف بكونه عميلاً لأجهزة المخابرات و أمن الدولة.     
تاريخياً، ظلت نظرة المصريين لرجال الشرطة مثقلة بالمشاعر السلبية والضعائن، وفي رواية "بداية ونهاية" للأديب نجيب محفوظ إشارة مستترة إلا ذلك، لكن شيئاً ما تغير في السنوات الأخيرة. لا يمكن إغفال تأثير الإلحاح الإعلامي على ذهنية الشعب، أو استبعاد الخاصرة الرخوة التي ينفذ منها الاستبداد دوماً لتقديس السائد وتسفيه التغيير: الغرائز البدائية، كغواية الأمل في تحسن الأحوال وعصا الخوف من المجهول.  
لتلك الأسباب وجاهتها، لكن الأمر ربما يتعدى ذلك. لقد استفاض المفكر باولو فريري (1921-1997) في كتابه الأشهر "تربية المقهورين" في الحديث عن "التجرد من الإنسانية" الذي يحدث لكل من القاهر والمقهور في ظل استدامة بنية القهر. يقول فريري أن المقهور المغمور في أغلال بيئة قاهرة لا يدرك حقيقة أنه مقهور على رغم بداهتها، وإن أدركها فهو يخشى الحرية لأنه ألف الاضطهاد وتكيف معه، وإن أدرك الحرية فقد يتحول إلى قاهر جديد، لأن ذلك المفهوم المشوه عن جوهر الإنسانية – القائم بالضرورة على وجود ثنائية القاهر والمقهور - ترسخ في أعماق عقله لدرجة يستعصي محوها. من هنا يمكن فهم لماذا يبرر بعضهم التعذيب مثلاً معتبراً إياه من طبائع الأشياء، أو يضمر الكراهية للتغيير (وبالطبع الثورة) ناظراً إليه في شكل لا واع كشر مستطير ينبغي وأده.      
الدول السلطوية ليست في حاجة إلى مواطنين، بل إلى مخبرين، يعاونوها على أداء مهماتها الأمنية، ويغضون الطرف عن انتهاكاتها، أو يبررونها إن لزم الأمر. أما المواطنون فمنقسمون لفئتين أشار إليهما بحذق وبصيرة الطبيب والكاتب الراحل مصطفي محمود (1921-2009) بقوله: هناك من يناضلون من أجل التحرر من العبودية، وهناك من يطالبون بتحسين شروط العبودية.   


د. نايل شامة

* نُشرت هذه المقالة بجريدة الحياة (بتاريخ 16 يونيو 2014).

No comments: